ها هو 2011 يطل علينا ونخاف حاضره وغده، نخاف أن تلتهمنا “قنوات الفرغة” الظاهرة منها والمخفية ، فنغدو كائنات ممسوخة تتكوم في المقايل وطرقات اللا آمان.. فلماذا مسحة التشاؤم؟
كائنات بلا مساء!!
ونحن نتصفح الصحف العربية نشاهد الصفحات المخصصة، لإعلانات ثابتة: “أين تذهب هذا المساء”، وتحت هذا العنوان تُنشر أخبار عن عشرات الفعاليات الفنية والثقافية المختلفة في كل مدينة، حيث تنال العاصمة نصيب الأسد من مساءات الفن والحياة. أما في الإجازات الأسبوعية، والأعياد، فتتحول المُدن وحتى الأرياف إلى كرنفالات من الفرح والبهجة، ويحتار المرء كيف، وماذا يختار من تلك الخيارات الكثيرة المتاحة والمفتوحة..
يمن “الهتوّرة”
وفي صحفنا، يبدو البؤس سيّد الكلمة. فهي تتفنن في صناعة الكوابيس لتأتي على ما تبقى من حلم لهذا المواطن التعيس “المكلبش” بثقافة “الهَتر” للأيديولوجيات العقائدية المزمنة لتحوله إلى إنسان “مهتور” و”مهاتر” بالقوة بالجملة والمفرق، قوة تهتره في اتجاه هذا الصف، وأخرى نحو صف مغاير، وهلم جرا.
الكل يمسون..
وأنت تفتش الصحافة والقنوات العربية، ترى عالما من المساءات الملوّنة يصنعها الحالمون بالمساءات، يصنعونها في كل الأوقات والمواسم، والمدن والأرياف والمحليات، فترى مهرجانا محليا هنا، وآخر دوليا هناك، ومسارح، وسينما متنوعة لكل الأذواق، ومعارض فوتوغرافية / تشكيلية، ومهرجانات حيّة، على الهواء الطّلق، الجميع يصنعون ويطرزون كل مساء، فالكل “يُمسون”..
*
وأنت تتمشى في شوارع صنعاء أو أي شارع في اليمن، تتلاطمك المشاهد الكربلائية؛ لأنها باختصار “بلاد بلا مساء”.. ونفس التمشية في أية دولة عربية أو أجنبية تجد الشوارع لها مذاق خاص، برغم مشاكل البطالة، والحروب، و، و..الخ، لكن لديهم مساء يحتفون به، مساؤهم حياة جديدة يختلف عن عالم النهار. تُدهش وأنت ترى كيف يصنع العالم مساءه بشكل مختلف؟ كيف يتلقفون المساءات الباردة والدافئة المنعشة في الحدائق والمقاهي، والشطآن، ودُور الأوبرا، وصالات الفن، والكرنفالات، يصنعون البهجة، في عالمهم المليء باللون والطعم والرائحة..
مساء واحد.. برغوة واحدة
فلماذا، مساؤنا متخم بطعم رغوة القات اللزجة، ودخاخين السيارات، و”جزجزة” الموتورات، أجواء موتورة مشحونة بالعدمية، مساء من: نتف الشوارب والشعر، والقحصصة، والقرططة، والحكحكة، ثم البرقطة. مساء يعجن الروح قبل الوجوه، مساء لا لون له سوى البصاق الأخضر والبني (الشمة).. الخ، ثم الذهاب إلى المرقد بأجساد سيزيفية منهكة ومقتولة، تسبقنا كوابيسنا الكارثية؟!!
لماذا مساؤنا مساءً واحدا، بلون وطعم ورائحة واحدة؟ وقت واحد لا نعرف صبحه من عصره من مغربه، فالوقت المعروف محكوم بعقارب الساعة البيولوجية “القات” (الساعة 12 ظهراً) لا نعرف من الزمن في أي زمن نحن، وما أنقضى منه، وما الزمن المغاير الذي سيأتي؟ لا نعرف من سيرة الأمكنة، أكان حبة البلوك التي يدكي عليها الشاقي الغلبان، ولا القصر المتعالي، ولا الصندقة، ولا الكرتون.. فهل صار شرطنا يملي علينا القبول بآدمية منقوصة حتى نستمر على هذه الشاكلة؟ كائنات اللا بهجة، كائنات بلا مساء؟ لماذا لا يصنع مساؤنا خارج الدوائر المغلقة: المقيل، جدران البيت، الأركان المظلمة، والأزقة النتنة؟
مجتمع “الفرغة”
في وصف “مضرابة:
المكان الذي لا هدف منه في الدخول إليه، وكذلك اللا هدف عند الخروج منه فـ”الداخل منه مفقود، والخارج أكثر فقداناًً وضياعاً”، إنه مجتمع الفرغة بامتياز..
