لم يعودوا شباباً هؤلاء المثقفين اليساريين، المتمسّكين بيساريتهم، مثل المتمسّك بهويته؛ وإن تحلق حولهم، في محيطهم الضيق، مريدون أو معجبون من عمر الزهور. وهم فئات وأنماط: بعضهم يساري انثربولوجياً، اذا جاز التعبير؛ أي انه لم يعُد مؤمناً، كما كان، بالماركسية اللينينية إيمان المهتدي بدين من أديان الدنيا، ولكنه يتصرّف كما لو ان قيم اليسار الاجتماعية و»الجمالية» هي خريطة طريقه. بعضهم الآخر احتفظ من عهده اليساري الذهبي بطريقة، أو اثنتين على الأكثر، في الكلام أو اللهو أو العمل أو حتى اللباس، يمكن وصف مجملها بالـ»بوهيمية»، أو «الهيبية». فيما ارتاح الآخر إلى مرارة زادت من كهولته وشجعته على انكماش أصبح الآن ميعاده، على ما يتصوّر.
وذهب البعض الآخر نحو الحل الأسهل، اي انه اهتدى إلى الايدولوجيا الدينية السائدة، وصار مناضلا في صفوفها، أو على أطرافها. والذي كان توقيته للهداية مبكرا، وله روح «القيادة»، باتَ «مناضلا» في قيادتها. كما أن هناك من حوّل نضاليته باتجاه حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والتنمية المستدامة والمجتمع المدني… فوجد سعادته في جمعيته الخاصة، وكانت يساريته، «الأخلاقية« خصوصا، أكثر من الفكرية أو الثقافية، ركناً من أركان انتمائه إليها.
آخرون احتضنتهم قناة «الجزيرة» ودولتها الغنية، فأصبحوا مواطنين ممتازين على أراضيها، يتمتّعون بصفة «مفكرين» وبمعاملة الشخصيات الهامة (VIP)، يواصلون النضال والتأثير «الجماهيري» من خلاله القناة. ومن نفس العيار «القيادي» لهذه الفئة الأخيرة، ولكن بعيدا عن «الجزيرة»، يبقى هؤلاء اليساريون الذين كانوا في شبابهم قياديين، «زعماء»، في أيام العزَ، وهم حافظوا على هذه الدرجة الرفيعة من اليسارية، موقعا ومقاربة.
والفئة الأخيرة هي التي ما زالت تسجل وجودها في المنابر وتمنحنا مواقف و»تحليلات» ماركسية، يسارية، وتشيد بالحياة المديدة للماركسية او اللينينية او اليسارية: فتفكر بصيغ من نوع «ماتت… لم تمت… أرادوا لها الموت… ولكنها حيّة». ولأن المجتمع اللبناني كان منقسما بين من يتوق إلى دولة وآخر يديم «المقاومة»، فان اليساريين أيضا منقسمون، بين محبّذ للأصولية الشيعية ومؤيد للأصولية السنية. وتجد من بينهم أيضاُ من يضع رجلا هنا وأخرى هناك. وهم منجرّون إلى محاور لصراع خارج من سيطرتهم واستيعابهم، فرضته المرحلة؛ فيبدون مفوّتين، يبشرون بمرحلة انقضت من هذا الصراع، وهذا خلط لا تستوي أمامه طليعية اليسار االقديمة، ولا محاور الصراع التي يرى اليساريون انها الأسلم لخوض «معاركهم» الثانوية، التي لا تنقص ولا تزيد قيد أنْملة من مجرياته. فالانقسام المذهبي الجديد في المنطقة يعوزه تحليل من نوع آخر، عدّة ثقافية أخرى.
وهذا الانقسام لا يبدو مهماً، أو حتى حاصلاً أحياناً، أمام مراوحة هؤلاء «الزعماء الفكريين» حول طروحاتهم القديمة، والتي يصمدون بواسطتها في وجه وقائع أفولهم. ما هي المادة الفكرية التي ينتجونها؟ السكاكين الحادة التي يواجهون بها كل من تسول له نفسه الخروج عن تفصيل من تفاصيل الآراء اليسارية، أو ضد المهتدين المتأخرين إلى الايدولوجيا الدينية المهيمنة. وأمر الاهتداء هذا هو الأكثر بساطة من بين المسارات الأخرى، نظرا لتشابه كنائس اليسار مع معابد الهيمنة الدينية الجديدة: من ايمانات صارمة، وطقوس ولاء، ورقابة ذهنية. يطلقون أقسى العبارات، ينعتون «خصمهم» الجديد بأبشع النعوت، يوجهون له الأسهم المسمومة… ثم يمضون بعد ذلك في إعادة تأكيد، للمرة الألف، بأن الماركسية لم تمت… الخ. ما هو مضمون «فكرهم»؟ ما هي جهود «فكرهم»؟ لا شيء تقريباً. صفر، اذا ما قيس بفداحة التغيرات وتعقّدها. يكتفون بلعن الطوائف مثلاً، أو الأنظمة أو الامبريالية والصهيونية طبعاً؛ ولكن اذا قارنتَ بين ما يكنّوه من عداء شرس ضد خصومهم من اليساريين السابقين، التحريفيين، وبين نعومة تناولهم للهيمنة الجديدة التي ازاحتهم عن عرشهم، تحار حقاً. لماذا لا يبرزون الا عندما «ينحرف» نفر من بينهم؟ ثم يعودون للانجراف في نهر الطوائف الأصولية وكأنه مجرى طبيعي من مجريات التاريخ؟
حسناً؛ اذا كانوا على هذه الدرجة من الهشاشة والخواء أمام ما يطرحه العصر من تحديات على «فكرهم»؟ ألا يراجعوا هذا الفكر؟ أو يقولوا انهم لم ينتبهوا إلى هذه او تلك من الظواهر المبكرة لتشقّق سقوفهم؟ ما الذي يجعلهم على هذا القدر من العنف مع «ذويهم»، وعلى نفس القدر من المهادنة لكل مكوّنات التركيبة الطائفية الأصولية التي فرضت سطوتها على البلاد؟ بدل الاكتفاء بتكرار عظمة فكرهم وتمجيد خلوده؟ وتحويل تحريضهم وتعبئتهم السابقين الى مجرد ثرْثرة يسارية؟
ربما لا يريدون فقدان مواقعهم «القيادية». تأخروا كثيرا، وكلما تمسكوا بالموقع، شعروا بالمزيد من التأخير. يخشون ربما العودة إلى حيث نشأوا، الصفوف «الجماهيرية» التي «قادوها» لعقود؛ لا يستطيعون تخيل أنفسهم من بين صفوفهم المتواضعة. الخوف من ذوَبان كل هذه «الشخصية» في المجهول، فيما كانت في عداد الملوك، من زمن ليس بعيد… كان اليسار سيد الموقف وبات في المؤخرة؟ كانوا في قيادة هذه المركبة الغارقة؟ لا بأس، يبقون على متنها، كقادة تاريخيين للسفينة، بالتكرار والتكرار من غير ملل، بأن «الماركسية لم تمت…». مثل الزعماء، يحاسِبون ولا يحاسَبون، يحافظون على عروشهم بقوة تراكم سنواتهم فيها. الزعامة عندهم سياسية، حزبية، اذن «فكرية» أيضا. ولكنهم لا يدركون، في ظل زعامتهم هذه، انهم يُستخدمون من قبل نفس هذه الهيمنة في إعطاء وجها «حداثيا» مقبولا، يسوّقون لها من دون ان يعوا ربما؛ ولكنهم يعطون الأولوية لزعامتهم التي لا يصونها الا حفاظهم هم على الميزان الفكري الجديد للقوى.
في بداية الستينات من القرن الماضي، كان ياسر عرفات وأبو جهاد، وهما عضوان في تنظيم «الإخوان المسلمين»، يخطّطان لتأسيس حركة «فتح». وقد تنبّها أثناء هذا الإعداد إلى ان الهيمنة الفكرية الكاسحة للناصرية ولمرادفاتها من تقدمية ويسارية، لن تتيح لهما ولتنظيمهما أخذ راحته بأفكاره الإسلامية. فالعهد الاستقلالي الجديد كان متفوقا على شيء آخر. وببراغماتيته المعروفة، استطاع عرفات ان يقنع صديقه بالتخلي عن الايدولوجيا الدينية واعتناق الناصرية وملحقاتها. طبعا كانت النتيجة التي يعلمها جميعنا: لا فلسطين استرجعت في ظل هذه القيادة المتحولة إلى دين جديد بسرعة بضعة اجتماعات حزبية. ولا الإيمان الجديد الناصري حصّن رجالها من التناحر. فما ان رحل الزعيم حتى انفجر الانقسام الفلسطيني بين دعاة الاخوانية والسلفية والجهادية من جهة، وبين دعاة ليبرالية «ديمقراطية» حداثية من جهة أخرى؛ مع رجحان قوي لدعاة الجهة الأولى. لكن الأمر الوحيد الذي أنجزه عرفات طوال حياته السياسية انه بقي زعيماً للفلسطينيين. وهذه غنيمة غالية، لا باس من قتل الناس من أجلها.
الآن، اذا كان ياسر عرفات معذوراً آنذاك، اذ كان شاباً، يملك الوقت للاعتقاد بأن تحايله على القدر سوف ينقذ فلسطين، فلم يستطع صون الا زعامته، فهل تكون مهادنة زعمائنا اليساريين وانحناءاتهم طريقة فذّة أخرى للحفاظ على مواقع غالية، أغلى من قناعاتهم، ربما أغلى من حياتهم؟
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل