تقديم
لعلكم تابعتم عبر الانترنت ووسائل الإعلام المختلفة تداعيات مظاهرة المثقفين السوريين التي خرجت يوم الأربعاء 13 تموز الجاري في منطقة الميدان بدمشق، ولأجل الحقيقة، ولأن المشاهد شاهد، كان لا بد توثيق ما حدث معنا خلال وبعد ذلك اليوم المشهود الذي أثار الكثير من التداعيات التي صبّت في النهاية في صالح الانتفاضة السورية، ولتطّلعوا عن قرب على سلوك هذا النظام ضد شعبه بمختلف أطيافه وتنوعاته، حتى يتبيّن من في عقله بعض من شك حقيقة ما يحدث في البلاد.
كان من المستحيل علينا – كمثقفين- أن نبقى مجرد مراقبين لما يحدث في الشارع من تنكيل وإذلال بحق الشعب السوري المنتفض لاستعادة حريته المسلوبة على مدى أربعة عقود متواصلة، المشهد المصبوغ بدماء الأطفال والشباب والنساء كان وما يزال قاسياً جداً، وقد حانت اللحظة التي بتنا نعتبر فيها دموعنا التي نذرف مجرد تبرير فاشل لعجزنا عن النزول لدعم انتفاضة شعبنا الحر.
كنت في كل يوم أرى السخط والألم في وجوه كثير من زملائي من كتاب وممثلين وصحفيين، الشعور الضياع والعجز كان هو السائد، الكل لديه الرغبة بفعل شيء لكنه لا يدري ما هو ، وكيف هو…بعضهم فضّل الاستمرار بالتعبير عن رأيه على الفيسبوك سواء بالتلميح أو التصريح، آخرون استسلموا لحزنهم وقهرهم ثم أشهروا استسلامهم فأغلقوا الأبواب على أنفسهم وعائلاتهم وقاطعوا الأخبار وانسحبوا، لكن ثمة منهم من قرر التحرّك فاندسّ في المظاهرات التي تخرج أيام الجمعة من المساجد، أسامة غنم كان الحالة البارزة مؤخراً، لكنني كنت أعرف الكثيرين من زملائي ومن مختلف الاهتمامات والطوائف ممن فعلوا ذلك، وحتى منذ بداية الثورة عندما كانت كالولد اليتيم…خرجوا وهتفوا، وركضوا وهربوا، وبعضهم أكل (اللي فيه النصيب)، ولمن لا يعرف فقد حان الوقت لنقول أن أكثر من 40 من خيرة الكتاب والصحفيين السوريين خرجوا في مظاهرة الأسبوع الأول للثورة السورية في الجامع الأموي بدمشق، وكنت سأذكر لكم أسماءهم لولا أنني أعلم حجم الضغط الرهيب الذي من الممكن أن يتعرضوا له، ولعلكم سمعتم ببعض ما جرى مع من وقعّوا على ما سمي بـ “بيان الحليب” لكن الذي لم تسمعون به أن كثيراً ممن وقّعوا عليه هددوا بأغلى ما يملكون لو لم يتراجعوا ويعلنوا التوبة على الشاشات، وسيأتي يوم وتعرفون حقائق مرعبة حول هذه الحادثة بالتحديد التي وصلت إلى حدّ التهديد بتصفية بعض الفنانين.
البداية:
تداعينا نحن مجموعة من المثقفين والفنانين والصحفيين للمشاركة بالمظاهرة التي أعلنت عبر صفحة “مثقفون لأجل سورية” والتي كان من المقرر خروجها في تمام الساعة السادسة من يوم الأربعاء 13 تموز الجاري، وقد كان نصّ إعلان هذه المظاهرة قوياً وذكياً جداً لجهة اختيار الزمان والمكان، بالإضافة إلى أن فيه نبرة تحدٍ كانت تكفي لأن تطيح بخوف البعض، وقد لاحظت أنه رغم قصر مدة الإعلان الذي ظهر قبل يومين فقط من التظاهرة إلا أن معظم الوسط الثقافي كان يتداوله باهتمام شديد، وخرج كثيرون ليعلنوا على الملأ مشاركتهم فيها رغم كل التحدّيات، وتبنّت الحدث تنسيقيات دمشق وريفها وروّجت للمشاركة به، كذلك بدأ الإعلام العالمي بالاهتمام به ونشرت العديد من الصحف ومواقع الانترنت الخبر، وقد تحدّثت معي إذاعة “مونتي كارلو” بشأنها قبل يوم من خروجها، وكذلك عدد من الفضائيات في صبيحة اليوم التالي، كل ذلك منح الحدث زخماً كبيراً، خصوصاً مع تأكيدات العديد من الفنانين والكتاب مشاركتهم بالتظاهرة التي كان الجميع ينتظرها طوال الأشهر السابقة.
في حوالي الساعة الخامسة والنصف من ذلك اليوم، استقلّيت برفقة أولاد حماي الممثلان التوأم ” محمد وأحمد ملص” السيارة في طريقنا إلى جامع الحسن بمنطقة الميدان بدمشق، سلكنا الطريق الواصل من ساحة باب مصلى حيث يقبع فرع الأمن الجنائي الذي عدنا إليه معتقلين لاحقاً، وكنت في هذه الأثناء أتواصل مع بعض الأصدقاء المشاركين لتحديد مكان ملاقاتنا، في الطريق إلى الجامع كنّا نلاحظ التواجد الأمني يزداد كثافة كلما اقتربنا، لكن حجم هذا التواجد تبّدا واضحاً حين وصلنا تحت جسر الميدان، المئات منهم كانوا بانتظارنا، بالإضافة إلى أعداد غفيرة من البلطجية الذين يحملون العصي والهراوات والذين افترشوا الرصيف تحت الجسر وهم يلوّحون بهراواتهم بتوتر، اقتربنا حتى وصلنا إلى أمام جامع الحسن حوالي الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، نزلنا إلى هناك، كان في الانتظار كل من الممثلة مي سكاف، والكاتبتان ريم فليحان ويم مشهدي، والمخرج السينمائي نضال حسن، والمصور فادي الحسين، والمصور الصحفي مظفر سلمان، والسينمائية ساشا أيوب، والمخرج الفني فادي زيدان، والحقوقية مجدولين حسن، والناشطة دانا بقدونس، والناشط وطبيب الأسنان بلند حمزة، والفنانة غيفارا نمر، والإعلامي مهند منصور، والناشطتان سارا الطويل ونور بوتاري، بالإضافة لي والتوأم ملص، كنا بالضبط 9 فتيات و10 شبان، ولم نكد ننتهي من تبادل السلام والتحية حتى تدافع إلينا من بعيد عدد من الضباط برتب عالية بينها عميدان وثلاثة عقداء، وخلفهم جموع من رجال حفظ النظام، ورجال الأمن المدرّعين، وحوالي 20 من الشبيحة ، لكننا لم نهرب كما كانوا يتوقّعون، بل لم نبرح مكاننا وتجمعنا وارتصصنا إلى جانب بعضنا بعضاً، وفي وجه كل منّا اشتعلت ثقة غريبة لم نكن نتوقعها حتى نحن، فاقتربوا مناً أكثر وأكثر وتحلّقوا حولنا كحبل مشنقة.
تقدم الضباط وسألونا من يمثّل المجموعة؟، تقدمت أنا ولحقني جميع زملائي دعماً لي، وقلت لهم بلهجة واضحة: “لا أحد يمثّل أحداً، كلّ يمثل نفسه” بدؤوا ينظرون إلينا بنظرة تحدٍّ، لم نأبه، طلب منا الضابط أن نتفرّق ونذهب فوراً لأننا لا نملك ترخيصاً بالمظاهرة، وقبل أن نجيب اندفع أحد الشبيحة وكان يلبس بنطالاً مموهاً وكنزة مطبوع عليها خريطة سورية تتوسطها صورة للرئيس وقال لنا بلهجة متحدّية مستفزّة: “جايين تخربوا البلد انت وياه” فأجبته: “جايين نعبّر عن موقفنا”، فردّ مباشرة: “وليش جايين قدام جامع الحسن… لإنن كلهن مجرمين…؟ أنا انضربت هون الأسبوع الماضي من الكلاب اللي طلعوا من الجامع” فأجبته بكل بساطة: “يعني واضح حضرتك ما بتصلّي فيك تقللي ليش إجيت عالجامع الأسبوع الماضي؟”
عندما قلت ذلك ارتعد الرجل وبدأ الشرر يتطاير من عينيه وتأهّب للانقضاض، كل ذلك حدث وسط صمت مريب ومباركة واضحة من الضباط، عندها اندفع فادي زيدان وساشا أيوب ويم مشهدي وقالوا للضباط،: “بصفتو شو عم يحكي معنا هاد؟”
فقال أحد الضباط للشبيح مشيراً بيده بالرجوع فرجع للخلف وذهب، لكن شبيحاً أخر تقدّم وهو يقول بلهجة متحدّية لمي سكاف ومشيراً لها بإشارة بذيئة جداً: “وقعتي على بيان الحليب مهيكي…بدك حليب…أعطيكي حليب؟؟” فتعالى صوته هو ومي سكاف الذي صارت تصرخ فيه “احترم حالك… نحنا سوريين متلنا متلك”، فيجيبها: “انتو سوريين يللي عمتحكوا عن جيشنا البطل اللي عمينقتل من هالعرصات”. وبدأنا جميعاً نصرخ مستنكرين، عندها تدخل أحد الضباط وأشار إليه بالصمت فصمت.
