السعي لطرح رؤى تبحث في تغيير الفهم الديني ليتعايش في الحياة الجديدة، يفتقد إلى وجود حقيقي في الكويت. وأهمية هذا المسعى تنبع من أنه قادر على مواجهة التيار الديني الأصولي ذي التفسير التاريخي الذي يسعى لتذويب الشخصية الراهنة في الماضي وتحويلها إلى شخصية أصولية تاريخية مناهضة للحداثة ولا مبالية تجاه القيم الجديدة.
فكريا، وعلى الصعيد العالمي، أخذ الخوض في موضوع التغيير مداه، حيث ظهرت دراسات نقدية لمواجهة الأصولية التاريخية، وخرجت مناهج تفسيرية بديلة، وتم طرح رؤى حديثة ساهمت في تحويل الخطاب الديني بتفسيره التقليدي إلى رؤى متوافقة مع الحياة الحديثة، حافظت بل ودافعت عن الجانب الأهم في الدين، وهو الجانب الروحي الأخلاقي، والذي يعتبر ضعيفا عند المدارس الأصولية التاريخية، بسبب تركيزها على الجانب الفقهي المؤسس لرؤى سياسية واقتصادية واجتماعية فحسب، كما دعت الرؤى الحديثة إلى فصل العقل الديني عن العقل الطبيعي، حيث أخذ الأخير مجاله واستطاع أن ينطلق إلى آفاق بعيدة في التطور والتقدم والإبداع، فيما قبع العقل الديني في موقعه التاريخي دون قدرة على إحداث حراك حداثي.
كويتيا، سار الأمر ولا يزال في صالح الأصولية وفي اتجاه مناهض لقيم الحرية والديموقراطية والتعددية والمساواة واحترام حقوق الإنسان. فجميع الأطروحات الدينية هي أطروحات لا تمت لإنسان الحاضر ولا لقضاياه بصلة. والكثير من التشريعات المتبناة من قبل التيار الديني هي إضافات تشريعية من أعداء الحرية والمساواة تنتهي إلى تجريد الحياة من فحواها الحداثي السياسي والاجتماعي. وتجربة الحقوق السياسية والاجتماعية للمرأة الكويتية ليست الأولى والأخيرة الدالة على محاربة الحرية من قبل أعدائها في برلمان يتحمّل نوابه المنتخبون مسؤولية سن قوانين لتشريع مزيد من الحرية.
وفي عدد من الجمعيات التعاونية، أثبتت تجربة هيمنة عناصر الإسلام السياسي على مجالس إداراتها، والذين جاء أعضاؤها أيضا عن طريق الانتخابات، أنها لا تمانع من فرض “ضوابط شرعية” على العاملات فيها من موظفات وكاشيرات. وتتمثل تلك التجربة في إجبار تلك العاملات على لبس الحجاب (لم تعترض الدوائر الرسمية على ذلك)، لكن ما ان تنتهي هؤلاء من عملهن الرسمي حتى تراهن يرمين غطاء الرأس ويتجهن لممارسة حياتهن الخاصة دون التزام بـ”الضوابط” والحجاب. وهذا إنما يبرهن بأن هدف القائمين على الجمعية ليس التأكيد على الوازع الأخلاقي بتأصيل ما يسمى بـ”بالستر”، والذي يفترض أن يكون نتيجة للبس الحجاب، بقدر ما أنه يكشف عن صراع نفسي يعيشه القائمون على الجمعية لتنفيذ “حكم شرعي” ليس إلا، وتعبير عن عدم الحرص على تحقيق “الستر”، خاصة حينما نجد بأنه ليس من شروط العاملات لبس الحجاب بعد انتهاء عملهن الرسمي. فالهدف من كل هذا “اللف والدوران” هو تطبيق مفهوم “الضوابط” المنطلق من العقل الديني، حتى لو جاء ذلك على حساب الإدراك الضيق للمفهوم والمتمثل بلبس الحجاب، وعلى حساب قيم الحرية والمساواة الواردة قوانينها في الدستور الكويتي. فالعملية برمتها ليست إلا لتثبيت “مظهر ديني” وليس لتحقيق هدف أخلاقي. وهو باعتقادي هدف لا يختلف عليه أصحاب “الضوابط ” سواء في مجلس الأمة، أو في الجمعيات التعاونية، أو في البيوت تجاه الأم والأخت والبنت والخادمة، فهي جميعها “ضوابط” تناهض الحرية والمساواة وتنطلق من العقل الديني.
فالضوابط ليست إلا مسعى يعبّر عن تفكير ذكوري نابع من تفسير أصولي تاريخي للدين، وقد استمد فهمه من شكل الحياة الإسلامية القديمة التي كان فيها التمييز الشديد ضد المرأة حالة حياتية طبيعية، بل حالة عادلة، وهو ما أفضى راهنا إلى معاداة حقوقها السياسية والاجتماعية التي اختلفت وتطورت حتى أصبحت في الوقت الراهن حقوقا طبيعية أيضا.
إن السبب الرئيسي في عدم قدرة الأصولية الكويتية على التعايش مع الحياة الجديدة، بقيمها ووسائلها، أنها تستند في أطروحاتها الفكرية إلى مبدأ يناهض العديد من القيم، كالتعددية. فالحقيقة الدينية بالنسبة إليها هي حقيقة يقينية، حقيقة واحدة لا يمكن أن تتجزأ إلى عدة حقائق وفق تعددية الأفهام، وتسير في إطار رؤى جازمة ومعلبة تجاه مسائل الحياة وقضاياها، وتستطيع طرح حلول لكل المشاكل وفي أي فترة زمنية، وبالتالي لا مجال أمامها لقبول التعايش مع الرؤى الأخرى المغايرة والمنافسة، كما لا مجال لإخضاعها لحركة النقد والمحاسبة والمساءلة على اعتبار أن منطلقاتها غير بشرية بل منطلقات سماوية مقدسة مرتبطة بما يسمى بصريح النقل، وما لا يتوافق في تفسيرها التاريخي مع صريح النقل سيصبح في الضد منه وفي خانة المعصية المؤدية إلى الفسق والفجور بل والكفر والشرك.
إن افتقاد وجود مسعى حقيقي في الكويت يهدف لتغيير التفسير الديني الأصولي التاريخي، يرجع إلى عدة أسباب، أهمها باعتقادي يتمثل في عدم وجود ظروف قانونية واجتماعية تؤكد استمرار عمل القائمين على التغيير الديني وتضمن عدم تعرضهم للملاحقة والإلغاء والتكفير والتهميش والطرد الاجتماعي من قبل أنصار”احتكار الحقيقة” ومهندسي “الضوابط الشرعية” وأعداء القيم الحديثة. وذلك لا يعني وقف جهود التغيير، إنما يعني ضرورة التسلح بسلاح الدستور، والركون إلى جهود مؤسسات حقوق الإنسان، وذلك للمضي قدما في هذا الطريق، بوصفه الطريق القادر على انتشال المجتمع من الوصاية الفكرية والاستبداد الديني.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
المضي قدما في التغيير
لا يتم التغير والنهوض واعطاء الحريات والدمقراطية الحقيقية والتقدم الفكري والثقافي والاجتماعي ..الخ كأي دولة غربية الا بفصل الدين عن الدولة واعلان الدولة دولة علمانية .وغير ذلك انسى الموضوع