أعود من عملي متعبا كبقية اقرأني الموظفين والعمال، اخلد للنوم ساعتين نهارا كعادة نسبة كبيرة منهم، إلا إني في هذه الأيام لا أتمكن من النوم بسبب أداء بعض النسوة للقراءة الحسينية، حيث يرفعن صوت الميكروفون عاليا! ذهبت لمحارمهن! حيث إنني أعيش في مجتمع سلفي جاف ومن غير المسموح به للرجل أن يتحدث إلى المرأة بأي بصورة أو شكل! قلت لهم أرجو منكم أمر نساء هذا المأتم بان يخفضوا من صوت الميكروفون لأتمكن من النوم فسألوني باستغراب: الست مؤمنا! الست مواليا! ما هذا الكلام؟! إنها ذكرى الحسين فاستغفر ربك من عظيم ذنبك!
بعدها لم يعد لي مفر من تشغيل جهاز التكييف على الرغم من برودة الطقس هذه الأيام لأتمكن من إعادة شحن طاقة جسدي بعد يوم عمل شاق.
هذا التعارض بين كل ما هو ديني وكل ما هو مدني يحدث عادة بالمواسم الدينية في المجتمعات النامية. فمنذ إطلالة شهر محرم1432هـ وأنا اقرأ على مواقع الانترنت القطيفية عن ممارسات الشرطة وأجهزة الأمن ضد المآتم الحسينية وشبابها المتدين الذي يسخر وقته وطاقته لإحياء ذكرى عاشوراء المجيدة. في ديباجة الأمر وحتميته فان من حق أي مجتمع ممارسة شعائره الدينية، ولكن في نفس الوقت يجب احترام وجود الدولة، بنفس القدر الذي لا بد من أن تحترم الدولة ممارسة هذه الشعائر من قبل مواطنيها، إلا إن ما يمكن اعتباره (فوضى خلاقة تسيطر على العلاقة ما بين الطرفين منذ عقود طويلة في هذه البقعة من الخليج العربي، في ظل انعدام قوانين ذات لائحة تنفيذية واضحة تنظم حق الجماعات الروحية في ممارسة شعائرها الدينية،ومن هنا كانت هذه الحوادث التي تنشر وقائعها مواقع الانترنت الأهلية، والتي تحمل الدولة وحدها فقط مسئوليتها وتصفها كعادتها بأنها تحارب مواطنيها الشيعة وتسعى إلى التضييق عليهم في حقوقهم الدينية المشروعة، إلا إن تحميل الدولة كامل المسئولية أمر أبعد ما يكون عن الموضوعية والإنصاف على نحو الإطلاق، فكونك في موقع الحكم والسلطة لا يجعل منك جلاد دائما، وكونك في موقع المحكوم والمعارضة لا يجعل منك ضحية ومظلوما دائما، وشواهد التاريخ تحدثنا عن معارضين ومظلومين سرعان ما تحولوا إلى وحوش كاسرة عندما امسكوا بمقاليد الأمور!
إن المجتمعات الانطوائية وحدها من تنظر لنفسها على أنها مظلومة ومضطهدة وان غيرها دائما هو الجلاد والظالم، في عقدة تاريخية ممتدة عبر الأجيال، بالرغم من كون هذه المجتمعات تمارس على نفسها طغيانا منهجيا، إذ تحتوي تعاليمها الدينية وقوانينها الشرعية على الكثير من التعاليم والممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان بصورة فجة ومباشرة.
إن استغلال الشوارع في إقامة مراسيم دينية أو اجتماعية سلوك غير قانوني وغير حضاري لأنها ممتلكات عامة تحت إدارة أجهزة الدولة، ولا يجوز استثمارها بأي بشكل من دون موافقة مسبقة، إلا إننا نلاحظ أن عدد من البلدات يقوم شبانها بتعليق اللافتات الدينية ووضع الأعلام في الساحات العامة وعلى أعمدة الكهرباء، وعندما تقوم الأجهزة المختصة بإزالتها يقول القائلون بان الدولة تحاربنا في عقيدتنا ومذهبنا!
إن إقامة المخيمات في الساحات العامة من دون تطبيق أية اشتراطات تتعلق بالسلامة وبما يتسبب في تعطل حركة المرور ومن دون ترخيص حكومي يعتبر مخالفة قانونية وحضارية.
إن تعليق شعارات أو لافتات أو صور دينية أو سياسية أو فئوية على المركبات الخاصة مخالفة قانونية لان المركبات كالسيارات والدراجات النارية وغيرها وسائل للنقل الخاص والعام، الشخصي والتجاري، وليست وسائل لممارسة الشعائر الدينية.
في الدول المتقدمة والكثير من البلدان التي تتمتع شعوبها بالحريات الدينية يمارس الشيعة فيها كغيرهم حقوقهم الدينية وشعائرهم الروحية في أماكن العبادة المرخصة المعروفة كالمساجد والحسينيات والصالات والمجالس العامة، ولا يتجاوزونها إلى الشوارع والأماكن العامة والطرق، ذلك لأنها الأماكن الطبيعة لممارسة الطقوس الدينية، ولما توفر من أمان وانسيابية، علاوة على ما تحققه من أهداف جمة، من أهمها سهولة حمايتها من قبل أجهزة الأمن، وضمان عدم خروج هذه الطقوس إلى الشارع لكي لا تصبح شرارة لنشوء صراعات مذهبية أو دينية أو طائفية، وحتى لا يحدث صراع ما بين النظم المدنية، القائمة على الشمولية والاستيعاب، والقيم الروحية المقتصرة على
معتنقيها، وبالتالي ضمان السلم الأهلي والأمن الاجتماعي من خلال وجود نظام مدني مركزي وأنظمة دينية وروحية فرعية في نطاقه عبر منظومة حريات واسعة ومرنة.
قبل يومين كنت متوجها لشأني الخاص فرأيت ورشة إصلاح سيارات وقد غطت اللافتات السوداء كافة جدرانها! ورأيت في بعض البلدات شعارات عاشورائية مكتوبة ومعلقة على جدران بعض المؤسسات الحكومية والأملاك العامة!
علاوة على ذلك فان أصحاب العديد من المتاجر يضعون شعارات عاشوراء على أبواب متاجرهم، على الرغم من كون ذلك مخالفة للقوانين العامة، فهذه المتاجر ليست أماكن عبادة وليس من حق أصحابها وضع أي ملصقات دينية أو سياسية، لأنها بذلك تخرج عن نطاق ترخيصها ونشاطها التجاري أو الاستثماري، وإنما مكان هذه الملصقات أو الشعارات الأماكن التي تمارس فيها الشعائر المتعلقة بها.
شاهدت بأم عيني! سيارة خاصة وقد وضع صاحبها في مقدمتها علم اسود بمناسبة ذكرى عاشوراء! وعبث الدينيون المتطرفون بلوحة احد الشوارع التي تحمل اسم احد أئمة الشيعة وكتبوا بعد اسمه المجرد ( على غرار بقية أسماء الشوارع التي تحمل أسماء الشخصيات التاريخية والدينية ) عبارة عليه الصلاة والسلام في رغبة جامحة لإسقاط العقيدة الروحية على كافة جوانب الحياة ومساراتها المختلفة، مدفوعة بنزعة دينية مذهبية موغلة في التطرف والغلو.
إن ذلك ليس سوى مشاعر دينية متطرفة وصوفية مذهبية جديدة لم تسلم منها حتى الكروت الشخصية وبطاقات الأفراح! حيث يشكل الجزء الخلفي منها مساحة كافية لوضع الشعارات الدينية والنصوص الروحية!
إن سبب انبعاثها – من وجهة نظري- يعود إلى عدم وجود مشاريع تنمية إنسانية حقيقية، وضعف نظم الحقوق والحريات، وسوء العلاقة ما بين الدولة والمجتمع، وعدم وجود قاعدة وطنية واضحة تنبثق عنها نظم مدنية فاعلة ورصينة، ما أذى إلى تراجع دور الدولة لصالح التيارات الدينية، بكل ما تحمل من قيم روحية وعملية ميتافيزيقية، لا يمكن أن تشكل قاعدة حقيقة للنهضة والتطور الحضاري لأي مجتمع.
من هنا فان القيم الروحية المتصفة بالتطرف والغلو والترهيب تشمل كافة طبقات المجتمع دون استثناء، منهم الموظفين والعمال! حيث يسعى الكثير منهم إلى اخذ إجازات عرضية أو اعتيادية أثناء مناسبة عاشوراء، في أتباع لما يبثه رجال الدين من كراهية العمل، والغضب الإلهي المسبب لقطع الرزق أو شحه، إذا ما عمل المرء يوم العاشر من المحرم خصوصا، على الرغم من عدم وجود أي فتوى صادرة من قبل فقهاء الشيعة- على حد علمي- تجبر أو ترغب في الغياب أثناء أيام عاشوراء – والأمر ليس سوى مجموعة نصوص لا تشكل أي جزء من النسيج العقائدي للشيعة، بل إن تعطيل مصالح المواطنين، خاصة عندما يترك الموظفون أعمالهم في المؤسسات الخدمية المهمة كالمستشفيات والمدارس من دون تامين حاجة العمل، لهو عمل غير أخلاقي على كافة المستويات، أتذكر أنني راجعت مستشفى حكومي في يوم العاشر من المحرم قبل عدة سنوات، ولمست من المراجعين والموظفين الاستياء والغضب، فقد تحدثت مع احد الأطباء الذي اشتكى من سوء الخدمة التي تقدمها أقسام المستشفى بسبب غياب عدد كبير من موظفي الطاقم الطبي والإداري والفني، مما كان له عظيم الأثر في زيادة معاناة المرضى وتفاقم المشاكل المتعلقة بها.
وبلغ الأمر في هذا المضمار أن أصبحت ظاهرة غياب الطلاب أيام المناسبات الدينية في القطيف، خاصة تلاميذ الابتدائية شائعة لدرجة الغثيان!!
أتذكر عندما كنت في المرحلة الابتدائية لم تكن المدارس تعاني من هذه الظاهرة النكوصية، وكان غياب الطلبة مقتصرا على الأيام الأخيرة من عاشوراء وبضع مناسبات تعد على الأصابع طوال العام، أما الان فنظرا لشيوع السلفية الدينية وصوفيتها الجديدة، فقد أصبحت ظاهرة مترسمة في أغلبية المدارس في هذه البلاد، حتى أن احد رجال الدين في القطيف انتقد هذه الظاهرة فتوجهت نحوه الانتقادات اللاذعة، فخشي من فقدان مكانته ونفوذه فعدل عنها!! بل ودعوى وزارة التربية والتعليم إلى اعتماد يوم العاشر من المحرم إجازة رسمية!!
وتصل الماجوجية الدينية السلفية في بعض الأحيان إلى حد ارتداء الملابس السوداء في الأماكن الرسمية! خاصة من قبل الفتيات! أتذكر أن فتاتين في إحدى المدارس حظرتا يومهما الدراسي بالملابس السوداء فتم إجبارهما على طرحها وارتداء الملابس الرسمية، وشنت بعد ذلك الانتقادات التقليدية بأن ذلك جزء من الحرب ضد مذهبنا وعقيدتنا!
لا شك إن ارتداء الملابس الدينية في الأماكن الرسمية وشبه الرسمية (خاصة تلك التي يجب أن يرتدي منسوبيها وروادها ملابس خاصة) سلوك غير قانوني وغير حضاري، إذ يجب أن تحصر الملابس الدينية في أماكن العبادة فقط.
ويمارس المجتمع الديني على ذاته إرهابا روحيا منظما! حيث تبث المعتقدات التي تحذر من تجاهل ذكرى عاشوراء، فعلى سبيل المثال لا تجد في شوارع المدينة الدينية أي اثر للشبان الذين كانوا يستمعون ويسمعون المقطوعات الغنائية والموسيقية بصخب، إذ يستبدلونها في أيام عاشوراء باللطميات والأناشيد التراجيدية، وكل ذلك بسبب الإرهاب الديني الذي يحذر من مغبة مخالفة التعاليم الدينية، وان المخالفين يعرضون أنفسهم لعقاب الهي وسخط رباني!!
في إحدى السنوات ذهبت لحلاقة ذقني في يوم التاسع من المحرم! فقال لي عامل الحلاقة بأنه تعرض للتوبيخ من قبل شبان الحي لعدم إغلاقه لمتجره، وعندما احتج بان صاحب البقالة ما زال مشرعا باب رزقه قالوا له بأنها مما يحتاجه الناس أما متجرك فلا!!
