وضعت هذه الدراسة قبل أيام من إنتخابات تونس، ويبدو أن النتائج الأولية للإنتخابات تؤكّ صحة توقّعاتها. لكن ما تغفله معظم التحليلات المتعلقة بتونس وغيرها هو دور “التمويل القطري” ودور محطة “الجزيرة” الممسوكة من “الإخوان المسلمين” في التأثير على نتائج الإنتخابات. أحد الإسئلة هو: من قام بتمويل مكاتب “النهضة” التي قال أحد مسؤوليها أنها ستفتح مكاتب “في كل زنقة” في تونس؟
الشفاف
*
“إن حزبا إسلاميا معتدلا يحكم بصورة ائتلافية مع علمانيين من شأنه أن يقدم لتونس فرصة معقولة لديمقراطية حقيقية”.
سوف تجري تونس هذا الأحد أول انتخابات ديمقراطية ناشئة عن هذا الفوران السياسي الإقليمي في هذا العام، وبهذا ستختار مجلسا تأسيسيا جديدا ذا تفويض مبهم التعريف لحكم الدولة وكتابة دستور جديد في غضون عام. وسيصبح حزب النهضة الإسلامي –الذي يقوده حاليا رمز المعارضة الذي نُفي طويلا وهو راشد الغنوشي رغم تعهده بالتقاعد قريبا- على الأرجح أكبر فصيل في المجلس التشريعي.
وتشير استطلاعات الرأي المنشورة إلى أنه يحصد دعما بنسبة 25 بالمائة بينما ترجح بعض الاستطلاعات الخاصة أنه يمكن أن يفوز بنسبة 40 بالمائة أو أكثر من مقاعد المجلس الجديد.
غير أن الحزب الديمقراطي التقدمي العلماني الذي على يسار الوسط ويقوده المعارض الداخلي المخضرم أحمد نجيب الشابِّي سوف يأتي على الأرجح في المرتبة الثانية بنسبة من 15 إلى 20 بالمائة. وبالتأكيد ستظفر تشكيلة يتكون معظمها من الأحزاب العلمانية الصغيرة أو النواب المستقلين ببقية المقاعد مما سيترك المجلس بدون وجهة واضحة لكن سيجعل به فسحة كبيرة للوصول إلى تسويات براجماتية حيال قضايا رئيسية. ولو ثبتت تلك الإسقاطات فإن بعض المطلعين يتوقعون على نحو مقبول أن يشكل النهضة ائتلافا حاكما مع حزب التكتل الوسطي العلماني الأصغر ومستقلين متنوعين.
الفساد والمشكلات الاقتصادية هما بيت القصيد
رغم تركيز معظم التغطية على الجوانب السياسية أو الفنية لهذه الانتخابات الفاصلة إلا أن استطلاعا سابقا غير منشور أجراه مركز استطلاعات بيتشر التابع لبرينستون في أيار/ مايو 2011 يكشف بعض الاتجاهات الأساسية في الشعور الشعبي الذي سوف يشكل على الأرجح نماذج التصويت في نهاية هذا الأسبوع. والأهم أن أغلبية التونسيين الذين شاركوا في الاستطلاع قد رأوا أن أول أولويات الحكومة الجديدة ينبغي أن يتوجه إلى “تقليل الرشوة والفساد في الحكومة” و “الإدارة الجيدة للاقتصاد التونسي” (ما يقرب من 73 بالمائة لكل أولوية منهما). وثمة أولويتان أخريان ذواتي صلة –توفير المزيد من الإعانات الاقتصادية لــ”عامة التونسيين” وحمايتهم ضد الظلم الرسمي- وقد احتلا ترتيبا عاليا (64 و 60 بالمائة على التوالي).
وفي نفس الوقت ورغم سمعة تونس كمعقل للعلمانية العربية إلا أن أغلبية المشاركين (61 بالمائة) قد رأوا أن “التأكد من تدريس المدارس لقيم الشريعة للبنات والصبيان ” ينبغي أن يكون أولوية كبرى أيضا. وقال عدد مماثل (59 بالمائة) إن الحكومة الجديدة ينبغي ألا “تحمي حرية التعبير إلى الدرجة التي يُسمح فيها بالتعبير لأناس يقولون أشياء غير مقبولة أو سيئة عن الإسلام.” وهذه الآراء إلى جانب التنظيم الشعبي الفعال لحزب النهضة وسِجل المقاومة ضد النظام القديم إنما تساعد على تفسير الدعم المتفشي للحزب الإسلامي. وثمة عامل إضافي وهو أن الكثير من الأحزاب الأكثر علمانية معروفة بكونها متصلة بالاتحادات العمالية أو حتى الحركات الاشتراكية أو الشيوعية مما يدفع بعض التونسيين إلى رؤية النهضة باعتباره أفضل من ناحية العمل.
ومع هذا فإن لدى تونس بصورة عامة ثقافة تسامح. فرغم أن سكانها في الأعم الأغلب من السنة المتماثلين إلا أن ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع قالوا إن “غير المسلمين ينبغي أن تتوفر لهم حقوق متساوية في كل دولة بما فيها تونس.” وبالتأكيد قال الثلث إن الأولوية الأولى للحكومة ينبغي أن تكون هي “التيقن من أن كل تونسي مسلم مؤمن” فيما أكد الربع على منح علماء الدين والشيوخ “الكثير من النفوذ في النظام القانوني.” غير أن النصف كاملا قد أقر أنهم نادرا (15 بالمائة) أو لم يحدث قط (36 بالمائة) أن حضروا شعائر بالمسجد. وهذه العوامل سوف تكبح على الأرجح أية جهود لفرض الإسلام الأصولي على الدولة حتى لو ربح الإسلاميون نصيبا كبيرا من الأصوات واضطلعوا بدور بارز في الحكومة الجديدة.
محصلة غير مؤكدة
في تفسير محصلة الانتخابات ثمة عدد من المتغيرات المهمة التي ستتكشف لاحقا. فقد توقف الاستطلاع قانونيا في أواخر أيلول/ سبتمبر وفي ذلك الوقت كانت تعبيرات مثل “لا أدري” أو “لن أصوت” هي السائدة بما يمثل النصف الكامل لجمهور الناخبين. فأي من هؤلاء الناس سوف يفضل التصويت بالفعل؟ وكيف سيقررون توزيع أصواتهم؟ كلاهما سؤالان يحملان قدرا كبيرا من الغموض.
كما أن الأحداث الأخيرة التي لم تُضمَّن في أي استطلاع يمكن أن تغير المحصلة كذلك. على سبيل المثال فإن الشغب الذي قام به السلفيون في 14 تشرين الأول/ أكتوبر احتجاجا على فيلم “إلحادي” أجنبي بعنوان بيرسيبوليس ربما يكلف النهضة بعض الأصوات مثلما هو الحال بالنسبة لإعلانات الحزب التونسي العلماني المعادية للأصولية على قناة الجزيرة.
أصوات المغتربين يمكن أن تفرز مفاجآت
مليون ناخب تونسي يعيشون بالخارج – من بين العدد الكلي للناخبين وهو سبعة ملايين- يعتبرون عنصرا آخر لا يمكن التنبؤ به في هذه الانتخابات. والمدهش أن بعض المراقبين يقدرون أن هذه الكتلة الانتخابية ومعظمها في أوروبا سوف تميل باتجاه النهضة أكثر من التونسيين المقيمين في تونس.
والنظام الانتخابي نفسه بينما هو قريب من التمثيل التناسبي الخالص إلا أنه يمثل تعقيدا إضافيا. فالمقاعد البالغ عددها 217 بالمجلس مقسمة بين السبعة وعشرين دائرة انتخابية محلية وستة أخرى في الخارج بدلا من أن يكون هذا على المستوى الوطني. كما أن المناطق الريفية أو المدنية الصغيرة يتم منحها مقعد إضافي أو مقعدين. ونتيجة لذلك فإنه حتى لو فاز حزب معين بانتصار ساحق في مناطق معينة فإن هذه الأصوات “الزائدة” لن تُترجم بالضرورة إلى تمثيل أكبر في المجلس الوطني –أو بالعكس، فهذا التميز الطفيف في الكثير من المناطق يمكن أن يعطي حزبا ما نصيبا غير متكافئ من المقاعد مقارنة بإجمالي أصواته على مستوى الدولة.
والأهم أن وفرة قوائم الأحزاب الصغيرة والمستقلة تعني أن المحصلة الدقيقة غامضة على نحو عميق. فليست هناك عتبة في شكل نسبة مئوية على مستوى الدولة لدخول البرلمان، وبالتالي فإن تلك النوعية من الناخبين من المتوقع بشكل عريض أن تملأ ما يصل إلى نصف المجلس الجديد. غير أنه على مستوى المحليات يجب على الناخب أن يكسب تقريبا 30000 صوت لكسب مقعد، وهذا إنما يعتمد على عدد المقاعد المخصصة للمنطقة والحاصل المحلي. وعليه فإن بعض الفصائل الصغيرة ربما ينتهي بها الحال بنسبة أدنى بكثير من التمثيل المخطط له مُفسحة بذلك المجال للمنافسين الأكبر.
المرأة التونسية “إسلامية” كالرجال
لطالما رُؤيت تونس -وهذا صحيح- باعتبارها المجتمع الأكثر مناداة بحقوق الإنسان بين المجتمعات العربية وخاصة بالنسبة لحقوق المرأة القانونية والحريات الشخصية والتوظيف. وحتى في عهد ديكتاتورية زين العابدين بن علي على سبيل المثال اختارت وزارة الخارجية الأمريكية تونس لتكون ملتقى لمؤتمر إقليمي في 2005 عن تمكين المرأة. وبالنسبة لانتخابات الأحد فقد مأسست الدولة فقرة فريدة عن التكافؤ الدقيق بين الرجال والنساء مع ناخبين متناوبين من كل نوع على كل قائمة انتخابية.
