في التحذير من الفتنة السنية – الشيعية، أو الفتنة الاسلامية – المسيحية، تتساوى جميع الرموز السياسية والدينية وسواها في الصوت والنبرة، وان افترقت في السلوك والاسلوب. حتّى أولئك الذين يندفعون باتجاهها يبرّرون اندفاعتهم هذه بـ”منع الفتنة” او لجم مخاطرها. وفي ثقافة الفتنة لا يمكن تنزيه فئة عن التورط في ازدراء التمايز والتنوع وتجذيره في الحياة العامة، أو عن الاعلاء من عصبيات الانتماء التقليدي واستنفاره الى حد التنابذ.
يحضرني هذا الكلام، انا المواطن اللبناني الجنوبي العربي المسلم الشيعي العَلماني، المعتزّ بهذه الدوائر من الانتماء ولا أجد فيها اي تناقض بل تكامل وتفاعل انساني منتج ومثر. واذا كان في هذا القول شبهة الأمنيات، فإنّها بتقديري أيضا تعبّر عن قناعة بأنّ الأديان والمذاهب والانتماءات الجغرافية والإجتماعية دوائر غنى في أيّ مجتمع، ويمكن أنّ تتحول الى نقمة اذا اسرتها قيود العصبية القبلية وخسرت فرص تفاعلها الانساني المنتج.
لا اريد ان اتوغل في ثقافة الفتنة التي يجري تسويقها في اكثر من موقع، لكن يصعب ان يدّعي احد في لبنان، خصوصا اولئك الممسكون بزمام السلطة ومكاسبها، انهم ابرياء من التورط في تحفيز الفتنة واستحضارها وقت الحاجة. خصوصا ان المتشبثين بالسلطة اجادوا بقوة العصب المذهبي او الطائفي ان يستمروا ويبقوا في السلطة او يصلوا اليها.
من اليسير والمتاح ان يذهب الشيعي اللبناني اليوم الى اتهام جهات سنية بالتورط في استثارة الفتنة المذهبية، وأيضا من السهل غير الممتنع على اللبناني السني ان يذهب في اتهام جهات شيعية بالتورط في استثارة هذه الفتنة. ويمكن القياس على ذلك في الطوائف الأخرى. ولعلّ في هذا اليسر وسهولة القاء اللوم على الآخر وتنزيه الذات ما يؤكد ان استنفار العصبيات هو العملة الرائجة ما دام ان خروج السني على سلطة الطائفة يعرّضه غالبا الى الملاحقة والحصار، فيما خروج الشيعي على سلطة الطائفة يعرضه حكما، بسبب خصوصية السلاح، الى الاقصاء او الاتهام بالعمالة للعدوّ، أو حتى إلى طرده من الوظيفة العامة، كما حصل مع مفتي جبل عامل السيد علي الامين في العام 2008.
هذه كانت وتستمر رسالة الى كل من تخوّله نفسه الخروج على العصبية، كي يتوقّع مثل هذه النتيجة واكثر. لذا يحسن على القيادة التي تقول انها لا تمثل الطائفة، الا تتصرف بعقلية انها هي الطائفة واتلطائفة هي. ويمكن عدم الاقتصار على هذا المثال الصارخ. فبالإنتقال الى المتهمين بالعمالة للعدو، ومنهم الشيخ حسن مشيمش والسيد محمد علي الحسيني، حيث كل المؤشرات، رغم تواطؤ بعض القضاة، تدلّ على ان المشكلة الجوهرية هي في خلاف سياسي معروف ومعلن ومشروع بين هذين الرجلين وبين حزب الله. فهل ازاء هذه الامثلة يمكن تنزيه سلطة الطائفة عن التورط في الفتنة وثقافتها؟ وهل هذا السلوك إلا تعبير عن ان التنوع داخل الطائفة امر مرفوض ومحارب ويجب ان يخمد؟ ثمة حجج وذرائع شتى يمكن ان تبرر هذا السلوك غير المبرر، ولكن بالتأكيد فإنّ التبرير يكشف عن أنّه، أيّا كان مطلقه، يقوم على فكرة ان العصبية المذهبية هي الاهم وتتقدم على ما عداها.
السلطة السورية المستفزّة “علويا” هي التي سمحت باستفاقة “سنيّة”
إزاء كل ذلك، فمن يقوم بنيانه الاجتماعي والسياسي والفكري والعقائدي والعددي على اساس مذهبي وديني، لا يحقّ له أن يمنع على بعض السوريين المذهبيين ان يطالبوا بحقوق السنة في مواجهة اقلية علويّة ممسكة بزمام السلطة. واذا كانت هناك بعض الفضائيات التي تنمو على استنفار العصب المذهبي، فيجب الاقرار ان هذا الواقع موثّق وموجود عند الشيعة والسنّة، وهو ما سمعه من زار شيخ الازهر الشريف قبل أشهر، إن من حزب الله أو من تجمع العلماء المسلمين وغيرهم.
على ذلك يجب الا يستغبي احدٌ احدًا عندما يغيّب حقيقة ان طبيعة النظام السوري المعروفة هي بحد ذاتها، وفي معزل عن استبدادها، سلطة مستفزة طائفيا، وتتحمل وحدها تقريبا مسؤولية ظهور الاصوات المثيلة لها طائفيا في المقلب الآخر، رغم أنّ ذلك، في ظني، لا يمكن ان يختصر او يسم ثورة السوريين اليوم.
في الختام يمكن لكلّ إنسان أن يرى فيما يلي ما يشاء:
ثمة حزب واحد (إسلامي سياسي كبير) في لبنان يدّعي أنّه يهدف إلى وحدة المسلمين، لكنّه يضع في اولويات شروط الانتساب اليه الشرط المذهبي ويمنع على اي مسلم من مذهب آخر الانتساب اليه ولو كان مقاوما: هل في هذا محاربة للمذهبية والفتنة؟
alyalamine@gmail.com
* كاتب لبناني
البلد