تابعنا الحديث مع الضباط، قلنا لهم إن المظاهرة لم تبدأ بعد، وأننا أتينا لنعبّر عن موقفنا بكل سلمية، وأن أشكالنا وهيئاتنا لا تدلّ على أننا سلفيون، فاغتاظ أحد الضباط وقال مهدداً بالحرف الواحد: “بتروحوا على رجليكن ولاّ منشوف شغلنا معكن…وانتو بتعرفوا شغلنا كيف؟”، فقلت للضابط: “ممكن لنعرف نحكي معك تبعّد هدلول اللي عميلوحولنا بالعصي قدامنا كإنهن حاملين قتّالة دبّان وجايين بدهن يقتلونا؟” فتوسعت عيناه دهشة وردّ بعصبية: “عمتقول قتّالة دبّان…عمتقول قتّالة دبان؟!!” (لم أعرف حتى اللحظة لماذا استفزّه هذه الكلمة رغم أنها تسيء إلينا لا لهم) فأجبته بسرعة: “شكلك يا سيادة العقيد واضح بدك تفتعل مشكلة”، ولم أكد أكمل جملتي حتى عاد الشبيح الأول ومعه العشرات من أمثاله وكان بينهم فتيات أشباه رجال وكنّ بشعات ومفتولات العضلات، وكان الجميع يلبسون نفس لباس زعيمهم، والتصقوا بنا وبدؤوا يهتفون بتحدّي “الله سورية بشار وبس” نظرنا في وجوه الضباط فلم نرَ فيها أية معالم تدلّ على أنهم يرفضون ما يحصل، فالتفتّ إلى زملائي ومباشرة انطلقنا نهتف بأعلى صوتنا “الله سورية حرية وبس” وكأنها كانت صافرة الهجوم، وفجأة بدأ الهرج والمرج واندفع إلينا عناصر الأمن بكل عنف وهمجية وبدؤوا يقبضون علينا والضباط يصرخون ” هاتوا الباص…هاتو الباص” التمّ على كل منّا أكثر من 5 أشخاص وسحبوني لي أولاً ثم محمد ملص ثم أحمد ملص ثم البقية وجرّونا تحت جسر الميدان باتجاه الباص، أحد الذين مسكوني قال لي وهو يكزّ على ساعدي بعنف “بدك حرّية؟…هلأ مندوقك طعم الحرية بضيافتنا ” قلت له: “بدي الحرية إلي وإلك” فردّ بغضب:”كول خرة”وهمّ ليضربني لولا أن أتى من الخلف عنصر آخر وهو يصرخ “قال العميد لا حدا يضربهن هون” فخفض يده مغتاظاً وتابع جرّي بعنف مع ثلاثة آخرين، في هذه الأثناء سمعت محمد ملص يصرخ من الخلف “الله أكبر…يا أهل الميدان… يا أهل الأشمر” فقام من يمسكوه بشدّ الشال الذي يلبسه على رقبته وكادوا يخنقونه، وقد رأيت بياض عيني محمد وهو يحاول عبثاً تنشّق بعض الهواء، وكاد يسقط أرضاً قبل أن يحلّوا الشال عن رقبته أخيراً….كان الهرج والمرج والصراخ يعمّ المكان، ومع وجود جسر الميدان فوقنا كانت الأصوات ترتدّ لتبدو مهيبة، رغم هذا الجو المهيب فقد كنت أراقب كل شيء لأنني أعلم مسبقاً أنني سأخرج لأكتبه، قررت التصرّف كصحفي يجب أن يكون دقيق الملاحظة، نظرت إلى البنايات المطلّة على الشارع فوجدت الجميع على الشرفات ينظر إلينا بأسف واضح، وثمة امرأة في العقد الخامس من عمرها تلبس ثوب الصلاة كانت تضع يدها على فمها رعباً وباليد الأخرى كانت تضرب بعنف شديد على حديد البرندة أمامها، صدقوني رغم ما بي فقد خفت أن تكسر يدها لأنها كانت تضرب بعنف شديد دون أن تشعر.
