كتبت ـ علا الساكت
«أخاف من التكرار والانحدار نحو الموت، أخاف من الشيخوخة فكلما تقدم بالإنسان العمر بقى في أخبار الماضي» بهذا القلق يمضي الكاتب اللبناني رشيد الضعيف نحو الكتابة، مطاردا بشبح الاختلاف والتجديد، فيقول: «أحاول ألا تربط كتبي تيمة أدبية ولا موضوع محدد فأنا أريد تحريرها من كل هذه القيود».
رشيد الضعيف أحد أبرز الروائيين اللبنانيين من جيل الثمانينيات (أو ما اصطلح عليه في لبنان بجيل الحرب)، بدأ رشيد الضعيف الكتابة شاعرا. نشر ديوانه الأول «حين حل السيف على الصيف» عام 1979 ثم تحول إلى كتابة الرواية مع «المستبد» نُشرت عام 1983 ونشر أكثر من عشر روايات آخرها «أوكى مع السلامة».
الرواية العربية مصابة ببارانويا لأنها تتصور أنها ستحل مشكلات المجتمع. رغبة رشيد فى تحرير رواياته من كل القيود لا تقف عند حد التيمة، فهو صاحب تجربة مثيرة للجدل في الكتابة عن الجسد خاصة في آخر رواياته «أوكى مع السلامة» فمنذ اللحظة الأولى في الرواية، حيث يستقبل بطل الرواية الأستاذ الجامعي صاحب الستين عاما خبر انتهاء علاقته بامرأة أربعينية عاشت في الغرب وتطبّعت بطباعه ثم عادت ليلتقيها في بيروت، يبدأ في استعادة تفاصيل العلاقة الحميمية بينهما بكل عقدها، إلا أن رشيد يرفض أن تختزل قراءة روايته باعتبارها رواية جنسية، فيقول: «أكتب عن العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة، فهي تخبئ الصراع بين الحداثة والتقليد، فعندما أصف لحظة جنسية فهي موظفة لتقول شيئا ما، وليس وصفا لمتعة الوصف، فأنا مؤمن بأن الفراش هو مكان صراع أساسي بين الحداثة والتقليد، فرغم حالة الانفتاح، الذي نعيشه، يُصدم الرجل من أي مبادرة من الإنثى داخل الفراش، فالرجل يريد أن يتملك ليس فقط حاضرها ومستقبلها بل ماضيها أيضا».
لا يكتفي رشيد ببطلته مثالا لأزمة الحداثة والتقليد بل يؤكد أن كل علاقة زواج هي مثال لهذا الصراع، «فتلك المرأة التي تعمل وتشاهد التليفزيون وتختلط بالعالم لا يمكن أن تعامل بناء على نفس النسق، الذى قسم فيه العمل منذ آلاف السنين، المطبخ للمرأة والجريدة للرجل»، لكن إلى من ينحاز رشيد؟
يرد: «هذا صراع دائم بين الرجل والمرأة تدخلت فيه الاديان وغلّبت الرجل على المرأة، وتأتي الحداثة الآن لتغلّب المرأة على الرجل لكن لا بد أن يقوم حوار تاريخي بين الرجل والمرأة، وأن تحل هذه الأمور بينهما ولا يغلب أحد على أحد، فكل علاقة بين الرجل والمرأة باتت اختراعا لطريقة عيش مشترك، لم يعد هناك نمط نقلده».
اختار رشيد الشيخوخة موضوعا لروايته «فالشيخوخة ليست قصة جسد إلا بمعنى أن هذا الجسد انحدار نحو الموت، اخترت أن يكون بطل الرواية في ظروف اجتماعية وتاريخية تحتدم فيها أزمة الصراع بين الحداثة والتقليد كما احتدمت في واقعنا الآن».
يذهب البعض إلى أن الرواية هي صاحبة الدور الأكبر في الثقافة العربية خلال الفترة المقبلة، فهي الآن تقوم بدور الفلسفة، التي غابت منذ سنوات عن المشهد الثقافي، وهي الفن الأكثر رواجا بين القراء، لكن الضعيف صاحب مشروع مفارق لهذه الرؤية؛ فهو لا يحب تضخيم دور الرواية والمبالغة في تقديره، قائلا: «هذه بارانويا حين تزعم الرواية أنها ستحل كل أزمات المجتمع، لا أفهم ما طرح في الجلسة الأولى من جلسات مؤتمر الرواية الأسبوع الماضي إذ صور البعض الرواية كأنها فرقة الاقتحام العسكرية الأولى التى ستعيد للثقافة العربية مجدها».
