علينا أن نتفق بداية على بديهية معلومة وهى أن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى ليس حزبا شيوعيا ولا يمكن محاكمته كحزب شيوعى، فهو كيان أقرب الى الجبهة منه للحزب، ومنذ ولادته من رحم الإتحاد الإشتراكى فى 1976 وهو تجمع لعدد من التيارات الماركسية والقومية والعلمانية والدينية المستنيرة وإن كان التيار الماركسى الأكثر عددا وتنظيما داخل التجمع ( تحديدا الحزب الشيوعى المصرى ) قد نجح مبكرا فى السيطرة على جميع مستوياته مقصيا بقصد أو دون قصد التيارات الأخرى داخله حتى اضمحلت أو كادت أن تختفى، وفى تقديرى ان التجمع كان الفرصة المواتية لليسار الماركسى كواجهة علنية له وخاصة بعد فشل تجربة العمل من داخل الاتحاد الإشتراكى وحصار مجلة “الطليعة”، وكان الهجوم الحاد على هذه التجربة من فصائل اليسار الأخرى يمكن تفسيره فى حينه لموقفها اليسارى وعندما قررت ان تنضم للتجمع تكتيكيا فى نهاية السبعينيات كان الوقت قد فات واستطاع “المصرى” أن يهمش دورها وأن يواصل سيطرتة على مفاتيح الحزب وتوطيد علاقته بما بقى من تيارات سياسية غير ماركسية داخله.
وقد بدأ هذا التنظيم واعدا إبّان النشأة الأولى بزخم كبير من حيث العدد أو التنوع، فقد بدأ الحزب بقيادة المناضل خالد محيي الدين وفى ووجود قيادات تاريخية ذات وزن كبير شاركت فى تأسيسه ومنهم على سبيل المثال لا الحصر “وبقدر ما تسعفنى الذاكرة” (كمال رفعت- لطفى واكد- صبرى مبدى- فريد عبدالكريم- د.اسماعيل صبرى عبدالله- د.فؤاد مرسى – د. يحيى الجمل- د.رفعت السعيد- لطفى الخولى- فيليب جلاب- انجى افلاطون- جميل راتب- عبدالرحمن ابو زهرة- الشيخ مصطفى عاصى- خليل عبد الكريم- محمد احمد خلف الله- محمد سيد احمد- محمد عراقى- شاهندة مقلد..الخ) وكثيرون غيرهم صنعوا تاريخا وتركوا بصمات واضحة على جدار الزمن المصرى.
ولا يمكن لنا ان نغفل أن هذا الكيان قد شارك وساهم فى صنع الكثير من المواقف الثورية نذكر منها إنتفاضة الخبز- يناير 1977 والموقف من كامب ديفيد والتطبيع مع العدو الصهيونى وكافة معارك الشعب المصرى الاجتماعية والاقتصادية والوطنية، مما عرضه لضربات قاسية من الأجهزة الأمنية وتم اقتحام مقر الحزب مرات عديدة ومصادرة أعداد جريدته الوليدة “الأهالى” واحتجابها لعدة سنوات واضطراره لاصدار نشرة ” التقدم” بصورة بدائية وتوزيعها على أعضائه وبعض العاطفين، وادت هذه الضربات والحصار الى هروب عدد كبير من اعضائه مما قلص نشاطه وحد من تأثيره فى المجتمع الى حد كبير.
ومن المعروف أن حزب التجمع منذ أن كان منبرا لم يترك انتخابات تشريعية ولا محلية واحدة الا خاضها ولم يقاطع أيا منها حتى انتخابات 1990 التى اعلنت جميع الأحزاب مقاطعتها لرفض مطالبها بالإشراف القضائى عليها، ورغم التمثيل الضئيل الذى كان يحصل عليه التجمع نتيجة عمليات التزوير الفاضح والضربات البوليسية التى أدت الى ضعف تأثيره فى الشارع فقد واصل خوض الانتخابات، واشتدت الضربات البوليسية على وقع مواقفه ابان انتفاضة يناير 77 فقد ضم قرار الإتهام أعداد ضخمة من أعضائه، وشملت إعتقالات سبتمبر 80 معظم أعضاء لجنته المركزية، ناهيك عن تأثير المتغيرات الخارجية على نشاط الحزب وجماهيريته وأهمها انهيار الإتحاد السوفيتى بما كان يمثله من حليف قوى لكل الحركات والاحزاب اليسارية فى العالم، وداخليا لتغير المزاج الشعبى ونمو الأفكار السلفية والتى تصب دائما فى طاحونة التيارات الدينية، مما أدى الىتراجع موقف الحزب من النظام وتحسبه المبالغ فيه أحيانا من ردود فعل السلطة.
ونظرة على تمثيل الحزب فى دورات مجلس الشعب المتعاقبة منذ العام 1976 وحتى انتخابات 2010 تبين لنا مدى هزالة هذا التواجد لحزب يزعم تمثيله لليسار المصرى:
دوره 1977-1979 خالد محى الدين / أبو العز الحريري
دوره 1990-1995 خالد محى الدين / لطفى واكد/ محمد عبد العزيز شعبان/ مختار جمعه/ البدري فرغلى
دوره 1995-2000 خالد محى الدين / محمد عبد العزيز شعبان / البدري فرغلى / رافت سيف / محمد الضهيرى / مختار جمعه
دوره 2000-2005 خالد محى الدين / محمد عبد العزيز شعبان / البدري فرغلى / أبو العز الحريري/ حسن المهندس
دوره 2005-2010 محمد عبد العزيز شعبان / محمد تليـمه (استقال من الحزب سنه2007)
انتخابات 2010- محمد عبد العزيز شعبان (أخليت الدائرة بوفاته)/رأفت سيف / عبد الحميد كمال / أحمد سليمان /عبد الرشيد هلال
ومما لاشك فيه أن الضعف والتفكك الذى يعانى منه اليسار بكافة فصائله منذ أكثر من عقدين يعد بمثابة عقدة متأصلة يبدو انها لن تجد لهاحلا على المدى المنظور وحتى محاولات إعادة إحياء اليسار تبدو متعثرة بسبب جينات الإنقسام التى هى جزء من تركيبته البنيوية والتى دائما تؤدى الى معارك جانبية واتهامات تستنفذ الجهود وتؤدى الى ضعف النظرية والنظرة الإستراتيجية والصراع فى تكتيكات العمل المرحلى، وقد أدى ذلك الى حدة غير مبررة وتنابذ وشتائم هى عادة أعراض الضعف والإنعزال عن الشارع و التطرف فى المواقف، ونمو أفكار مراهقة وعلى سبيل المثال يتبنى البعض وجهة نظر مفادها ان الاشتراك فى البرلمان هو خيانة للطبقة العاملة لأنه أداة رأسمالية وأن الديموقراطية ما هى الا نتاج للامبريالية الغربية، مما يدفع للحيرة عن مصدر هذه الأفكار التى تتسق مع تصريحات بن لادن والظواهرى.
نأتى للمشهد الراهن وما أفرزته عملية التزوير الواسعة واستخدام المال السياسى والبلطجة بشكل غير مسبوق فى الإنتخابات الأخيرة، والتى كان واضحا أن انتخابات الشورى كانت بروفة “جنرال” لها، حيث بات النجاح والرسوب فى الإنتخابات لا يعتمد على شعبية النائب او برنامجه ولا حتى الحملة الإنتخابية له، ولكن على إرادة الحزب الوطنى فى إنجاح من يقرر نجاحه وتحديد عدد الأصوات التى يحصل عليها، فى غياب الإشراف القضائى الكامل ولجنة عليا للإنتخابات لا تعرف ولا تحاول ان تعرف دورها وكل وظيفتها ان تكون شاهد زور على العملية برمتها أو فى أحسن الظروف شاهد ما شافش حاجة، مما أحاط هذه الإنتخابات من الدقيقة الأولى للعملية بالفساد والعوار وعدم الجدوى، واحتدم الجدل والصراع حول خوض الإنتخابات أو مقاطعتها، وتحددت الرؤية داخل التجمع فى ثلاثة اتجاهات، الأول ينادى بدخول الإنتخابات مهما كانت الظروف، وشاهدهم أن الحزب السياسى لا يجب ان يكون موقفه سلبيا وان المواسم الانتخابية فرصته لإدارة معركه بالشارع وايصال صوته الى الجماهير وفرصته لإلتقاط الأنفاس ضد عمليات الحصار، وان الحزب قد خاض الإنتخابات حتى فى أشد ايام قمعه ومحاصرته فى زمن السادات، ورأى ثان يرى ان اللعبة الإنتخابية اثبتت عدم جدواها فى ظل النظام القائم وخاصة بعد تعديل المادة 76 والغاء الإشراف القضائى ومع استمرار قانون الطوارئ وأن التزوير أصبح ممنهجا وليس عشوائيا لذا فإن المقاطعة هى الموقف الصحيح لتعرية النظام وعدم التبرير له والتحول الى ورقة التوت التى يغطى بها سوأته، ورأى ثالث طرح خوض الانتخابات بشرط الحصول على ضمانات بالنزاهة والحياد وقدم هذه الشروط للحزب الحاكم فلم يعرها ادنى اهتمام وكان من أصحاب هذا الرأى رئيس الحزب الدكتور/ رفعت السعيد ووأصحاب هذا الرأى سرعان ما تجاوزوا هذه الشروط وانحازوا للرأى الأول فى خوض الإنتخابات.
نعرف جميعا ما حدث، لكن المعركة الكبرى داخل التجمع اندلعت بشدة بعد الجولة الأولى من الإنتخابات، ودخل على الخط الذين سقطوا فيها، وصعدت الى السطح كثير من المرارات ( موقف البدرى فرغلى نموذجا ) ووجهوا سهامهم نحو قيادة الحزب وتحديدا الدكتور رفعت السعيد وتعالت صيحات الإدانة والشجب والسباب، وكانت القاصمة هى القرار بدخول جولة الإعادة متجاوزا موقف الإخوان والوفد من المفاطعة.
نعلم ان قرار الاخوان والوفد من المقاطعة ليس مبنيا على اسس مبدئية ولكن لشعورهم ان الحزب الوطنى قد وجه لهم طعنة فى الظهر وان عملية التزوير فاقت كل الحدود، ولو فرض جدلا أن الحزب قد سمح لعدد معقول من الاخوان او الوفد من النجاح فى الدورة الأولى بحوالى من 10 الى عشرين عضو لكل منهم لكانوا اكملوا الانتخابات، لكنهم احسوا ان المولد المنصوب سينفض عنهم بلا حمص لذا جاءت غضبتهم المضرية وردود افعالهم الحادة مثل قصة الثعلب والعنب.
الذى يعنينا هنا هو موقف حزب التجمع وخصوصا قيادته التى قررت استمرار مرشحيها فى معركة الإعادة متجاهلة المعارضة الداخلية المتصاعدة والتى ضمت معظم رموز التجمع وتشمل اسماء كبيرة فى لجنته المركزية مثل الدكتور جودة عبدالخالق وسيد عبدالعال أمينه العام الذى ظل حتى اللحظة الأخيرة مدافعا عن مواقف القيادة، وكان الخطأ الأكبر ان يعمل رئيس الحزب وبعض الملتفين حوله على التقليل من هذا الإنفجار والإستمرار وكأنه ليس فى الإمكان ابدع مما كان والحديث طول الوقت فى أجهزة الإعلام عن وحدة الحزب وقوته الجماهيرية ومعاركه المظفرة وكأننا نتحدث عن حزب آخر فى بلد آخر.
