“حوار العمر” في الحديقة أمام أشكال مار مارون والعذراء والبطريرك
صفير لـ”النهار”: أضع نفسي في خدمة الخلف وإقامتي في بكركي
حبيب شلوق
للبطريرك صفير و”النهار” قصة عمر طوال 25 عاما وقد رافقته في 47 رحلة كانت اولاها زيارته الاعتاب الرسولية ونيله درع التثبيت بعد انتخابه بطريركا عام 1986، وآخرها قبل نحو اسبوع يوم تسلم من البابا بينيديكتوس السادس عشر رسالة تتضمن قبول استقالته التي تقدم بها قبل اشهر.
البطريرك المستقيل الدائم الحضور خصص بعضا من وقته الصباحي امس، الذي استهله كما كل يوم، بقداس ثم تناول طعام الفطور، وتمشى مع كاتب هذه السطور والمصور الزميل اميل عيد، في حديقة الصرح، لجهة مواقف السيارات، هذه الحديقة التي تطل على كل الساحل من اطراف جبيل الى اطراف بيروت، وعليها يطل الجناح الخاص للبطريرك صفير الذي سيتخذه مقرا لاقامته في الآتي من الأيام.
تمشى البطريرك بين الاشجار التي برع المشرفان الزراعيان شربل عيسى وشقيقه بول عيسى في تقليمها، على اشكال مار مارون والسيدة العذراء والبطريرك صفير بتاج البطريركية وعصا الرعاية، اضافة الى اشكال هندسية عدة.
نظر البطريرك طويلا الى هذه الاشكال وابتسم ثم تابع طريقه متفقدا اجزاء الحديقة.
اسئلة طرحناها عليه شملت كل شيء وهو رد “بما قل ودل”… والبطريرك كما هو لا يمكن استدراجه ولا استفزازه.
يتمنى التوفيق لخلفه، ويضع نفسه في خدمته اذا شاء، واستبعد اللجوء الى روما بعد 15 يوما اذا تعذر الانتخاب، اذ “اعتقد ان الامور تمشي”.
كذلك ينفي البطريرك مجددا ما يشيعه البعض عن ان الاستقالة طلبت منه وقد اجبر عليها، و”كتاب الاستقالة معروف وظاهر، وما في احد يجبرني”.
ويتمنى ان يصار الى تأليف الحكومة ويستقر البلد، “لان الوضع موضع قلق”، الا انه يستدرك لأن لبنان “افضل من غيره حاليا”.
وعندما تسأل البطريرك أين سيكون مقر اقامته بعد انتخاب بطريرك جديد، يلتفت الى الوراء ويشير باصبعه الى الجناح الشمالي الشرقي في بكركي الذي شغله لفترة البطريرك مار انطونيوس بطرس خريش، ثم اعيد تجهيزه ليرتاح فيه البابا يوحنا بولس الثاني عندما زار لبنان في ايار 1997 الا ان كثرة الانشغالات حالت دون استراحة البابا فيه واقتصرت زيارته للجناح على تفقده. وقد استراح فيه بطريرك الروم الارثوذكس اغناطيوس الرابع في انتظار اجتماع بطاركة الشرق مع البابا.
والبطريرك راض عن كل ما فعله خلال توليه السدة البطريركية، وهو قبل “بما اراده الله لنا”، ويصف علاقته بالرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم خلال ولايته بأنها “منيحة”، والبعض منهم كانت العلاقة به “ساعة هيك وساعة هيك”. ويبدي خشيته على الاستقلال اللبناني الذي “ليس ناجزا وتعتوره امور كثيرة، ويراه معرضا “اذا كان ابناء لبنان لا يدافعون عنه”.
يتحدث البطريرك وينطلق الى الامام، فهو فعل ما يمليه عليه الضمير، اما الانتقادات التي وجهت اليه فيرد عليها بـ”ليسامحهم الله” مشيرا الى “ان بعض الناس يظن انني كنت منحازا، ومنهم من يريدون ان اكون معهم”، مؤكدا انه “مع ما اراه مفيدا للطائفة والوطن”.
