وأنا أقرأ الأعداد المبكرة أو المتأخرة من مجلة «الهلال»، المخصّصة لجمال عبد الناصر، يلحّ عليّ سؤال: ماذا لو قرأتُ هذه الأعداد قبل شهرين من الآن؟ قبل اندلاع موجة الثورات العربية، هل كانت ستختلف هذه القراءة؟ هل كنتُ سألحظ الاشارات أو العبارات نفسها؟ هل كنتُ سأهمل اشياء، أو أستهزىء بأشياء، أو أسخر من أخرى؟
خذْ ثلاثة أمثلة، مجرّد أمثلة على ذلك:
ـ يكتب أحدهم انه، بعد ان قامت ثورة 23 يوليو العسكرية عام 1952، كثيرٌ من المواطنين من جيل ثورة 1919 ممن كانوا لا يزالون على قيد الحياة، «حمدوا الله كثيرا انهم عاشوا ليشهدوا على أعمال الثورة«.
ـ يتابع كاتب آخر ان الشباب المصري أيّد الثورة، والسبب «ان إزالة الملكية (واحدة من إنجازات هذه الثورة) هي معركة جيلهم، كسَبها بضربة واحدة فريق منهم، هم ضباط القوات المسلحة الثائرون«.
ـ معظم الأفعال الواردة في الأعداد المبكرة تصرف بالمستقبل: «سنقاتل، سننظّم، سننشىء، سنبني، سننتصر… الخ«.
بوسع كل منا ان يتخيّل كيف كانت ستمر عليه المعاني الواردة في متن العبارات، لو بكّر قليلا بقراءتها. والمؤكد ان القراءة سوف تكون مختلفة.
فالآن، في هذه اللحظة النارية من تاريخنا الحديث، في هذه اللحظة التاريخية، فعلاً لا خطاباً، لا بد ان تستوقفني العبارات: كمْ من شاب فوق الخمسين لم يحمد ربه انه شاهد على ثورات اليوم، وانه لو مات الآن، فسوف يموت سعيدا. من أين تأتي هذه المشاعر بالذات؟ هل في الثورات عودة لثورات أخرى؟ هل الثورات علبة باندورا الذاكرة؟ تعيد حامل خمسيناته، أو ستيناته… وحتى تسعيناته، إلى تجربته الثورية السابقة، الفاشلة او الناجحة، بحسب رأيه؟ في حالتنا، عاد الكهول إلى ثورة 1919، الظافرة في حينها، والتي تآكلت بفعل الزمن. وفي حالات اخرى، حالات الثورات المنظور اليها على انها فاشلة، تأتي الثورة الجديدة لتعيد الحياة إلى البهجة السياسية، لتوسّع مدى المستقبل الذي تقلّص في أواخر الأيام. نحمد الله اننا «عشْنا وشفْنا»، فرح أناني، ينسى الاموات الذين لم يروا، يهمل قلق التفاصيل الثورية المنغّصة، ينجرف نحو الاطمئنان إلى مستقبل ثوري؛ شيء من السعادة صنو الحرية المشتهاة.
الفكرة الثانية عن الشباب: أليس من البديهي ان يكون أبطال الثورة هم من الشباب؟ هل نتصور ان الذين تجاوزوا الشباب واستقروا ودخلوا في الآلة الطاحنة لأنظمة الكسب والاعتراف والمكانة وفقدوا فيها روحهم وحيويتهم، وربما صحتهم… وإن سخطوا، فهل بوسعهم ان يقوموا بما يقوم به شباب فائض الطاقة والحرية والبراءة والأمل؟ شباب من دون ذاكرة ثقيلة متسكّعة؟ ثورة الضباط الاحرار كانت أيضا ثورة شباب، عندما كان السلاح يجمع وينظّم. اما وقد أخذ مكانه «الفايس بوك»، فان ثورتهم اليوم هي ثورة شباب «الفايس بوك». هل يسمّون الثورات «ربيعا» بسبب قيادتها الشبابية، وبعثها الحياة في قلوب الكهول؟
تصريف الأفعال: الانفتاح على المستقبل من سمات الثورات. فهي مبادرة في التاريخ، تولد لتسجل فعلها في التاريخ، لتسير به قُدُما. قبلها، الأفعال تصرف في الماضي من أجل الركون أو التعويض، أو الهروب، أو الأوهام. فيما أفعال الحاضر بطيئة، متوترة، محبَطة، كسولة. هذا لا يعني بأن الماضي والحاضر غائبان عن الثورات. انهما موجودان، ولكن غالباً لخدمة المستقبل.
ولكن الثورات مبهجة في لحظة وقوعها فقط. اما بعدها، فرتابة ثورية وإسقاطات على المستقبل يسهل اصطيادها بعد حين. مثلاً: بعد سبع سنوات من قيام الثورة، خُصِّص أحد أعداد «الهلال» لتصوُّر «حالة الامة عام 2000»، أي بعد 41 عاما. الصيغة التي تدير الاجابات تجدها في مقال شبه افتتاحي، يقول فيه الكاتب: «قصة عام 2000 اذا كتبتها في تلك السنة ستستمد حوادثها من صميم التقدم الذي تصل اليه البشرية في تلك السنة». فيكون تخيّل مجمل المقالات لعام 2000 على المنْوال نفسه: الجيوش العربية ستكون واحدة. مشاعرنا الثورية ستظل كما هي، وان زالت منها المرارة التي خلفها الاستعمار. سينتهي عهد الكتاب ويبدأ عهد الأشرطة. أسطول العرب سيسيطر على سطح البحر وجوفه وجوه. سيؤسَّس فريق كرة نسائي. في المستشفيات، سيكون العمل بالأزرار، المستشفيات ستكون جنّة. سيكون الأزهر كعبة علماء الغرب. ستكون الأسرة العربية «أسعد وأفضل». لن تكون هناك أمراض طفيلية. الأمراض الجلدية ستختفي. المجتمع سيكون «متخلّصاً من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي»، وسيكون «اشتراكياً ديموقراطياً«.
من هذه القائمة توقعان فقط صحّا: الاول، كلياً، في المسرح، اذ»لن يقوم الرجال بدور النساء»، والثاني،جزئياً، في الصحراء التي «ستُزرع ويزداد العمران». اما البنود الأخرى، فلم تتحقّق. نعرف اسباب عدم التحقق هذا قبل اندلاع ثورة 25 يناير الراهنة؛ كررناها مراراً. اما الآن، فهل نمدّ هذه الأسباب بحياة جديدة؟ أو نعدّلها؟ أو نعيد النظر بها؟
أيضا، عدد شهر يوليو من العام 1960، أي ذكرى ثورة الضباط الاحرار، فيه وصف تفصيلي لإنتصارات عبد الناصر: قام بالثورة. قام بالاصلاح الزراعي. ألغى الملَكية، أعلن الجمهورية، قضى على الحزبية. وقّع اتفاقية الجلاء. نجا من محاولة اغتيال في المنشية. أعلن الدستور. رفع العلم المصري على مدخل قناة السويس. انتُخب أول رئيس شرعي لجمهورية مصر. أمّم قناة السويس. انتصر على العدوان الثلاثي. اعتراف الامم المتحدة بسيادة مصر على اراضيها. انتصر بالدعوة إلى الوحدة العربية مع سوريا، وبالدعوة إلى القومية العربية. في السياسة الخارجية، أقام التعايش السلمي. أنشأ السدّ العالي. نظّم ادارة الحكم. انتصر على عملاء الشيوعية. انتصر على عملاء الصهيونية. نهض بالصناعة والمشروعات الحيوية. دعم النظام الديموقراطي الاشتراكي. أمّم البنوك. أقام الاتحاد القومي. انتصر في السياسة الخارجية.
هذه اللائحة تستدعي ملاحظات: الانتصارات الشخصية لسلطة عبد الناصر نفسه، مثل الحزبية، الاغتيال، الانتخاب، تختلط بالانتصارات العائدة إلى الشعب المصري، أو هكذا يفترض، على الأقل، مثل التأميم والدستور والسويس الخ. بعض هذه الانتصارات فعلي، والآخر غامض أو ملتبس، مثل الوحدة، القومية، النظام الديموقراطي الاشتراكي. ثم ان معظمها سيادية، تتعلق بالعلاقة مع الخارج، بالطرف الاستعماري المهيمن آنذاك، بريطانيا، ومن بعدها بحلفائها الغربيين. هل هذا يفسّر كون معظم انتصاراته «برانية»، بسبب التحرّشات الدولية، أم لأن شرعيته انْبنت على التحرر من الاستعمار البريطاني؟ هذا وثمة تناقض، أو قلْ تخبّط للمعاني، في قائمة الانتصارات هذه: فمن جهة ينتصر عبد الناصر على الحزبية، ومن جهة أخرى «يدعم النظام الديموقراطي» عبر إقامة الحزب الواحد.
لا نستطيع التكهّن من الآن إلى من ستُكتب الزعامة لثورة 25 يناير، وإلى متى ستدوم هذه الزعامة. عبد الناصر، يوم اندلاع الثورة، لم يكن واجهة قيادتها. لم تبرز زعامته المطلقة الا بعد عامين من انقلاب الضباط الاحرار. ومنذاك بدأت تأخذ منحاً مطلقاً، حتى أصبحت إنتصارات الثورة هي انتصاراته الشخصية، وانتصار سلطته هي انتصار الثورة. من السهل الآن القول ان قيادة عبد الناصر المطلقة، بالكاريزما التي كان يتمتع بها، أرست قواعد السلطة المطلقة لأسلافه، السادات ومبارك، وقد نمت هذه السلطة مع الزمن، ومن دون كاريزما.
في عدد آخر من «الهلال»، مقال عنوانه «أنور السادات»، بقلم عبد الناصر. وفي ما يلي وصفه لشخصيته: جدير بالاعجاب. عبقرية عسكرية ممتازة. شجاعة ورباطة جأش. إخلاص وتفاني في خدمة المُثل العليا. قوة الإرادة. التنزّه عن الغرض. رقّة العواطف. ميل غريزي للعدالة والانصاف. ذاق ألوان العذاب والحرمان قبل الثورة…
هذا الرسم لملامح السادات نادرا ما نجده في وصف الآخرين له. بل ربما لا نجد عندهم ولا واحدة من هذه الاوصاف، ولا نجد في هذا الرسم أية واحدة من الطبائع التي عرف بها السادات بعد تسلّمه الحكم اثر وفاة عبد الناصر؛ بل نجد نقيضها، مثل النزَق والخفّة والسخرية والفرادة والتفرّد والتقلّب والتلاعب… فهل أخطأ عبد الناصر بشأن السادات؟ أم ان السادات تغير بعد رحيل عبد الناصر؟ وكم تستطيع السلطة ان تغير من الانسان؟ أم ان السادات أساء إلى سمعته بانقلابه 180 درجة على إرث الناصرية (الاخوان، السوفيات، الانفتاح، اتفاقية كامب دافيد)؟ أم ان لا تناقض صميمي بين الصفات الحميدة التي ينسبها عبد الناصر للسادات وبين سلوك السادات اللاحق على رحيله؟
أخيرا، تعْبر الأعداد جميعها فكرتان محوريتان: الاولى ان ثورة الضباط الاحرار رفعت مصر إلى الذروة، ومنحتها قيادة محيطها العربي والافريقي والعالمثالثي. هذه النقطة بالذات هي التي جعلت المصريين يتسامحون كثيرا مع أخطاء عبد الناصر وهيمنته المطلقة على حياتهم السياسية. أحبوا عبد الناصر، ليس فقط بسب كاريزماه، بل ايضا لأن عهده ملأ المصريين اعتزازا بمصريتهم.
الفكرة الثانية العابرة للأعداد قوامها ان ثورة يوليو كانت استثنائية، ليس في التاريخ ما يشبهها. اليوم ايضا، نميل إلى وصف ثورة 25 يناير ، وقبلها الثورة التونسية، بأنهما استثنائيتان، يصعب مقارنتهما بأية ثورة سبقت. من الناحية الاجرائية، يمكن التصديق على هذا الوصف، والاضافة بأن ما من ثورة كبيرة، ثورة تأسيسية لعهد جديد، الا وفي طياتها شيء من الاستثناء: الثورة الفرنسية والبلشفية والايرانية، ثورة العبيد، ثورة غاندي، ثورة نلسون مانديلا؛ أو الثورات العلمية او الاجتماعية او التربوية الخ. ولكن تعالَ قارن بين ديناميكياتها العميقة، وسوف تلحظ مراحل متشابهة من الانطلاق والانتصار إلى الاستقرار، بل وحتى الثورة المضادة، بما يجعلك تضيف إلى الملاحظة بأن في الاجتماع البشري هناك دائما ثورة في الافق، البعيد حيناً، والقريب أحياناً.
القيت السطور أعلاه في ندوة حول صورة جمال عبد الناصر في مجلة «الهلال» المصرية، وهي واحدة من ندوات نظمتها جمعية «98» أسبوعاً حول مجلة «الهلال«.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل