حسن خضر
إسرائيل بعثة استكشافية، أوروبية الأصل، في آسيا. فعلى الرغم من الأصول الآسيوية لليهود، ودعوة العودة إلى الشرق، التي أطلقها بعض آباء الصهيونية، إلا أن المستوطنين الأوائل نظروا إلى أنفسهم، وإلى العالم، كأوروبيين. وهذه النظرة ما تزال سائدة في الدولة والمجتمع الإسرائيليين.
وهنا، أستخدمُ تعبير بعثة expedition بدلالته في اللغة الإنكليزية، التي تعني رحلة طويلة الأمد لتحقيق أغراض قد تكون علمية، وجغرافية، أو عسكرية، وسياسية. ولهذه الأشياء كلها مترادفات في الأيديولوجيا الصهيونية: كان الهدف الرئيس نقل اليهود من أوروبا الشرقية والوسطى إلى الشرق، وإنشاء دولة لهم في آسيا، وتذليل كافة العقبات المحلية والإقليمية والدولية، بأدوات العلم، والدبلوماسية، والقوّة العسكرية.
وما أُنجز حتى الآن يمثل قصة نجاح مدهشة: دولة تحظى بالشرعية والاعتراف من جانب المجتمع الدولي، مجتمع حديث، جيش قوى، واقتصاد ناجح. ومع هذا، وقبله، وفوقه، وبعده، تسليم من جانب العرب والفلسطينيين بحق الدولة الإسرائيلية في الوجود. ولا يهم، في هذا الشأن، ما إذا نجم التسليم عن الاستسلام، والقبول بالأمر الواقع، أو عن خطة جهنمية تريد القضاء على الدولة بالتقسيط، بعدما فشلت في القضاء عليها بالجملة.
المهم، في الميزان الاستراتيجي العام، أن الإسرائيليين فازوا في إنشاء الدولة أولا، وفي إخراج مصر من الميدان ثانيا، وفي الحصول على اعتراف الفلسطينيين بشرعية وجودهم ثالثا، وفي شطب العراق من معادلة الحرب والسلام رابعا. هذه هي النتيجة الظافرة لإستراتيجية الجدار الحديدي، التي طرحها جابوتنسكي قبل ثمانية عقود. وهي، أيضا، الترجمة الحقيقية لمبادرة السلام العربية.
بيد أن الإسرائيليين في لحظة الظفر، بالذات، يتصرفون وكأنهم عاجزون عن استثمار الفوز، وكأن البعثة الاستكشافية أضاعت البوصلة، أو لم تحقق أهدافها بعد. لذا، تخندقت في مواقع حصينة، وأحاطت نفسها بسواتر مادية ومعنوية عالية. وهذه السواتر تزداد ارتفاعا مع مرور الوقت، وتتناسب طرديا مع تجليات متلاحقة للفوز. كلما حققوا فوزا جديدا، ازدادوا مقاومة وممانعة:
حركة أرض إسرائيل الكبرى، مثلا، وُلدت بعد مفاوضات السلام مع مصر، وبعد أوسلو تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة. واليوم، يرفض الإسرائيليون رشوة من الطائرات والأسلحة الأميركية المتطوّرة بمئات الملايين من الدولارات، مقابل تجميد البناء في المستوطنات لمدة تسعين يوما لا غير.
لماذا؟
استثمر الإسرائيليون في جميع حروبهم اللحظة الفاصلة ما بين صدور قرار بوقف إطلاق النار، ودخوله حيّز التنفيذ، لتحقق نتائج مدهشة في الميدان، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسارة بقوات العدو.
ويمكن القول، على سبيل القياس، إن هذا ما يفعلونه في السياسة، أيضا. فقد أدركوا منذ وقت لم يعد قصيرا بأن الاحتلال بالمعنى التقليدي لم يعد ممكنا، لذا يريدون تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على الأرض، والحصول على أفضل شروط ممكنة، بما فيها تحويل نظام الأبارتهايد في الضفة الغربية وقطاع غزة من ضرورة، تبدو للوهلة الأولى أمنية، إلى شرط من شروط الحل الدائم.
بيد أن هذا القياس فاسد. فما يصلح في الميدان لا يصلح، بالضرورة، لاستثمار الفوز بالمعنى السياسي والاستراتيجي العام. وربما تفسّر هذه الحقيقة شكوى بعض الإسرائيليين من أنانية وضيق أفق نخبهم السياسية الحريصة على مصالحها الحزبية، وتحالفاتها الضيقة، أكثر من حرصها على سلامة ومستقبل الدولة. وفي السياق نفسه تفسّر دعوة بعض اليهود الأميركيين لإنقاذ إسرائيل من نفسها.
وربما تفسّر، أيضا، ما ينتاب الفلسطينيين والعرب من خيبة أمل، فعلى الرغم من التسليم بثمانين في المائة من فلسطين التاريخية، ومبادرات السلام والتطبيع، إلا أن الإسرائيليين يزدادون مقاومة وممانعة.
فلنضع الشكوى وخيبة الأمل جانبا. فلن نتمكن من فهم الفشل في استثمار الفوز خارج منطق البعثة الاستكشافية، الأوروبية الأصل، في آسيا. هنا مربط الفرس. فلكي تصبح إسرائيل دولة طبيعية ينبغي عليها التخلّص من تركة البعثة الاستكشافية.
وهذه النقطة، بالذات، تحتاج إلى مزيد من التفسير. فالبعض من العرب والإسرائيليين يعتقد بأن إسرائيل يجب أن تكون جزءا من العالم الثالث، ومن الشرق الأوسط، ومن آسيا، لكي تتمكن من الانسجام مع الجغرافيا، وتطبيع وجودها في هذا الجزء من العالم. وهذا غير ممكن، أو ربما يحدث بطريقة مغايرة لتصوّرات كثيرة شائعة.
التخلّص من تركة البعثة الاستكشافية الأوروبية، في الشرق الأوسط، يعني التسليم بحقيقة أن الدولة اليهودية تمثل أقلية إثنية ولغوية في المشرق العربي، وأن هذه الأقلية محكومة بثلاثة أقانيم هي الديمغرافيا والجغرافيا والتاريخ. ولهذا السبب لن تتمكن من ممارسة دور القوة الإقليمية المهيمنة، ولن تنجح في فرض إرادتها على الإقليم. ولا تملك في حقيقة الأمر سوى البحث عن طريقة للتعايش معه والعيش فيه.
وربما في أمر كهذا ما يفسر فقدان البوصلة، والتخندق، ورفع السواتر المادية والمعنوية. البعثة الاستكشافية مأزومة، ولأنها كذلك تفشل في استثمار الفوز.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني- برلين