في هذه الأيام التي يقف فيها الشعب الليبي بصدره العاري في وجه فلول نظام لا يستحق أن يعيش 42 يوماً وليس 42 سنة، يقف الأحرار في جميع أنحاء العالم إلى جانبه في عزمه الأكيد على التخلص من هذا “العيب” التاريخي! هذه حلقة جديدة من حلقات مسلسل تصفية شعوب المنطقة لحساباتها مع الأنظمة الاستبدادية الخارجة على منطق التاريخ والقوانين الوضعية والشرائع السماوية.
أعرف الشعب الليبي عن كثب، وقد كنت معاراً للتدريس لمدة سنتين في ليبيا للبحث عن لقمة العيش الكريمة خارج بلدي في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. وأعرف من الليبيين من هو القذافي، وقد شاءت الصدف أن تكون كلية الطب التي درست فيها في مدينة “سبها” بجوار المدرسة التي درس فيها “القائد” في المرحلة الابتدائية.
ولدعم قبيلته في سبها، جاء القذافي بآلاف التشاديين، بحجة أنهم ينتمون إلى قبيلته، ولهم الحق بالعيش في ليبيا، ومنحهم المال. شكل هؤلاء حزاماً حول المدينة، والذي تحول إلى مصدر للمخدرات والجريمة والدعارة، وعانى منه السكان الأصليون كثيراً.
عاشت ليبيا في تلك الفترة تحت الحصار بسبب قضية “لوكربي”، وأدى ذلك إلى مصاعب كثيرة لليبيين والمغتربين في هذا البلد. هذه مصيبة واحدة من المصائب التي سببها لشعبه نظام استبدادي متخلف. وكنا مضطرين لمشاهدة مسلسلاته التلفزيونية التي تعرض لزياراته اليومية تقريباً للمدن والقرى، من أجل دعم سياساته وتسويقها عند القبائل الليبية. كان يلقي بكلماته كيفما شاء بين الجماهير الهاتفة المحيطة به، كمهرج هاوٍ يكاد يصدق نفسه. لم يكن ثمة من مهرب، فمن نظام استبدادي إلى آخر والفرق في التفاصيل والنكهات المحلية، فإلى أين المفر؟
من مطار طرابلس وحتى وصولي إلى سبها، كنت أتسلى بقراءة شعارات “الكتاب الأخضر” السمجة والمنتشرة في كل مكان، من مثل: “المركوب حاجة ضرورية” و “الناقة تلد.. الدينار لا يلد” وغيرها أعجب، مما لا أتذكره أو طردته من ذاكرتي! إنها “فلسفة” ثورية متخلفة مثَّلت النسخة الليبية المشوهة من الانقلابات الثورية التي عمت المنطقة.
قدم هذا النظام أسوأ صورة عن ليبيا، وقمع شعبها بالحديد والنار، وضيع ثرواتها في كل اتجاه، وهو يريد الآن حرق هذا البلد. لقد نكبت شعوب منطقتنا بأسوأ أنظمة حكم، لدرجة يصبح معها الاستعمار والأخطار الأخرى مجرد سحابة عابرة. وهتفت الشعوب لقادتها حتى التهبت حناجرها، ونكل بخيرة أبنائها أو هُجروا، وعندما استفاقت على مصيبتها، اكتشفت متأخرة الوجه الحقيقي لهؤلاء.
ما يحدث في ليبيا الآن يجب أن يحرك ضمائر العالم والأمم المتحدة بأسرع ما يمكن، وبصورة عملية، إنه امتحان آخر لمصداقية الدول على الشاطئ الآخر للمتوسط والمحيط الأطلسي. وتحية لكل من وقف بجانب الشعب الليبي، وخاصة علماء الدين الذين ناصروه، باستثناء فتاويهم عن القتل، فهذه لا أحبذها.
كان من المتوقع أن يكون الثمن باهظاً فيما يتعلق بمسألة التغيير في ليبيا، وذلك نظراً لطبيعة نظام الحكم الاستثنائية من حيث الفجور، علاوة على حالة الحاكم النفسية غير السوية بكل المقاييس. ولكن ذلك يؤكد أيضاً أن التغيير حاصل لا محالة في ما تبقى من أنظمة الاستبداد، والتي أثبتت أنها لن تتعلم أبداً.
بلد بعد آخر، تقدم شعوبنا التواقة إلى الحرية ضروباً من البطولات والتضحية جعلتها محط اهتمام العالم وتقديره. ومن الآن فصاعداً ستدخل التاريخ كقوى فاعلة ومؤثرة في جميع المجالات. وسيتلقى الإرهاب ضربة قاصمة، وسيختفي تدريجاً في ظروف لم تعد تنتجه.
mshahhoud@yahoo.com
د. منير شحود، كاتب وأستاذ جامعي سوري