منذ أن جنحت أحداثُ ما سُمّي “الربيع العربي” إلى العنف المسلّح، انتاب مسيحيي الشرق قلقٌ عام وفي العمق عبّرت عنه خطابات مسؤوليهم الروحيين والزمنيين، فضلاً عما يلاحظه أيُّ مراقب في أوساطهم الأهلية على اختلاف البلدان.
وبمقدار ما كان هذا العنف يتصاعد وينتشر في المنطقة ليتجاوزها إلى أوروبا، كان شعورهم يتحوّل إلى “قلق وجوديّ”، الأمر الذي استدعى صُراخاً على هذا المستوى من الخطر والجدّية (مؤتمرات للمطالبة بحماية دولية…). ونقول ذلك مع علمنا بأن العنف الإرهابي لم يطاول المسيحيين وحدهم، بل طاول كلّ من وقع في دائرة نشاطه، بصرف النظر عن انتمائه الديني والمذهبي والعرقي، كما أن استهدافَ المسيحيين لم يكن في الأعمّ الغالب لكونهم مسيحيين. ومع ذلك نُقارب هذه المسألة من زاويةِ عنايتنا الخاصة بوجود المسيحيين ومصيرهم في الشرق. هذا، من دون ايّةِ نزعةٍ تنصُّلية من بيئتنا الثقافية والإنسانية في المنطقة، ذلك أننا كمسيحيين “نشكل جزءاً من ثقافة المسلمين وهويتهم في المنطقة، مثلما يشكل المسلمون جزءاً من ثقافتنا وهويتنا. لذا نحن وإياهم مسؤولون عن بعضنا بعضاً أمام الله والتاريخ”، على ما جاء في نداء بطاركة الشرق الكاثوليك قبل سنوات.
وبصرف النظر عن طبيعة المجموعات المُمارِسة للعنف الإرهابي، وعن مرجعيّاتها السياسية والتمويلية والتسليحية، وكذلك عن مزاعم بعض الجهات بأنها تحارب الإرهاب فيما هي تشجّعه بطرق مختلفة، إلا أنّ ما يتقاطع عنده الانطباع العام هو أن هذا العنف إسلامي (بزعمِ فاعليه) أو يتلطّى بالإسلام (برأي معارضيه من المسلمين). النتيجة الواقعية واحدة: وهي أن ما يجري يشكّل تحدّياً غير مسبوق، أخلاقياً وإنسانياً وسياسياً، لجميع قوى الاعتدال والعيش معاً بسلام في المنطقة والعالم. ترتبط بهذه النتيجة ملاحظةٌ واقعيةٌ أخرى، وهي أن قوى التطرُّف العنفيّ متقاطعة عملياً حتى لتبدو وكأنها متفاهمة، رغم تبايناتها وتناقضاتها وعداوات ما بينها. هي متفاهمة عملياً على إنتاج العنف، وإعادة إنتاجه، وتسويقه وتعميمه… هذا فيما تبدو قوى الاعتدال متفرّقة متباعدة، أو أنها على تواصل لا يرقى إلى مستوى التحدّي الذي لا يوفّر أحداً على ضفة الاعتدال. مثلُ هذا التحدّي لا يتطلّب من المعتدلين مجرّد إعلان النيّات والتبرّؤ مما يحدث، بل يتطلّب تواصلاً وتعادضاً وتضامناً وتكافلاً، أي نوعاً من السينودسيّة (السّير معاً)، بما يرقى إلى مستوى “نحن مسؤولون عن بعضنا بعضاً أمام الله والتاريخ”.
ما تقدّم لا يعبّر فقط عن ملاحظاتي واقتناعاتي الشخصية، بل يعبّر أيضاً عن ملاحظات واقتناعات كثيرين من المسيحيين في لبنان والمنطقة. ومما زادني إيماناً بما أقول أني وجدتُ في حاضرة الفاتيكان أذناً صاغية وقلباً مفتوحاً لمثل هذه الهواجس والرؤى، لا بل وجدتُ اهتماماً رسولياً فعلياً بأحوال المنطقة وأوضاع مسيحييها على نحو خاص وبطبيعة الحال. وذلك عندما تشرّفتُ أخيراً بلقاء إثنين من كبار المعنيّين بالشرق الأوسط في الفاتيكان، مدى ثلاث ساعات، وبتوسّط كريم من سعادة السفير البابوي في لبنان. وقد شدّ انتباهي أن اهتمام الفاتيكان لا يتركز فحسب على “وجود المسيحيين”، مجرّد وجودهم، بل يتركز أيضاً وخصوصاً على “حضورهم” الفاعل من خلال قيامهم بدور مفيد لهم ولمجمل أبناء المنطقة؛ وذلك عملاً بتعاليم الكنيسة المتواترة (الإرشاد الرسولي الخاص بلبنان 1997؛ نصوص المجمع البطريركي الماروني 2006؛ الإرشاد الرسولي الخاص بسلام الشرق الأوسط 2012… إلخ). كذلك وجدتُ اهتماماً خاصاً بما للبنان من دور متقدّم في هذا المجال، نظراً لتجربته الفريدة (“كنيسة خبيرة بالعيش المشترك، مثلما الكنيسة الرسولية الجامعة خبيرة بالسلام العالمي” – المجمع البطريركي الماروني 2006).
وأعتقد أن للكنيسة الكاثوليكية في العالم، والكنيسة المارونية في لبنان، دوراً اساسياً في التصدّي لظاهرة الإرهاب، أخلاقياً ومعنوياً وثقافياً وإيمانياً. وهذا الدور يستند إلى تاريخ طويل من الانفتاح على قضايا الإنسان في الشرق الأوسط، ولا سيما في العالم العربي:
– المجمع الفاتيكاني الثاني 1965، والذي قدّم مراجعة غير مسبوقة في تاريخ المسيحية، بخصوص النظر إلى الأديان الأخرى، ولا سيما الإسلام، كما بخصوص المصالحة بين الشرق والغرب.
– المجامع الفاتيكانية الخاصة بلبنان أو بأزمة الشرق الأوسط (1995، 2010)، بالإضافة إلى المجمع البطريركي الماروني 2006.
– الحوار الدائم مع المسلمين (منذ الفاتيكان الثاني)، والانفتاح على المرجعيات الإسلامية الدينية والزمنية (زيارة الملك عبدالله بن عبد العزيز للفاتيكان 2007؛ زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان 2016)، بالإضافة إلى زيارة البابا فرنسيس للقدس 2016 ودعوته إلى جعل مدينة القدس مفتوحة لكل الديانات الإبراهيمية… إلخ.
إن “لقاء سيدة الجبل” الذي قام على أساس الالتزام بتعاليم الكنيسة المارونية في المجال الوطني اللبناني، كما واكب منذ العام 2000 جميع النضالات الرامية إلى تعزيز دور لبنان بوصفه “رسالةً في محيطه والعالم”، بالإضافة إلى تواصله مع العالم العربي من خلال منظمات المجتمع المدني ذات الاهتمام المشترك، يتقدّم اليوم لأن يكون عضواً فاعلاً في ورشة الاعتدال العربي، كما في مساعي التضامن بين الاعتدالين العربي والأوروبي. وذلك فضلاً عن سعيه الدائم إلى الإرتقاء بالنشاط السياسي اللبناني إلى المعنى النبيل للسياسة، بوصفها عملاً لخدمة الكائن الإنساني والمواطنية الحقّة، دونما تمييز.
- الدكتور فارس سعيد هو رئيس “لقاء سيدة الجبل”