في هذه الأثناء جاء الباص من بعيد وتوقف بعنف في عرض الشارع الذي كان شرطي المرور قد قطع السير فيه، وبدؤوا بدسّنا في الباص وهم يشتمون ” بدكن حرية يا ولاد الشر….؟”، في هذه الأثناء يقذفون بأحمد ملص وكان رأسه ينبع بالدماء التي ملأت وجهه، وكانت ثيابه ممزقة، وأجلسونا فوق بعضنا كعلبة سردين، باص مخصص لـ 12 شخصاً جلوساً وضعوا فيه حوالي العشرين، علماً أن هذه المساحة الضيقة كانت مقسومة بساتر حديدي على شكل زنزانة داخلية.
بالنسبة لمي سكاف كانت الوحيدة التي لم يقبضوا عليها، ربما لأنها فنانة ووجهها معروف، لكن مي كانت تركض وراءنا وتصرخ على عناصر الأمن “لك وين آخدينن…وين آخدينن…يخرب بيتكن هدلول سوريين…هدلول سوريين” إلى أن وصلت إلى الباص ودخلت عن طيب خاطر وصعدت وهي تنظر إلينا برعب إلينا كأم، هذا ما أستطيع أن أصف به وجهها حقاً، كان أحمد ملص ينزف بشدّة الكل أخذ يناوله المناديل، لكن الدكتور بلند اهتم به بشكل خاص ووضع المنديل على رأسه وضغط عليه طوال الطريق.
أغلقوا الباب الحديد علينا وانطلق الباص، بدأنا ننظر إلى بعضنا وكل منا يطمئن على الآخر، لم يكن أحدنا يشعر بأدنى خوف، كنّا قلباً واحداً وقد أزعجهم هذا كثيراً، في هذه الأثناء أحنيت رأسي تحت المقعد واتصلت بزوجتي علا ملص وأخبرتها بالتفاصيل أولاً بأول، رغم أنهم قالوا لنا مهددين أن أغلقوا الموبايلات، وكانوا يريدون سحبها منّا لولا أن المكان مزدحم جداً.
الناشطة مجدولين وهي محامية أخذت تصرخ: “بأي حق آخدينا….هاد انتهاك للقانون؟”، فيجيبها ضابط برتبة رائد: ” ما تحكي عالقانون وانتو خرقتوا القانون؟” فتردّ عليه مجدولين: “هلأ هدلول اللي كانو عميهتفوا بشار معهن ترخيص..، على مين عمتضحك؟؟” فقال لها أحدهم: اخرسي، فردّت عليه : “ما بسمحلك…احترم حالك” فصمت فعلاً، كنّا كلّنا مغتاظون، نظرنا لبعضنا وبدأنا بالإنشاد “حماة الديار عليكم سلام…أبت أن تذلّ النفوس الكرام” ولأنهم لا يستطيعون قول “اخرسوا” على إنشاد النشيد الوطني صاروا يصرخون: “خلص اسكتوا….اسكتوا حنوصل”، لكننا لم نسكت وأكملنا النشيد، ثم بدأنا نتحدّث عن البقية الذين كانوا سيأتون إن كانوا سيخرجون بالمظاهرة أو أنها انتهت على هذه الحال وكفى ، هذا ما كان يقلقنا فعلاً…أن لا تخرج المظاهرة.
بعد قليل وصلنا إلى فرع الأمن الجنائي بباب مصلىّ بدمشق، حيث كانت البنادق الروسية تطلّ من كل مكان، وكأنها تنتظر عدواً كاسراً يريد الهجوم عليها……سأتوقّف هنا اليوم
يمكن مشاهدة فيديو الاعتقال وإصابة أحمد ملص على الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=QZW0rfJeCFo
* كاتب سوري
ثلاثة أيام في الاعتقال (1)
بصراحة لسا ماشفت أتفه من الممثلين السوريين والاتفه هو كاتب هالمقال
لوكان عندكم ضضمير كنتم ساعدتم برجوع الامن والمان للبلد بدل من زيادة الطين بلة الله لا يرضى عنكم آمين
ثلاثة أيام في الاعتقال (1)
نحن او أنا من هؤلاء الصامتون الخائفون
ولا نعرف ماذا نفعل لم تعد تجد مواقف الانترنت ولا البيانات
نريد أن نفعل شيء لوطننا
خائفون نعم ولكننا غاضبون وغاضبون
اشد على ايديكم