اخترنا هذه الصورة لمقال الصديق علي الأمين، وهي رسم لمقاومة “الصوريين” الباسلة ضد هجوم قوات الإسكندر المقدوني في العام ٣٣٢ قبل الميلاد! “الإسكندر” قرّر فتح “صور” لأنها كانت “العقبة الوحيدة أمام سيطرته على مداخل الشرق الأوسط و.. بلاد الفرس”! ويصف المؤرّخون غزو الإسكندر لـ”صور” بأنه “أول عملية برمائية في التاريخ”، قبل ٢٢٠٠ عام تقريباً من العمليات البرمائية التي ابتكرها الأميركيون في الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً ضد اليابان.
وطبعاً، اخترنا هذه الصورة (إضغط على الصورة لتكبيرها) إنسجاماً مع دعوة علي الأمين أهل صور لـ”المقاومة”!
شاطئ صور (أم “قرطاجة” التونسية، و”هانيبعل” العظيم) الذي شهد صفحات بارزة من تاريخ العالم “ثمّنه” البرابرة بمبلغ ٧٠ ألف دولار حقير!
هذا ما تسمّيه الشعوب المتحضّرة “جريمة ضد الإنسانية”!
وهذا زمن “البهدلة” لـ”صور” وللشعب اللبناني كله! “دولة القدّور” انتقلت من الشمال إلى الجنوب.. وإلى باقي أنحاء الجمهورية اللبنانية!
الشفاف
*
قبل ايام سرق مجهولون – معلومون – مدعومون كميات من رمول مدينة صور الجنوبية توازي 70 شاحنة رمل، من على الشاطىء الجنوبي للمدينة، بحسب المعلومات المنقولة عن مصادر امنية وعن مصادر في بلدية صور.
الغريب في الامر ان هذه السرقة تمت بعد ايام قليلة من التفجير الذي استهدف مطعم “تيروس” في المدينة، اي في ظل اجراءات امنية “عالية” يفترضها ويفرضها التفجير، خصوصا بعد تفجيرين سابقين قبل اسابيع قليلة.
لكنّ ظنّنا بالاجهزة الامنية والعسكرية كظنّنا بعقول المواطنين اللبنانيين عموما، لذا لا يصل بنا الحال الى تصديق ان سرقة هذه الكمية من الرمول تمت بغفلة عن عيون هذه الأجهزة، او أنّ هذا العدد من الشاحنات يمكن ان يتنقل من دون ان يلتفت احد اليه، وعلى قاعدة المثل القائل “حدث العاقل بما لا يليق فإن صدّق فلا عقل له”. لذا لن نصدّق والا سيصعب علينا الوثوق بهذه الاجهزة التي ننتظر منها، ليس كشف من يقف وراء سلب الرمول، بل كشف من وضع عبوة ناسفة في ليل دامس.
صور ليست الاستثناء. فصيدا، المدينة اللبنانية الوحيدة التي بقيت بمنأى عن الحروب الاهلية اوالصراعات الامنية او العسكرية الداخلية بين ابنائها طيلة فترة الحرب الاهلية، بدأت تشهد ظواهر جديدة وغير مسبوقة حتى في خضم الحروب الداخلية، أهمها الفلتان الامني الذي جعل ابناء المدينة يستشعرون غياب المظلة الامنية. فمن إحراق السيارات، ضمن مسلسل متنقل في ليل المدينة من دون توقف، الى ظاهرة المجموعات الملثمة والمسلحة التي تتخفى وتظهر في المدينة القديمة من دون ان يتم القبض على احد منها إلى غيرها…
وإن كانت القوى الامنية قد كشفت عن المسؤول عن وضع عبوة ناسفة مجهزة للتفجير في ساحة القدس امس، فإنّ مايثير القلق ادراج هذه المحاولة في اطار الخلافات الشخصية: فهل باتت الامكانيات لمثل هذا التفجير متاحة للافراد بعدما كنا نعتقد انها حكر على المحترفين من اجهزة معروفة وغير معلومة.