إن نتيجة الجولة الأولى اسقطت كل ما أشيع عن صفقات حدثت بين الحزب الوطنى والمعارضة الحزبية والاخوان المسلمين، وحتى عمليات التزوير التى حدثت لصالح التجمع فى الجولة الثانية كانت فى حقيقتها تعبيرا عن ازمة النظام وحاجته لوجود بعض المعارضين فى المجلس وتم هذا التزويرلصالح بعض العناصر التجمعية الأكثر جماهيرية فى دوائرها والتى استطاعات خوض معركة انتخابية جيدة اوصلتها الى دورة الإعادة، وامتنانا من الحكومة للتجمع على استمراره فى العملية الانتخابية رغم التزوير الفاضح والمقاطعة.
لقد ارتكبت قيادة التجمع العديد من الأخطاء ادت به الى هذا المآل من عزلة جماهيرية وانفضاض جمهوره عنه وانسحاب اغلب عناصرة المؤثرة، نعم هناك ظروف موضوعية ساهمت بشكل رئيسى فى ضعف اليسار بشكل عام وليس التجمع فقط، فاليسار المصرى كما ذكرنا فى كتابات سابقة فى أزمة شديدة ويكاد يكون وجوده خارج التجمع غائبا أو هامشيا الى ابعد الحدود ومصاب بأمراض الانقسام والتفكك والموسمية والعزلة، ولكن ما يعنينا هنا على وجه التحديد هو الموقف المتراجع للتجمع فى ظل قيادة الدكتور رفعت السعيد وانخفاض سقف معارضته للنظام بل الإلتقاء معه فى الحرب ضد الاخوان وتحويل تناقضه الرئيسى ليس ضد نظام تحالف رجال الأعمال مع البيروقراطية فى قمة السلطة ولكن جعل تناقضه الرئيسى مع الاخوان والحركات الإسلامية فى معركة جانبية ، وموقف الدكتور رفعت الأخير قبل جولة الإعادة من تضامنه مع الحزب الوطنى فى بلاغه المقدم للنائب العام ضد مرشحى الاخوان مثالا واضحا على ذلك، كذلك جملة مواقفه المنحاز الى الحكومة فى مسألة الرقابة الخارجية على الانتخابات بما فى ذلك مراقبة منظمات المجتمع الدولى المدنية والامم المتحدة ووصل الأمر به الى الغمز فى دور الاشراف القضائى على الانتخابات وأن هذا الاشراف عام 2005 لم يمنع تزويرها، ناهيك عن تعسف الدكتور رفعت فى قراراته وتمريرها باستخدام اساليب غير ديموقراطية.
ليس الوقت هو المناسب لتصفية الحسابات داخل الحزب ولا الاتهامات بالخيانة والعمالة ولا الدعوات المشبوهه للإستقالة من الحزب لتفريغه من أكثر عناصره عطاءا، وكذلك التحركات الداعية الى تفجير الحزب من الداخل وكأن الثورية والنضال تعنى الحرب على حزب التجمع الذى يظل حتى الآن هو الصيغة الأفضل للعمل السياسى بدلا من العمل على تقويته وتدعيمة او فى اضعف الامور تركه فى حاله والعمل بشكل مستقل عنه حتى يواجه مقدراته ويعمل على اعادة بنائه.
لقد آن الأوان للعقلاء داخل التجمع فتح عملية حوار واسعة على صفحات جريدة الأهالى وفى كافة مؤسسات الحزب وتنظيماته ومستوياته على المستوى المركزى والمحافظات والأقسام للخروج ببرنامج يعمل على لملمة هذه الخلافات ويضع رؤية للعمل فى المرحلة القادمة يتم الإتفاق بينهم عليها وذلك بعد إنقشاع غبار الإنتخابات، وان يعيد الحزب تجديد قياداته فقد آن الأوان للدكتور رفعت بعد كل هذا العمر فى العمل الذى لا ينكره الا جاحد ان يترك رئاسة الحزب ويواصل نضاله بين صفوفه فكفى عليه 36 عاما من تولى القيادة منفردا او مشاركا للمناضل خالد محيى الدين اطال الله فى عمره، وليست تلك دعوة للنسيان والتسامح ولكن للعمل الجدى على إنقاذ ما تبقى لنا من رمز لليسار هو شاطئنا الباقى لا أن نكون معاول لهدمه.