صناعة “ثقافة الفرغة” تكاد تكون البضاعة الرائجة في بلادنا بلا منافس، فبعد الخروج من اللحد الصغير “المقيل” إلى اللحد الأكبر الشارع، تقودك أبجديات الفرغة نحو شوارع التراب والغبار والضجيج الهستيري: للباعة المتجولين والمفرِّشين، استريوهات الحبة السوداء والحجاب، وضرب الزوجات وتعدّدهن، لأزقة تحفل بمقاهي بائسة “تلز” عليك كلحد القيامة، أقدام “تُرفِّح” وتتورّم من شدة المشي الممسوس، ستتشظى وأنت تحدق في المضاربات بين المارة والرّكاب وأصحاب الدبابات، وبين النمل والقطط والكلاب، وكل الهوام، ثم في المُفارعات “عالم الفرجة الفلكلورية” ثم التلذذ بتلوينات المضاربات، خصوصاً العنيفة منها، وما ينجم عنها من عالم المتعة والنشوة لسباق التشجيع الثأري الكامن: يستاهل، دُقه، أديه بُكس، زيدوه طعنة، اقتل أبوه، اسلخ عاره، دُقه على الجنب، زيد أمه دكمة في الصابر، ادعسه، بَسِّقه، فٌته، لنخرج بعد ذلك بزبدة حكمة الفرغة اليمنية بامتياز: “يستاهل البرد من ضيع دفاه”، “شعب أحمد”، “شعب صميل”.. الخ.
إنها بلادنا، حيث المجتمع الثأري الذي يناصر العدوان، العنف، يناصر الأذية ويتفنن فيها، يستلذ بالعداء ضد بعض، وضد أي شيء، وكل شيء، وحتى اللا شيء.. إنه “مجتمع الفرغة”.
في وصف مقهى “خبز الطاوة”..
مقاهي الأمس لا تختلف عن مقاهي اليوم، هي نفسها بـ”وجوه ممصوصة، متعرِّجة، مليئة بالغُرق والمنحنيات، والمنحدرات، تشبه، ما تبقى من أرصفتنا المتآكلة، تلك الوجوه الناشفة كالسندوتش، وخبز الطاوة الناشفين الحارقين، وبجانبه كوب الشاي الملبّن، الملطخ”.
مقاهٍ تنبت على ما تبقى من الأرصفة، وتسرق أحياناً قليلاً من الإسفلت المكسّر، ليزيد سُعار صراخ المارة والسيارات. سيجلس صاحب الكيف، على المائدة المتسخة لا يدري من يأكل الآخر، فيتجشأ حامداً الله والرئيس على النعمة، غير عابٍ بأرتال الذباب وغبار وأدخنة السيارات، وأحذية الداخلين والخارجين والمارة التي تعفر خبز الطاوة والشاي الملبن، وتلابيب الروح المنهكة المنتعشة بالمتناقضات من أغاني أيوب طارش إلى زعيق محاضرات “الفرغة” في الحجاب، وتباشير جنة الجهاديين، وقبل أن يقوم من كرسيه: “يلعن أبو الفقر”.
اقتصاد “الفرغة”
“الطعفرة الماراثونية”
إنه الآن في أتون اللحد الأكبر “الطعفرة” المجانية حيث تبدأ ماراثونية “الحومرة” واللهاث، جدران تسفخه، ورصيف يضيق بطرطقة حذائه البلاستيكي، باعة وقطط وكلاب، وذباب، وفضلات الجميع المسفوحة في الطرقات المحفّرة.. إنها رائحة مسائنا واستنشاق الفرغة المعجونة بالضياع والموت: في الاتكاء عند أبواب المحلات، وصور العيون الكحيلة للنساء “المبولطات الخليجيات”، وصور نجوم الفن بقمصانهم العارية، وجدران “الشمّة” وعرائض الاستغفار، وصلي على النبي، والانتخابات، وعصائر فخفخينا العرائسي، ولا ضير من الاتكاء على باب سيارة طب الحبة السوداء والعسل لمعالجة الايدز، والصُفار، والسُباع، والصرير، وتقوية الباءة.. الخ، سيدلف نحو شارع “ممنوع الجلوس يا..” تلك محلات الذهب والبنوك الإسلامية، والشقق بالتقسيط المريح.. والحج والعمرة، وسفر طالبي العمل في دول الخليج، وجموع “فتة” المجانين والمخبرين يتناثرون في كل شبر، إنه “اقتصاد الفرغة”..
مساؤهم ومساؤنا
هذا هو مساؤنا المشرشف بأردية الحزن الأليم، أما كان لدور السينما المتواضعة، حتى وإن كانت درجة عاشرة، تلتهم هذا الفراغ، هذا الموت المركب والعابث؟ إنه مساؤنا الذي لا يشبه سوانا بين الأمم.
الربيع الذي لا نعرفه
سيأتي الربيع سيحس الجميع أنهم ربيعيون، وسيأتي الخريف سيعرف البشر أن الخريف آتٍ، وهكذا الصيف، ستأتي السنة الجديدة والأعياد القومية والوطنية والدينية، وأعياد الثقافات الأخرى، يحسون بالاختلاف في الأيام والفصول والسنة، إنها الأعياد التي وجدت لأجل أن تجلب السعادة للإنسان، فمثلما يبدعون في التكنولوجيا يبدعون أيضاً في صناعة السعادة، أعياد جديدة، هكذا هي حياتهم، هكذا هو مساؤهم وصباحاتهم…
حكوماتنا، التي لا تمسي:
لقد تعاقبت على بلادنا العديد من الحكومات، من ملكية، وديمقراطية، وثيوقراطية، جمهورية بتنويعات “القريح” والقُرح الدامية، اهتمت هذه (الحكومات) بأشياء كثيرة إلا بسعادة الإنسان عبر المُتعة الفكر والفن والثقافة؛ لأنها حكومات لا تعرف من المساء إلا ثقافة “اليسك”.
لم تفكر أية حكومة بإنشاء المسارح، ولا الاهتمام بالمهرجانات المحلية أو الدولية، وحتى أعيادها الدينية القليلة (أضحى وفطر) لا بهجة لها؛ لأنها بلا مساء. أما أعيادها الوطنية فإنها تحتفي بها على الطريقة البدائية لصراع “الديكة”.. حكومتنا، لم تدخل في أجندتها السياسية تهذيب الطاقات لـ”24 مليون نسمة”، واستغلالها عبر تنميتها بالفن، والإبداعات، وصناعة اقتصاد الفن والثقافة والإبداع.
ورجال المال والأعمال.. لا يمسون
حتى أساطين المال والأعمال لا يمسون مثلما حكوماتهم، فإن قدّموا الدعم المالي فهو لتنمية اقتصاد الفتوى فقط، ومن جازف وفعل ودعم أي تجمّع مدني لإبهاج الأماسي.. يقفز شيوخ القبائل بمؤسستهم الإفتائية يتصدّرون لـ”فتة” أي مقهى /تجمع مدني، وإن قاوم أصدقاء المساء واستمرت التجمّعات مفتوحة فإنها تكون تحت حماية المتنفذين. في بلاد اللا مساء حيث لا قانون، لا مجتمع مدني، لا مؤسسات دولة فاعلة، فالقانون والمؤسسات تكون في المجتمعات التي تنتعش فيها المساءات..
اليمني المطعفر “لا يتنسم” مساء الجمال:
هذه العدمية، الحياة المعطلة إلا من الفرغة، والفرجة الملتاثة، حولت الإنسان اليمني كائنا يعيش بـ “الطعفرة” إنسانا متكرّع، كائنا “شاظاويا” يتشظى في الدقيقة الواحدة إلى مائة “شُقف” تتناثره الأمكنة والأزقة والطرقات الموحشة، لا زمن له سوى الزمن الواحد الثابت والحياة الأبدية الأخروية، إنه كائن بلا مساء.
**
كاكئة بأحزمة ناسفة
في مجتمع الفرغة، بلاد اللا مساء، نخاف أن نصحو ذات صباح ونجدنا كائنات مكأكئة ننام على بيض فنفقس بعد 21 يوما، لكن ليس بكتاكيت، بل بأحزمة ناسفة.
فكيف تشوفوووووووووو؟!
arwaothman@yahoo.com
* صنعاء