في زمن بعيد مضى، في بيروت الحرب الأهلية، حاول موظفون في سفارة كوريا الشمالية تأمين حماية لمقر السفارة في بيروت الغربية، بعدما تعرّض لمحاولة “تخريبية” من جانب مجهولين، وأسوأ تجليات تلك المحاولة تهشيم الإطار الزجاجي لصورة الزعيم كيم إيل سونغ. تحدثوا عن تهشيم الإطار كحدث يوازي من حيث الأهمية والفداحة غرق سفينة في المحيط، أو اندلاع بركان في ضاحية سكنية.
كيم إيل سونغ هو الزعيم العظيم المحبوب من أربعين مليون كوري. وهذه ليست من بنات أفكاري، بل الصفة الرسمية اللصيقة باسم الرجل في كافة المطبوعات وكتب الدعاية والإعلانات الرسمية (وغير الرسمية على الأرجح) في كوريا الشمالية. وبعد وفاته اختُزلت صفاته نوعاً ما فأصبح الزعيم العظيم، ونال ابنه ووريثه في الحكم كيم جونغ إيل صفة الزعيم العزيز (أو المحبوب)، واليوم بعد وفاة الابن، ينال الحفيد كيم جونغ أون، الذي ورث الحكم بدوره، صفة الوارث (أو الخلف) العظيم.
حدث هذا ويحدث في دولة يقودها حزب حاكم باسم الطبقة العاملة، وتتبنى الماركسية، مع توابل أيديولوجية كورية وآسيوية، مستمدة على الأرجح من عبادة الأسلاف، والميراث الأسطوري القديم. فعلى الرغم من حقيقة أن الماركسية نظرية “علمية” إلا أن أجهزة الدعاية في كوريا الشمالية صاغت حكاية محلية عن مكان وتوقيت ميلاد الزعيم العزيز (أو المحبوب) بطريقة شبه أسطورية، فقد ولد في مكان على قمة جبل يحظى بالقداسة، ودلت عليه نجمة بزغت في السماء. واليوم تتكلّم أجهزة الدعاية الرسمية عن الولد، الحاكم الجديد، الذي لم ينه العقد الثالث من العمر، باعتباره مُنظّراً كبيراً، وخبيراً في الشؤون السياسية والعسكرية.
ما معنى هذا الكلام في العقد الثاني من ألفية وقرن جديدين، وإذا استخدمنا لغة ماكس فيبر: بعد قرنين من “نزع السحر” عن العالم؟
أود، هنا، الكلام عن أمرين:
أولاً، تبديد فكرة الاستثناء العربي. شهد العالم العربي في العقدين الأخيرين محاولات لإنشاء سلالات حاكمة في مصر وتونس والعراق وليبيا واليمن وسوريا، وكلها أنظمة انقلابية، أي جاء حكامها إلى السلطة على ظهور الدبابات. (حسني مبارك لم يأت على ظهر دبابة، لكنه كان امتداداً لثورة يوليو الناصرية، وزين العابدين بن علي لم يأت على ظهر دبابة لكنه كان امتداداً لنظام بورقيبه، ومارس أقاربه دور السلالة الحاكمة).
وكلها، أيضاً، أنظمة تبنت بهذا القدر أو ذاك شعارات راديكالية مساواتية واشتراكية ورفعت شعارات تقدمية في وقت من الأوقات. وقد تم القضاء على كل تلك المحاولات بسبب الاحتلال الأميركي، الذي أطاح بصدّام وأولاده، والثورات الشعبية في مصر وليبيا وتونس واليمن، التي أطاحت بالحكّام وأولادهم وأقاربهم.لم يبق، عملياً، سوى النظام السوري، وهو الوحيد الذي تمكّن من نقل السلطة من الأب إلى الابن، لكن اندلاع الثورة الشعبية في سورية يقلل من فرص آل الأسد، الذين نجحوا في إنشاء أوّل جمهورية وراثية عربية، في البقاء.
بيت القصيد في وجود النموذج الكوري الشمالي ما ينفي الاستثناء العربي، بمعنى أن ما حدث لدينا لم يكن حكراً علينا، بل تكرر في مناطق أخرى من العالم. وفي هذا ما يحرّض على التفكير في الميراث السلطاني والعثماني والمملوكي في العالم العربي، فهذا الميراث ما يزال حياً، وقد جدد نفسه وجُدّد له في أنظمة الطغاة والانقلابيين.
ثانياً، في الجمهورية الوراثية، خاصة إذا كانت شيوعية من طراز كوريا الشمالية، أو قومية تقدمية ومُقاوِمة ومُمانِعة من طراز سورية الأسدية، دلالات تراجيدية صريحة وفصيحة، وهي مأساة بالمعنى الإغريقي للكلمة. في المأساة الإغريقية يصارع الكائن قدراً صنعته أهواء الآلهة، لذا يبدو الصراع في جانب منه عبثياً تماماً، فما الفائدة من مجابهة قدر صنعته الأهواء، وتحددت نتيجته سلفاً؟ ولكي تصبح هذه الأسئلة جدية تماماً، وبلا جدوى تقريباً، يكتمل شرط المأساة كلما تخللته عناصر كوميدية سواء.
في الكلام عن القائد العظيم والزعيم العزيز (أو المحبوب) والوارث (أو الخلف) العظيم، المُنظّر والمفكر الكبير، الذي لم يتجاوز العقد الثالث من العمر، عناصر كوميدية، وفي وجود جمهورية وراثية تتبنى الماركسية وتحكم باسم الطبقة العاملة عناصر كوميدية. وبالقدر نفسه في الكلام عن “أسد إلى الأبد” و”بنحبك” وعن “الله وسورية وبشّار وبس” التي يرد عليها الوارث السوري بطريقة مسرحية “الله وسورية وشعبي وبس” عناصر كوميدية لا تخفى على اللبيب أو البليد.
في جماهيرية العقيد، في تفاهة أولاده، وثيابه الغريبة، وكتابه الأخضر، وهبله السياسي عناصر كوميدية، وفي دموية صدّام حسين وجنون أولاده عناصر كوميدية، وفي سلوك على عبد الله صالح وطريقته في الكلام والمراوغة، وفي هروب بن علي من تونس، ووجود حسني مبارك وأولاده وثلاثة أرباع حكومته في القفص أمام القضاء عناصر كوميدية.
في هذه الأشياء، وغيرها الكثير، عناصر كوميدية سوداء، ففي خلفية المشهد الكوميدي يجوس موت في الشوارع، ويسيل دم، ويُذرف دمع، وتُجهض أحلام، وتضيع أعمار، وتتكاثر سجون. في خلفية المشهد يموت ما بين عشرين وثلاثين من السوريين في اليوم لأنهم سئموا من الذل.
وفي خلفية المشهد النموذج الكاريكاتوري القطري، حيث لا انتخابات ولا برلمان ولا أحزاب، بل عائلة تملك دولة تتكوّن من مائتين وخمسين ألف نفر، تدعم الثورات الشعبية والإسلاميين، تُحالف الأميركيين وتحابي الإسرائيليين والمجاهدين وتشتري المونديال، وتُنظم السباقات والندوات والمؤتمرات عن صراع وتحالف الحضارات.
الكوميديا السوداء شرط من شروط المأساة الصافية. هذه بعض دلالات المشهدين العربي والكوري الشمالي، وتصلح، أيضاً، كلما كان الكلام عن العظيم والعزيز والوارث، وكلهم زعماء، كبراهين إضافية على مكر التاريخ.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com