صيدا وصور ليستا استثناءين كذلك، فالعديد من المناطق باتت عرضة لعمليات سلب واعتداءات متزايدة، ما يعبر عن شعور لدى بعض المرتكبين بشيء من الحماية او الغطاء السياسيين، ما يجعلهم يقدمون على ما يرتكبون.
وما يجري في الشمال أيضا يعتبر موازيا، عبر انتقال عدوى مخالفات البناء والتعديات من الجنوب إلى هناك، حيث تشهد بعض احياء مدينة طرابلس نزوعا الى التعدي دون تهيّب أحد.
وفي البقاع حصل ما يوازي الجنوب والشمال، من خلال حادثة اختطاف رجل الاعمال احمد زيدان، وعملية اطلاق سراحه التي تمت بطريقة تدين السلطة قبل الخاطفين: فهل يعقل ان الاجهزة الامنية لم تستطع القبض على هؤلاء؟ علما ان ما تناقلته وسائل الاعلام على هذا الصعيد وما يتناقله المواطنون يشير بوضوح الى الخاطفين وهوياتهم، وهم ما يزالون يسرحون ويمرحون، معتّدين بأنفسهم بأن لديهم من يستطيع ان يحمي ارتكاباتهم ويعفيهم من اي مسؤولية.
ظاهرة العصابات المسلحة تتسلل الى حياتنا الوطنية بشكل مموّه وصارخ احيانا، باختلاف المناطق وخصوصياتها الامنية او السياسية. وفي هذا الصدد ينقل بعض المواطنين المقيمين في الجنوب ان ظاهرة مستجدة برزت منذ مدة غير بعيدة، تتمثل في قيام حواجز امنية في بعض الطرق بين القرى، يقوم بها مسلحّون يرتدون لباس الجيش اللبناني، وهم ليسوا من عناصر الجيش. هذه الظاهرة التي اكدها لي بعض المقيمين في قضاء النبطية، اذا صحّت، فهي تحمل في طياتها دلالات خطيرة كيفما ذهب التقدير في تحديد هوية هؤلاء.
الثابت في هذا التفسخ الامني ان السلطة السياسية تبدو متراخية في اتخاذ قرار حاسم حيال هذه الظواهر المنذرة بما هو اشد خطرا: إنهيار هيبة السلطة الرسمية والدولة بالكامل، وتحفيز الناس وتشجيعهم على البحث عن خيارات بعيدة عن الدولة ومؤسساتها بالكامل لحماية وتسيير مصالحهم وتحصيل حقوقهم البسيطة… وإلى تداعي الثقة بالدولة ثمة تمدّد للخصوصيات الامنية التي كانت متركزة في مناطق نفوذ حزب الله والمواقع الفلسطينية وبعض المخيمات، فإذا بها تنتقل الى حيّز الدولة – سابقا – التي صارت هي الخصوصية، والخروج على سلطتها واجهزتها هو القاعدة العامة.
وبخلاف مراحل بدايات الحرب، حين كان الخروج على سلطة الدولة يأتي من خارج مكوناتها السياسية عموما، يبدو اليوم ان مظلة هذا الخروج تأتي من داخل السلطة ومن بين مكوناتها. وما يؤكد هذا الواقع هو الغطاء السياسي الذي تستقوي وتحتمي به جهات خارجة على القانون. وغياب المظلة السياسية لقرار فرض الامن وضبطه هو سبب عجز القوى الامنية في صور عن فضح من سلب 70 شاحنة من رمولها…
صور: سيدة البحار، ومركز العالم التجاري سابقا، يسرق بعض الفئران رمول شاطئها نهارا جهارا، ويفجّر تجارتها وطاويط يخجلون من ضوء الشمس… صور تلك يعرّونها كعاهرة لا تستطيع الدفاع عن نفسها… صور لا تستحقّ كلّ هذا… لبنان لا يستحقّ كلّ هذا.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
جريدة “البلد”