وأتذكر بان احد الأصدقاء جاء لحلاق لحلاقة شعره وذقنه في أواخر أيام عاشوراء إحدى السنوات فاعتذر له العامل قائلا بأنه مضطر للإغلاق بعد تلقيه تهديدات بعواقب وخيمة إذا لم يلتزم بإغلاقه!! بالرغم من عدم اعتناق أغلبية العمالة في القطيف للمذهب الشيعي ومعاناة الكثير من أبناء الشيعة من قانون إغلاق المتاجر أوقات الصلوات الخمس المطبق في كافة المدن السعودية ومنها القطيف، بيد إن ذلك ليس سوى إرهاب روحي وترويع سيكولوجي يمارسه هذا المجتمع الديني على ذاته، في نطاق السقوط الحضاري والتخلف الإنساني الذي يعانيه كمجتمع عربي.
لا بد من ترشيد الشعور الديني وتقنين ممارسة النظم والطقوس الروحية، حتى لا تصبح بمثابة النظام العام المركزي لهذه الفئة أو تلك، وبالتالي تتصادم تياراتها وتحدث ما بينها الصراعات المعطلة للتنمية ( كما يحدث الان في عدد كبير من الدول العربية والإسلامية )، ففي الدول المتقدمة تمارس كافة الانتماءات الروحية والدينية والمذهبية كالشيعة والسنة والمذاهب المسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية شعائرها الدينية من دون طغيانها على النظام المدني المركزي، ومن دون تجاوز أماكن العبادة المخصوصة والمتعارف عليها، لتبقى الحياة المدنية القاسم المشترك لكافة شرائح وفئات المجتمع ، أتذكر أنني حضرت مراسم عاشوراء في مملكة البحرين، وتحديدا في منطقة باب البحرين، فكانت الشعائر الحسينية محددة في منطقة معينة فقط، ما أن يتجاوزها المرء حتى تعود الحياة لطبيعتها في السوق بكل ما تحمله من تنوع ونشاط، لذلك لا بد من إيجاد نظام متفق عليه ما بين أجهزة الدولة وأجهزة المجتمع لممارسة الطقوس الدينية والشعائر المذهبية وتطبيق القيم الروحية بما يكفل تحولها إلى جزء من النظام العام لا النظام فعلا وواقعا، وبما يحقق التوازن ما بين كفاءة الدولة في أجهزتها المختلفة، وحق المجتمع في ممارسة حرياته الدينية والعقائدية، وبما يحقق عدم جنوح المجتمع نحو اعتبار قيمه الروحية بديلا عن النظم القانونية، وحتى لا تطغى القيم الدينية على سلوك الأفراد وتحولها إلى بديل عن الأخذ بالنظم المدنية والحضارية القائمة على الإبداع والإنتاج، وحتى ذلك الحين ستظل مواقع الحوار تنشر ما تقوم به أجهزة الدولة من انتهاكات لحقوقه الدينية، وستظل الأخيرة تعاني من طغيان الحالة الروحية ومزاحمتها للأنظمة والقوانين المسيرة لأوجه الحياة المختلفة واستغلالها للمرافق العامة من دون وجه حق، بينما لا يسعنا نحن إلا أن نهنئ الجميع بالعام الهجري الجديد، وتهنئة الأحرار في كل مكان باستشهاد الحسين بن علي روح الحرية في العالم المكبل.
raedqassem@hotmail.com
* كاتب سعودي
الشعائر الدينية بين سلطة الدولة وحق المجتمع (عاشوراء نموذجا) اعجبتني فقرة ” ظاهرة غياب الطلاب أيام المناسبات الدينية في القطيف، خاصة تلاميذ الابتدائية شائعة لدرجة الغثيان!!”. انا اتعاطف معك كثيرا لان شعورك وصل الى هذه الدرجة من التعاطف مع اولاد القطيف لكنها مرة واحدة في السنة طلاب القطيف في القسم الابتدائي يطلبون منك ان تتعاطف معهم لان شعورهم دائما مجروح حيث انهم على مدار السنة يدرسون في منهاجهم المقرر ان الامام الحسسين خرج على امير المؤمنين يزيد وانه يستحق القتل. ويدرسون ان الصحابي حجر بن عدي رضي الله عنه قد قتله معاوية رضي الله عنه. الله يرضي عليك كما تترضون… قراءة المزيد ..
الشعائر الدينية بين سلطة الدولة وحق المجتمع (عاشوراء نموذجا)
wonderer — wonderer_2007@yahoo.com
مشكلتنا اليوم في العالم الأسلامي
>سنة وشيعة>
هو التسألم
التسألم هو المزايدة في الدين وإعتبار ما هو جانبيا في الدين هو الدين
مقالك جميل يا أخ رائد