لم يكن الخبر عادياً لا في شكله ولا معناه الذي انبثق من تونس في اليوم السابع عشر من كانون أول الماضي: شاب خريج جامعي يدعى(محمد البوعزيزي)، يحرق نفسه في أحد شوارع مدينة (سيدي بو زيد) احتجاجا على كونه عاطلاً عن العمل. المشهد جديد وغير مألوف في منطقتنا العربية، وإنما يحدث في مناطق شرق آسيا،وكلنا يتذكر الرهبان البوذيين في فييتنام كيف كانوا يضرمون النار في أجسادهم في الستينات من القرن الماضي احتجاجاً على الاحتلال الأميركي لبلادهم. ويقال أن محمد البوعزيزي قد أقدم على حرق نفسه، على أثر صفعة من شرطي بعد أن رفض أن تصادر عربته التي يبيع عليها بعض الخضار والفواكه ليحصل على أود عيشه، بعد أن تقطعت به السبل، ولم يجد عملاً بشهادته الجامعية التي يحملها.
لا أحد يعرف ماذا كان يجول في خاطر محمد البوعزيزي في تلك اللحظة، بكل تأكيد كانت تسيطر على ذهنه مساحة كبيرة من اليأس وخيبة الأمل. ولربما لم يتحمل الرجوع إلى بيته وليس في جيبه ما يستطيع أن يساعد به عائلته الفقيرة جداً، فضاقت به الدنيا كثيراً، وانسد أفق استمرار الحياة لديه، ففضل الموت. ولكن نظلم هذا الشخص كثيراً إذا اعتبرنا ما قام به مجرد انتحار عادي؛ فإن طريقة إنهاء حياته التي اختارها كان فيها الكثير من الشجاعة والتحدي وروح الاحتجاج العميق، ولا نعتقد أن هذا الشاب الجامعي في تلك اللحظة المأسوية والدرامية كان لا يعرف أن هناك الألوف من أبناء وطنه الذين يعانون مثله من البطالة والفقر والجوع، ولذلك فخياره لا يمكن أن ننفي علاقته بذهن سياسي كان لديه، فأراد أن ينهي حياته بطريقة الحرق احتجاجاً على الوضع العام البائس الذي يسود في مجتمعه. إن الشهيد محمد البوعزيزي ربما لم يخطر في باله أن موته سيشكل شرارة انتفاضة عارمة تشمل كل مدن وطنه وتنقل تونس من حقبة إلى حقبة، ولكن لا نعرف إذا كان قد بقي بكامل وعيه بعد أن نقل إلى المستشفى وخلال الأيام التي بقي فيها قبل موته، نتمنى أن يكون قد رأى بأم عينيه تسونامي الاحتجاج الذي أخذ يعم تونس وأن تقر عينه ويتيقن من أن تضحيته بنفسه لم تكن مجرد صرخة في واد.
*
في الواقع، إن الحدث التونسي استثنائي بكل المقاييس، وكان مفاجئاً للمجتمع الدولي ووقعه صاعقاً على العالم العربي، وحتى على مستوى الداخل التونسي ربما لم يكن مفاجئاً تماماً ولكنه لم يكن متوقعاً أن يكون بهذا السيناريو وهذا النظم المتسارع.
لم يكن أحد يتوقع أن احتجاجا فرديا يمكن أن يحرك المجتمع التونسي بأسره ويجبر زين العابدبن بن علي على الهرب؟ ولكن من الملفت للانتباه هذا الدور الفريد الذي قامت به مؤسسات المجتمع المدني التونسي، ويبدو أن هذه المؤسسات كانت متهيئة ومستعدة تنتظر لحظة ملائمة للتحرك، وكانت هذه اللحظة (إضرام البوزيدي النار في نفسه) فقامت برعايتها على الفور وأوصلتها إلى ما وصلت إليه .وهنا تكمن استثنائية الانتفاضة التونسية، في أنها لم تقاد من حزب محدد أو تحالف أحزاب سياسية، وإن كنا لا ننفي على الإطلاق التحاق وإسهام السياسيين والحزبيين بهذه الانتفاضة. وكذلك يجب أن نشير هنا، إلى أن هذا الحدث التونسي الكبير لم يكن مخضباً بأي نكهة إيديولوجية معينة ولا يتسم بأي سمة دينية أو مذهبية أو طائفية أو جهوية، وإنما كانت انتفاضة المجتمع بكامله من أجل المواطنة والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. ولقد كان المجتمع المدني التونسي بارزاً منذ بداية أحداثها، ولقد تبين أن هذا المجتمع بنقاباته وهيئاته وأحزابه كان يملك الكثير من القدرة على الوعي والمبادرة والتحرك السلمي والتنظيم وهذا ما أسهم كثيراً في نجاح الانتفاضة. ولكن من جانب آخر يذكرنا هذا الحدث التونسي الكبير بأواخر الثمانينات وأوائل التسعينات حين تهاوت الأنظمة الشمولية في (المعسكر الاشتراكي السابق)، ويؤكد مرة أخرى أن النظام الشمولي لا يجعله منيعاً على الانهيار، حرمان الشعب من التعبير، وسد كل المنافذ على العمل المعارض بالقمع والسجن والنفي، فإن إمكانية تفجره واردة جداً، تحت وطأة اندلاع الحركات الشعبية العفوية بفعل القمع والفساد والفقر من جانب، ومن جانب آخر بسبب ازدياد حجم التناقضات والاختلاف على المصالح في داخل النظام ذاته. وهذا ما رأيناه في سياق الأحداث الأخيرة في تونس.
وفي الواقع كانت الانتفاضة التونسية اجتماعية بامتياز ويفوح منها عبق ماركس ودور العامل الاجتماعي في التغيرات السياسية، ولكن ليس ماركس وحسب وإنما عبق فولتير ومونتسكيو وأفكار الثورة الفرنسية والحرية والديموقراطية والمساواة والمواطنة. وإن تونس كانت سباقة إلى هذا الفكر الحداثي ولا ننسى أنها أنجبت أحد أهم الإصلاحيين الكبار في القرن التاسع عشر(خير الدين التونسي) وكذلك تتوفر فيها طبقة من المثقفين الكبار الذين “يدافعون عن القيم” كما قال المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، قيم التجديد والحداثة والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة والعدالة الاجتماعية.
zahran39@gmail.com
دمشق