وسط غابة اللافتات التي نبتت في سماء المناطق الشيعية في لبنان مهنئة قوى 8 آذار خاصة، واللبنانيين عامة، بتشكيل الحكومة، ثمة لافتات أخرى تتفوق عليها عددا و تنافسها مدحا و تمجيدا وتقدم الشكر والإمتنان ومعاني الإفتتان، للخطوة الوطنية الجبارة التي قام بها رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري بتخليه عن مقعد وزاري مطوّب باسم حركة أمل الشيعية من أجل انقاذ البلد! البلد الذي كان حتى ساعات قليلة قبل تخلي الرئيس الوطني عن احدى ملكياته الخاصة مهدداً بالضياع و الخراب!
بعض هذه اللافتات يستدعي الكثير من الإنتباه ويستحق أكثر من الإهتمام نظرا للغة التعظيم والتبجيل وحتى التأليه الغالبة على معانيه!
إحدى اللافتات المتكررة أكثر من غيرها في المدن والبلدات الشيعية تصف دولة الرئيس نبيه بري بأنه “لولا الهاء في آخر اسمه لكان نبيا“. في إشارة إلى “فعلته” الوطنية الفريدة التي حسم بواسطتها الخلاف على الأسماء والحقائب، وذلّل العقبات، وسهّل مخرج الحكومة الذي ظل متعسرا حتى ساعة الإيثار والفداء! فاستحق بذلك، عن جدارة، لقب “المنقذ من الضلال”- بالإذن من الشيخ الجليل أبي حامد الغزالي.
ويكيليس الأخبار “فركة أُذّن”!
منذ فترة قصيرة تكاد تقارب الشهرين، كان الرئيس بري ترك فجأة قصر “عين التينة” في بيروت وأغلق هواتفه النقالة والثابتة واعتصم في قصره الجنوبي في “مصيلح”، منقطعا عن كل وسائل الإعلام ووسائط الإتصال. كان الرئيس بري
مستاءً من جريدة “الأخبار” لنشرها، أسبوعا بعد أسبوع، معلومات ووثائق سرية عن لسان مقربين من الرئيس وعناصر في حركة أمل تكشف تورطهم، بمعرفة من رئيسهم، بالتآمر على المقاومة.
كانت جريدة “الأخبار” ما تزال محسوبة على فريق الممانعة والمقاومة. واعتبر الرئيس حينها أن الحملة التي تشنها الجريدة الممانعة ما كانت لتتم لولا إذن مسبق من قيادة حزب الله، ولمس في تلك الحملة نوعا من الإستهداف أو الإنقلاب الذي يطاله شخصيا ويطال حركة أمل، فاعتكف في قصره الجنوبي ريثما يتم اسكات الجريدة.
إلى أن حسم أمين عام حزب الله الجدل وطالعنا بخطابه الشهير الذي اعاد فيه الإعتبار للرئيس المطعون في نواياه، وعادت المياه إلى مجاريها.
المسرحية التي أعدها حزب الله، و نشرت فصولها جريدة “الأخبار” وأنهاها الأمين العام، كان مقصدها في ذلك الوقت توجيه إنذار علني ومباشر إلى الرئيس بري، و”فركة أُذُن” قاسية ومتعمدة للرئيس المتلون المشكوك دائما بولائه وصفاء نيته، وتنبيهاً للنبيه الشيعي أن كل أوراق لعبه على الحبال مكشوفة. فليكف عن الغدر واللعب بالنار والطعن بالظهر! وقد كشفت من جانب آخر عن طبيعة العلاقة المهتزة او المهترئة التي تلازم الثنائي الشيعي منذ تكوينه.
المناطق الشيعية المختلطة الولاء والموزعة بين طرفي الثنائية الشيعية لا تحتاج إلى عين نافذة لرؤية عمق الإستياء، واتساع دائرة التشكيك، وفقدان الثقة المتبادل بين الجهتين. فمهما كان التوافق السياسي قد بلغ مداه، لا يستطيع أن يردم الهوة المتباعدة بين الطرفين، اللذين يخبئان تحت رماد اتفاقهما نار الخلاف التاريخي المستعرة دوما بينهما.
ويبدو أن عنصر الكيمياء السياسي لا يستطيع الجمع بين هذين الطرفين مهما بلغت التضحيات. ولولا شماتة القوى اللبنانية الأخرى والوضع الإقليمي الدقيق، إضافة إلى بعض الضرورات الطائفية، لكان الدم بينهما سال أنهاراً، كما يؤكد متابعون. فالأحقاد والثارات بينهما ما زالت على حالها، وما زالت تغذي ذاكرة كل فريق منهما. فلا ينسى أتباع حزب الله حين كانت حركة أمل في أوج مجدها واضطهدتهم، كما لا يغفر أنصار حركة أمل كيف سحب حزب الله بساط المجد من تحت أقدامهم.
محمد جواد خليفة مدير أعمال السيدة رندة بري!
بالعودة إلى “فِعلة” الرئيس الوطنية، أُشيعَ أن الرئيس بري كان يعاني حالة اختناقٍ شديد من الفيتو الذي وضعه حزب الله على كل من الوزيرين السابقين محمد خليفة وياسين جابر. فالأول هو مدير الأعمال الخاص للسيدة بري والأثير لديها من بين طاقم السياسيين المحيطين بالرئيس! والثاني أحد الممولين الكبار لخزائنها!
لكن موقف حزب الله بعدما كشفته “الأخبار”كان واضحا وحاسما في عدم تسميتهما.
بري أراد، وعلى عادته، الخروج من المأزق بعمل بطولي ينتقم بواسطته من حزب الله ويسرق منه الوهج. فسمّى أولا مساعده علي حسن خليل وزيراً، وهو عضو مكتب سياسي في حركة أمل، بينما خليفة وجابر ليسا منظمين في الحركة إنما من أنصارها. ثم تخلى بكرمٍ غير معهود عن مقعد وزاري يخص حركة أمل والطائفة الشيعية، لصالح الطائفة السنية الكريمة، منصّبا نفسه بطلا على عرش التشكيل بلا منازع، ملقنا حليفه درسا لا ينسى في تقديم التضحيات.
كما استحق لذلك اتصالا هاتفيا خاصا من الرئيس بشار الأسد.
بري، الذي وصفته إحدى اللافتات بأنه “ملك التشكيل” والرئيس “العابر للمناصب”، أنقذ بخطوته العظيمة نظامين وليس نظاما واحدا: نظام “المقاومة” في لبنان، ونظام “الممانعة” في دمشق، كما يحلو لأنصاره التعبير.