وبين سؤال وجواب، وسؤال وآخر، يردد اقوالا وحكما، واشعارا، بعضها قديمة جدا، وكان آخرها الابيات الشعرية:
يا ليت ذا القطا لنا
ومثل نصفه ليَ
الى قطاة اهلنا
اذ لنا قط ميا
والمعروف ان القطا هو الحمام البري، والبيت الشعري من الأحاجي وجوابه مئة.
وهنا الحوار:
• بعد ربع قرن بطريركا ونصف قرن اسقفا، هل لديك شعور بأنك انجرت ما كنت تطمح اليه للبطريركية وللطائفة
وللمسيحيين عموما؟
– عملنا ما قدرنا الله على عمله والله شاء أن نقوم بما قمنا به فانجزناه.
• وهل ثمة شيء كنت تريد تنفيذه ولم تتمكن او لم يتسن لك الوقت لتنفيذه؟
– ربما هناك بعض اشياء لم نستطع ان نتمها كما يجب ان تتم.
• مثلا…
– بعض كتابات، بعض انجازات لم نستطع ان نتمها.
“تصرفت وفق الضمير”
• هل قمت بعمل معين أو اتخذت موقفاً معيناً و قلت لاحقاً كان من الأفضل ألا أقوم به لأي سبب من الأسباب؟
– لم أبحث في ذلك. كل ما أقوله انني تصرفت وفق ما يرشدني اليه الله ويقتضيه الضمير.
• هل يساورك قلق على البطريركية والطائفة ولبنان، في ظل الانقسامات، وخصوصاً في صفوف الزعماء الموارنة؟
– كما حفظ الله الطائفة في ما مضى من الزمن سيحفظها الآن، ولكن هذه الانقسامات طبعاً تبعث على القلق.
• هل ترى ابتعاداً لبعض المسيحيين عن الكنيسة في هذه الظروف؟ وما سبب ذلك؟
– طبعاً الناس ليسوا سواء، فمنهم من يبتعد ومنهم من اقترب من الكنيسة، وهذا كان في كل زمن وفي كل وقت.
ليسامحهم الله
• يتهمك بعض الاطراف بانحيازك الى فئة معينة، كيف ترى ذلك. وهل تعتقد ان هذا الواقع كان له تأثير على بكركي ورمزيتها؟
– بعض الناس يظن انني كنت منحازاً، ومنهم من يريدون أن أكون معهم، ولكن أنا لست معهم ولا مع سواهم، أنا مع ما أراه مفيداً للطائفة والوطن، ولذلك نرى ان هذا القول ربما لم يكن في محله.
• ماذا تقول للذين حملوا على البطريرك صفير في فترة من الفترات وانتقدوك؟
– أكتفي بالقول ليسامحهم الله.
• الجميع يعلم ان دوراً كبيراً اضطلعت به بالنسبة الى موضوع استقلال لبنان الجديد بعد الاستقلال الذي ساهم في صنعه البطريرك الحويك. كيف تصف هذه المرحلة؟ وهل أنت مرتاح الى ما حصل؟
– قمنا نحن وسوانا بما ألهمنا الله القيام به، والاستقلال يجب صونه والحفاظ عليه، والاستقلال اللبناني ليس ناجزاً وتعتوره أمور كثيرة، ولذلك يجب صونه وحمايته.
• هل تعتبر ان الاستقلال معرّض للاخطار اليوم؟
– ربما كان معرضاً إذا كان ابناء لبنان لا يدافعون عنه، بل يتخلون عنه ويريد كل منهم ان يحكم لبنان على ذوقه من دون الآخرين، وهذا ليس مرغوباً فيه، ويشكل قلقاً.
إن الاستقلال هو الأهم بالنسبة الى الأوطان التي إذا فقدته فقدت مداميك وجودها، ولذلك على الجميع ان يعملوا للحفاظ على الاستقلال من خلال التضحية في سبيله وتغليب مصلحة الوطن على أي مصلحة أخرى، سواء كانت شخصية أو غير شخصية.
• كيف ترى المرحلة المقبلة في ظل استمرار الازمة الحكومية الحالية والعقبات التي تعترض التأليف؟
– نتمنى ان يصار الى تأليف حكومة وان يستقر البلد ويرجع الناس بعضهم الى البعض وان ينصرفوا الى أعمالهم في أمن وطمأنينة وسلام.
• هل أنت راض عن كل الفترة التي توليت فيها البطريركية؟ وما أكثر ما آلمك تلك الفترة؟ هل ما بعد الطائف او ما بعد الدوحة او ما بعد مصالحة الجبل أم “حرب الشرقية”؟
– قبلنا بما أراده الله لنا، ولذلك إن الوضع في لبنان كان موضع قلق ولا يزال. وهذه الاضطرابات التي نشهدها الآن، ما هي إلا نتيجة للتراكمات التي حدثت في لبنان في ما سبق.
وعلى كل حال إننا نرى ما يحصل في المنطقة بينما الوضع اللبناني لا يزال أفضل من غيره حالياً، ونأمل ان تظل هذه التطورات بعيدة وان يبقى لبنان في منأى عنها.
• كيف تصف العلاقة بين الطوائف اللبنانية؟ وهل تراها كما يجب أن تكون؟
– هذا وقف على الطوائف، فمنها من يوثّق عرى الصداقة والمعرفة مع الطوائف الأخرى ومنها من ينكفئ على ذاته.
• هل ترى تأثيراً خارجياً لا يزال قائماً على اللبنانيين وعلى الموارنة تحديداً؟
– التأثير الخارجي لا ينكر، وهو موجود دائماً في لبنان وفي غيره. وطبعاً الناس يتفاعلون بعضهم مع البعض.
“هيك وهيك”
• لقد رافقت بطريركاً أربعة رؤساء جمهورية، هل ترى رئيساً مميزاً او ربطتك بأحدهم علاقة مميزة؟
– كلهم مميزون.
• وعلاقتك بهم؟
– منيحة… منيحة. والبعض منهم ساعة هيك ساعة هيك بحسب الظروف… وعموماً كانت العلاقة منيحة.
• زرت اللبنانيين في دول انتشار عدة، كيف رأيت هذا الوجود اللبناني والمسيحي تحديداً في الخارج؟
– إنهم على وجه الاجمال متمسكون بايمانهم وبتقاليدهم، هذا في الجيل الأول والثاني، اما الجيل الثالث فإنه تبنى عادات البلد الذي يقيم فيه. لكن اللبنانيين يضطرون الى الذهاب بعيداً الى اماكن مختلفة شرقاً وغرباً، ذلك ان هذا البلد معروف، كانوا يقولون انه جبل الشح في ما مضى وهو لا يتسع لجميع أبنائه، لذلك اضطروا الى السفر والهجرة.
والمطلوب اليوم الحفاظ على علاقة المنتشرين بالوطن الأم، وتجنيد كل الطاقات في سبيل ترسيخ هذه العلاقة، وجعلهم يشعرون بأنهم ما زالوا لبنانيين بكل الطرق.
• هل يعني ذلك العمل لاستعادة جنسيتهم؟
– استعادة الجنسية وما اليها من قضايا تهمهم وتجعلهم لا يشعرون بأنهم غرباء عن وطنهم الأم.
• سافرت كثيراً وقابلت رؤساء كثراً، من منهم ترك أثراً معيناً في نفسك؟
– كلهم جيدون، ولكل منهم صفاته التي يمتاز بها عن غيره.
• وأي رحلة تركت أثراً أكبر؟
– كل الرحلات كانت جيدة، انما رحلة أميركا كانت كبيرة.
• وزيارتك لفرنسا؟
– كذلك جيدة، وقابلنا أكثر من رئيس فرنسي.
“ما من أحد يجبرني”
• لندخل في موضوع الاستقالة، فالبعض لا يزال يقول انك اجبرت عليها. كيف ترد على ذلك؟
– هذا غير صحيح أولاً، ولم استقل تحت أي ضغط، وان كتاب الاستقالة معروف، وظاهر، وما من أحد يجبرني، انما ضميري وربي. ولكن لا علاقة للذين يقولون ذلك بهذا الأمر.
• لماذا كل هذا التداول للاسماء وبلوغ ذلك حداً لم يعرفه اللبنانيون من قبل؟
– لكل من المطارنة الحق في أن يرشّح نفسه أو يكون مرشحاً، ولكن هذا في علم الله، وسيكون بطريركاً من يريده الله أن يكون.
• هل ترى في ذلك صحة أم أن في الأمر محاولة لإضعاف الموقع؟
– لا نعرف، هل في إمكانك أن تسكت الناس؟ فلهم ألسنة ويتكلمون.
• هل تتوقع أن يأخذ انتخاب البطريرك الجديد وقتاً، أم سيكون سريعاً؟
– لا أعرف، هذا يتقرر داخل المجمع.
• هل يمكن أن نصل إلى عرض الموضوع على روما بعد مرور 15 يوماً من الجلسات؟
– لا أعتقد. في حال الصعوبة يمكن ذلك. ولكن أعتقد أن الأمور تمشي.
• هل أنت مرتاح إلى المرحلة البطريركية المقبلة؟
– لكل بطريرك شخصيته، إنما الثوابت العامة قائمة. ومهمة البطريرك معروفة.
• هل ستكون يداً مساعدة للبطريرك الجديد؟
– اذا طلب منا شيئا فنقوم بما يمكن ان نقوم به. وطبعا أضع نفسي في خدمته.
•كيف تصف علاقتك بالبابا بينيديكتوس؟ وهل هي العلاقة نفسها التي كانت مع البابا السابق يوحنا بولس الثاني، أم أن لكل منهما شخصية مختلفة؟
– طبعا لكل شخصيته، انما العلاقة هي نفسها، علاقة البطريرك الماروني والطائفة المارونية بروما.
•إحدى الكنائس تعتبر نفسها في شركة مع روما؟
– نحن نعتبر ان البابا هو رئيس الكنيسة الكاثوليكية عموما.
•هل تمكن المقارنة بينك وبين أي من البطاركة وتحديدا البطريرك الحويك؟
– أنا لا يمكنني أن أقارن، انما قد تكون الظروف هي التي تجعل الانسان يتكيف معها. وقتها كان الاستقلال وكان الاتراك ومجيء فرنسا، ونحن في أيامنا ليس هناك شيء من هذا كله.
•ولكن هذه المرحلة بدت أكثر صعوبة؟
– طبعا فيها صعوبة.
•يحكى كثيرا عن مقر اقامة البطريرك صفير بعد انتخاب بطريرك جديد، فأين سيقيم البطريرك صفير؟
– سأقيم في البطريركية.
•وماذا عن الاقاويل في هذا المجال؟
– لا يمكنني أن أسكت الناس.
•هل أنت راض عن الوضع السياسي الحالي؟
– كنا نأمل ان تكون الطائفة مجتمعة أكثر مما هي، فهي متفرقة وكل ذاهب الى مكان. وهناك انقسام، فيما بعض الطوائف غير منقسم مثل الطائفة المارونية.
•قد تتزامن فترة انتخاب بطريرك مع استحقاقين، الاول تأليف الحكومة والثاني صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟
– أولا ان انتخاب البطريرك لا علاقة له بالحكومة وبالقرار الاتهامي، والقرار اذا ظهر فهو يرتب مسؤوليات على الذين ارتكبوا هذه الجريمة الكبيرة. وقد تتغير المواقف. ثم ان للمحكمة الدولية موقعها في لبنان وفي غيره ويجب عليها ان تظهر الامور على حقيقتها.