في ضوء ثبات العرف السياسي الكويتي الراهن على موقفه، والقاضي بأن يكون منصب رئيس الوزراء من أسرة الحكم – في ظل موجة الاستجوابات البرلمانية الموجهة ضد رئيس الوزراء الشيخ ناصر المحمد، من أجل استبداله برئيس وزراء آخر من أسرة الحكم، أو من خارجها – فإن قواعد اللعبة السياسية البرلمانية، الجديدة، لا شك ستسير تحت سقف هذا العرف. ما يجعل أدوات اللعبة واضحة المعالم، حيث تنقسم بين مسعى تغيير الشيخ ناصر المحمد وبين مسعى عدم تغييره، بدلا من أن تستند إلى أصول اللعبة السياسية القائمة على احترام الديموقراطية روحا وأسلوبا، وهو ما أدى إلى طرح صورة جديدة للاستجوابات، صورة تعبر عن إفراغ متعمد وواضح للمحتوى والموضوعية، صورة تشير إلى اختفاء لعبة “الاختلاف” السياسي وصعود نجم “الصراع” السياسي حول بقاء أو عدم بقاء رئيس الوزراء في منصبه.
وهذا التفريغ من شأنه أن يؤثر في كامل الدستور الكويتي ويساهم في تفريغه أيضا، لأنه سيؤثر في مجمل صور احترام القانون في المجتمع، وسيكون تأثيره متجها بالذات صوب دور مجلس الأمة الرقابي والنقدي والتشريعي، خاصة وأن النواب أصبحوا منقسمين راهنا إلى فريقين، فريق مؤيد لاستمرار الشيخ ناصر المحمد في منصبه، وفريق معارض، فيما المحتوى المنوط بموضوع الاستجوابات وبمسألة مراقبة ونقد السياسات الحكومية الداخلية والخارجية وبالأمور التشريعية فإنها باتت خاضعة لأدوات اللعبة السياسية الجديدة، التي يمكن تسميتها باللعبة المهددة لمستقبل الديموقراطية والمعرقلة لمجمل طموحات التنمية، لأنها أصبحت تستند إلى قواعد مصلحية بحتة جدا بدلا من أن تستند إلى قواعد اللعبة الديموقراطية الصحيحة.
لقد كانت صورة الصراع السياسي بين الحكومة ومجلس الأمة في فترات سابقة ترتسم في إطار ضرورة عدم صعود رئيس الوزراء منصة الاستجواب، وتم اتهام ما يسمى بـ”نواب الصراخ والتأزيم” بأنهم وراء الإصرار على صعود الشيخ ناصر المحمد المنصة، وبالتالي اتهامهم بأنهم وراء كامل الأزمة السياسية في البلاد، وهو الأمر الذي افتقد للمصداقية. وبعد ما صعد الشيخ ناصر المنصة، برزت قدرة الحكومة في ضمان الأصوات التي تحقق هدفين رئيسيين لا تريد التنازل عنهما: سرية الاستجوابات، وضمان حصول رئيس الحكومة على الأصوات الكافية التي تنقذه من أي طرح للثقة. مما يعني أن مادة الاستجوابات والقضايا المطروحة فيها ضاعت في متاهة عملية “الإنقاذ السياسي” للشيخ ناصر المحمد.
إن تاريخ الصراع السياسي في الكويت، بين الحكومة وبين التجمعات السياسية، أو بين السلطة والمعارضة، لم يكن أسلوب “الصراخ” أو وسيلة “التأزيم” أحد مكوناته. بل إن “النهج” الحكومي في إدارة البلد هو سببه باستمرار، والذي كان ولا يزال لا لون له ولا طعم، ولا يمكن معرفة توجهه ولا مساره، ولا علاقته بالديموقراطية. بل إن صور الصراع الراهن، سواء تعلّق بصعود أو عدم صعود رئيس الوزراء منصة الاستجواب، أو في تحويل جلسة الاستجواب إلى سرية، أو في التصويت لصالح تأكيد الثقة بالشيخ ناصر المحمد، جميعها تشير إلى أن أساس اللعبة السياسية قد تحوّل من التركيز على قضايا البلد إلى التركيز على شكل الاستجوابات، وأصبح الصراع منصبّا على “شخص” رئيس الوزراء.