وتتمتع مساواة المرأة بدعم شعبي واسع، ففي استطلاع بيتشر في أيار قال 58 بالمائة من الرجال التونسيين و 68 من النساء إن هذه القضية ينبغي أن تكون ذات أولوية عليا للحكومة الجديدة. بل إن النهضة نفسه قد صرح أنه لن يحاول التقليل من حقوق المرأة أو يفرض الحجاب. غير أن مسألتي تعدد الزوجات والتساوي في الميراث ما تزالان خاضعتين للنقاش في الحملة.
وفي نفس الوقت فإن المرأة التونسية وبشكل مدهش “إسلامية” مثل الرجل في بعض القضايا الرئيسية بل هي حتى أكثر منه قليلا. على سبيل المثال قالت أغلبية الجنسين (حوالي 60 بالمائة) إن الحكومة ينبغي أن تركز على تدريس قيم الشريعة، وعبَّر 44 بالمائة من النساء عن رؤية إيجابية جدا نحو الإخوان المسلمين مقارنة بنسبة 32 بالمائة من الرجال. والأهم في اللحظة الراهنة هو أن النساء قد تشابهن مع الرجال في أنهن في الأغلب سيُصوتن للنهضة.
السياسة الخارجية ليست قضية ذات بال رغم عدم شعبية أمريكا
في استطلاع بيتشر في أيار/ مايو عبَّر أغلب التونسيين (58 بالمائة) عن رؤية سلبية جدا تجاه الولايات المتحدة. وقد عبَّروا كذلك -وهي في الغالب ليست مصادفة- عن رؤيتهم السلبية أيضا تجاه قتل ابن لادن الذي كان قد حدث للتو. وبالمقارنة حصلت إيطاليا وفرنسا على ما بين 50 إلى 60 بالمائة من المعدلات الإيجابية. وقد كانت الرؤى تجاه إيران والسعودية مختلطة بشكل حاد، حيث إن الربع تقريبا قد أعطى كل دولة منهما درجات سلبية جدا فيما أعطاهما ربع آخر درجات إيجابية جدا. وفي نفس الوقت أعطى التونسيون كلا من إسرائيل و “حكومة القذافي في ليبيا” معدلات شديدة السلبية (94 و 97 بالمائة على التوالي).
غير أنه في ثورة كانون الثاني/ يناير التي أسقطت بن علي لم تلعب قضايا السياسة الخارجية تقريبا أي دور في المشهد السياسي التونسي الحالي. فلا شيء من الدول السابق ذكرها تبدو مهمة أو حتى قضية ثانوية في الوقت الذي يتوجه فيه التونسيون نحو الاختبار الفاصل القادم لنظامهم السياسي الديمقراطي الجديد.
دلالات سياسية
بالنظر إلى كون التونسيين لا يعيرون اهتماما كبيرا للولايات المتحدة في اللحظة الراهنة فإن ثمة القليل جدا الذي بوسع واشنطن فعله للتأثير على محصلة هذه الانتخابات التاريخية. ومع ذلك فهناك أشياء عدة يمكنها فعلها لكسب المزيد من الأصدقاء في تونس ومساعدة الدولة على أن تكون نموذجا يُحتذى في المنطقة لديمقراطية وظيفية. ولو وضعت انتخابات الأحد تونس على هذا الطريق بحزم أكبر –وهي المحصلة المتوقعة- فإن دعما سياسيا وماديا أمريكيا أقوى سيكون أمرا شديد الاستحسان حتى في ظل هذه الأوقات الاقتصادية الصعبة. وتحديدا فإن ترقية تونس من شريك “أولي” إلى شريك “متين” عند إصدار تصنيفات حساب تحدي الألفية ستكون استثمارا ممتازا في الاستقرار الإقليمي في الوقت الذي يتحول فيه الربيع العربي إلى خريف. كما أن إيجاد اتفاقية تجارة حرة سيضيف هنا قيمة أيضا. وكلما بقيت الأحزاب الحاكمة الجديدة في تونس في السلطة على نحو معتدل كما أعلنت في دعايتها الانتخابية كلما استحقت هذه الديمقراطية العربية الوليدة دعما أمريكيا قاطعا.
ديفيد بولوك زميل أقدم بمعهد واشنطن حيث يركز على الديناميكيات السياسية في بلدان الشرق الأوسط. وفي السابق، عمل كمستشار رفيع المستوى في مشروع “الشرق الأوسط الكبير” بوزارة الخارجية الأمريكية في عام 2002. وفي هذا المنصب، قدّم استشارات في السياسات المتعلقة بقضايا الديمقراطية والإصلاح في المنطقة مع التركيز بشكل خاص على حقوق المرأة.