يتساءل رشيد: «لماذا نريد دائما رواية مقطّبة هدفها تحرير المرأة والصراع ضد الإمبريالية والقمع؟ لماذا يتصور الروائي نفسه أفضل وأذكى من السائق؟ هذا السائق صاحب خبرة حياتية مؤثرة أكثر بكثير من كتابة رواية»، ويضيف: «أنا لا أجد معنى لكلمات مثل (دور المثقف) فكل هذا تحميل أدوار للأدب أكثر مما لا يحتمل»، ويستطرد: “أحدهم انتقد نانسي عجرم لكنى أحبها، وأراها أهم بكثير من غالبية المحاضرات الاجتماعية والدينية، التي تعطى على التليفزيون، فمشهد نانسي ينور البيت بعد نهار من العمل؛ بينما منظر هذه الذقون يعتم القلب. هؤلاء يجروننا نحو القرون الوسطى وهى تقول لنا ابتهجوا”.
ولا ينسى رشيد هنا أن يشير إلى فساد النخبة الثقافية في العالم العربي، قائلا: «نريد أن نعظّم دور المثقفين والروائيين، وهم عالم موبوء يعج بالكره والبغض والمصالح والغيرة، والأمر في حقيقته نضال على مراكز ورأسمال، فلم يعد الروائي يتوارى وراء روايته ويدعها تقدمه إلى العالم وتدافع عنه بل يجعلها في خدمة اسمه الذي يجني عليه المال، من منا الآن يسعى إلى تطوير فن الرواية أو فكرة فلسفية عميقة؟ فقط صار الجميع يهدفون إلى مقابلة على التليفزيون أو لقاء مع صحيفة».
لكن ما الدور الذى يضعه رشيد أمامه أثناء الكتابة؟ يقول: «أحاول أن أصف بشر من لحم ودم، وألا تكون كتابتي في خدمة أيديولوجيا ما، بهذا المعنى أريد أن أكتب رواية بلا معنى أي لا تنضوي في سياق فلسفي بشكل واضح» ببساطة شديدة يضع رشيد نصب عينيه رواية يجد فيها القاريء المتعة والعمق، ويكتب في كل مرة «بهدف إصلاح أخطائه في الرواية السابقة».
لا يريد رشيد أن يدافع عن «المرأة ولا الرجل ولا الإسلام ولا المسيحية»، لكنه يريد فقط أن «تقرأ أمه روايته وتجد فيها البساطة ويقرأها الفيلسوف فيجد فيها العمق»، لكن الأيديولوجيا أخبث من أن يخلو منها عملا روائي، فلا المقاطع الطويلة التى يشرح فيها بطل رشيد ــ الأستاذ الجامعى الستيني ــ دواخل نفسه وخلفياته كشرقي ورؤيته لحبيبته القادمة بكل مفاهيم الغرب أو يشرح فيها مبررات فشله في إرضائها، ولا الظروف التي اختارها هو ككاتب (الجمع بين هذين النمطين الرجل الشرقي والمرأة العصرية) ليكتب عنها تساعد على الهرب من الأدلجة، وهو ما لا ينكره رشيد قائلا: «بعض أفكاري تتسرب وتنعكس في رواياتي بالتأكيد، لكن على مستوى الوعي أحاول التحرر أكثر ما يمكن من الأيديولوجيا بل من الثقافة نفسها، فأنا لست داعية لتحرير المرأة لأكتب رواية بهذا الغرض».
لهذا السبب تحديدا يلجأ رشيد دائما للكتابة بصيغة الأنا، بل ويلعب مع القارئ لعبة دس بعض صفاته الجسدية والاجتماعية في رواياته، وهو ما اعتبره البعض مبالغة في الكشف عن الذات، لكن رشيد يرى أن «الرواية فن مبني على التلصّص، فأنا أوهم القاريء أني اتكلم عن ذاتي لينتبه، ثم إن هذه الطريقة في الكتابة عن الذات هي ردي على كل الأيديولوجيات الكلية سواء كانت دينية الدينية أو فكرية كالماركسية وكلها تذيب الفرد في القضايا وتنسى الفرد، هذا ما عشناه واصطدمنا بالحائط بسببه حتى صرنا نعيش حالة التضخم في عدد الشهداء من أجل هذه الايديولجيات الكبرى».
كثير من الكتّاب في العالم العربى تجاوزا كتابة الذات، وقالوا إن هذا التيار انتهى تقريبا، بعد أن رأوا فيه سببا مباشرا لحالة الجفاء بين القراء وبين كتاباتهم فعادوا بقوة إلى الأيديولوجيا، لكن رشيد يرى أن من يقول ذلك: «لم يقرأ كتابة الذات جيدا».
الشروق