إن جميع مجالس الأمة التي تم حلّها، وجميع الأزمات التي حدثت بين السلطة والمعارضة، لم تنحصر أسبابها في أسلوب “نواب التأزيم والصراخ”، بل انحصرت وتنحصر في عوامل تقع تحت العنوان التالي: “ضيق صدر السلطة والحكومة من الديموقراطية كمفهوم ونهج وممارسة وأطر وشروط”. ولعل أبرز تلك الشروط ما يندرج تحت عنوان الحرية والمساواة والمراقبة والمحاسبة وتداول السلطة، المكفولة جميعها في الدستور.
فحرية المراقبة والمحاسبة والنقد وضرورة المساءلة والتغيير وتداول السلطة، هي أسباب رئيسية تحاصر الأزمة السياسية في الكويت. وقد أرادت الحكومة أن تمارس تكتيكاتها للهروب من المحاسبة والمساءلة والتغيير، وهو تكتيك مشروع في لعبة السياسة وصراع الديموقراطية، لكن الحكومة تعلم جيدا بأنها تمادت في استخدام هذا التكتيك، مما جعلها تصطدم بروح الديموقراطية وتعرقل استمرار آلياتها على الوجه الصحيح. لذا، هي تعي جيدا بأن تكتيك عدم صعود رئيس الوزراء إلى المنصة قد فشل، وقد تمت الاستعانة بتكتيك الصعود مع ضرورة إنقاذ الرئيس من طرح الثقة استنادا إلى الأصوات النيابية المضمونة، وعدم الالتفات إلى قضايا المساءلة والمحاسبة التي تعتبر أهم بكثير من صور التصويت. فالكثير من الحكومات التي تعيش في إطار الديموقراطيات العريقة، سوف تستقيل بمجرد مواجهتها للمشاكل وإحراجها بصور الفساد والتعديات، فما بالك إذا تم استجوابها وطرح الثقة فيها.
لقد ساهمت مخرجات ثقافة المراقبة في أن تجعل الموقف الحكومي في الضد مما جاء في الدستور من حثٍ على المساءلة والمحاسبة والنقد والتغيير، وهو ما ساهم ويساهم في توتير العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ويدخل البلاد في أزمات متتالية، مما قد يجعل أحد طرق الحل أمام الحكومة هو الإصرار على مخالفة أحد أهم أسس النهج الديموقراطي وهو تداول السلطة، أو تداول رئاسة مجلس الوزراء، ما يؤدي إلى عرقلة تطور الديموقراطية بل تطور مجمل الحياة.
لذلك، من الطبيعي أن تسير الأمور السياسية إما إلى استمرار الاستجوابات، وانتصار رئيس الوزراء عليها اعتمادا على أصوات النواب الذين باتوا يسمون بنواب الحكومة، أو إلى استقالة الحكومة، أو حل مجلس الأمة، مع بقاء الأزمة السياسية والاقتصادية على حالها، ما يجعل صورة الوضع السياسي أمام أمرين: إما القبول بالديموقراطية بجميع شروطها والمكفولة بالدستور، أو استمرار الأزمات وتعطّل حركة الإصلاح والتطوّر والتنمية. وبالتالي فإن سبب الأزمات يكمن في الواقع في الإصرار على استخدام آليات الديموقراطية وأدوات الرقابة الدستورية من أجل كشف ملابسات أخطاء الحكومة وممارسة دور نقدي واضح وشفاف.
فضعف أداء الحكومة وعدم جديتها في معالجة الكثير من المفاسد وترددها في إنجاز العديد من المشاريع الاستراتيجية التنموية، يحسب ضدّها ويجعلها المسؤول الأول عن استمرار الأزمةالسياسية في البلاد. فأكثر من مراقب للوضع السياسي يشدد على أن أداء الحكومة ضعيف، وأنها تفتقد لبرنامج عمل, وتتخوف من الاستجوابات، وتسعى إلى تأزيم الوضع السياسي بمجرد صعود قضية الاستجوابات إلى السطح. فهناك إصرار حكومي على تشكيل صور التأزيم الراهن وفق مقاييسها الخاصة، وأحد تلك المقاييس هو رفض الاستجوابات، وبالذات ضد رئيس الحكومة، ورفع سقف التعسف في تطبيق القانون ضد كل من ينتقد الحكومة ورئيسها والوزراء ولو جاء ذلك على حساب الديموقراطية، مما يؤشر إلى ضيق صدر الحكومة من موضوع النقد ومن حرية التعبير، وخشيتها من الدور الشعبي المعارض لها.
ssultann@hotmail.com
* كاتب كويتي