ناديا الجندي، النجمة التلفزيونية التي تقمّصت هذه السنة شخصية الملكة نازلي، والدة الملك فاروق، شاركت في برنامج حواري حول المسلسل نفسه مع بقية الممثلين فضلا عن المخرج والسيناريست. لكنها لم تجلس مثل الباقين على كرسي عادي، بل فُصّل لها «كرسي ملوكي»، مرصّع بالذهب والاحجار الكريمة، وخَشَبها منحوت كما تُنحت كراسي الملوك عادة. فثارت ثائرة بقية الطاقم، خصوصا الممثل فارس حسام، الذي جسّد دور الملك فاروق، وقال محتجّا ان «هناك ملوكا آخرين» شاركوا في البرنامج ولم ينعموا بهكذا كرسي؛ ناهيك عن ممثلين آخرين، مثل محمود قابيل وكمال ابو رية اعتبروا ان جميعهم «ملوك ومع ذلك جلسوا على كراسي عامة الشعب«.
هذه ليست نكتة، بل واقعة مسجلة في أرشيف التلفزيون المصري، فرضتها النجمة على مخرج البرنامج، وأرادت من خلالها التأكيد على ما صار بديهة؛ من ان النجوم في الفن هم أصحاب السلطان في الحياة، وذلك مهما فقدوا من نضارتهم ومن قدراتهم التمثيلية ومهما هبط مستوى أدائهم. انهم نجوم رمضان، الذين تطول لائحتهم. لا يكتفون بالاطلالة عبر المسلسل، بل يمتد ظهورهم إلى البرامج التي تسألهم عن هذه المسلسلات وعن الشخصيات التي جّسدوها وعمق معرفتهم… لا يكتفون بتجسيد شخصيات مثالية دائما، لها القوة والجمال والاخلاق والنجاح والجاذبية الجنسية والشباب، بل هم يتصرفون في الواقع على انهم كذلك. ولن يحتجبوا في شهر شوال، بل سوف يدورون في الندوات والتكريمات ليدلوا لنا بأبعاد الشخصية الخارقة التي جسدوا، وكل ما يحيط بها من عوامل ثقافية وتارخية واجتماعية الخ. وقصة ناديا الجندي مع «الكرسي الملكي» ليست سوى غيض من فيض سطوة النجوم على مخيلة متابعي اعمالهم، وهم يعدّون بالملايين.
الميزانيات الضخمة الموضوعة للمسلسل الواحد والتي تبتلعها الاجور الخيالية للنجوم ظاهرة فرعية من سطوة هؤلاء. أجور خيالية تصل إلى 14 مليون جنيه أجر يحيى الفخراني في دوره «شيخ العرب همام»، 9 ملايين ليسرا في بطولتها لمسلسل «بالشمع الاحمر»، و 7 ملايين لإلهام شاهين لدور البنت العزباء في «امرأة في ورطة»… وإلى ما هنالك. «الغيرة الشعبية» على مبالغ موزّعة على 60 مسلسلا هذه السنة (مقابل 90 مسلسلا عربيا تلفزيونيا آخر) لا تلغي المتابعة ولا الاهتمام بتفاصيل صغيرة وربما تافهة عن انصاف الآلهة هؤلاء. المحامي الحذق نبيه الوحش، المتخصص في رفع قضايا تشفي غليل «الشعب»، وبالنيابة عنه، وجد في هذه الاجور ضالته، بعدما تعثر مؤخرا في تكفير كتاب وشعراء؛ فكانت دعواه غير اليتيمة، التي أرسل بموجبها إنذارا إلى التلفزيون المصري الرسمي، يطالبه فيه بوقف تصوير مسلسلات رمضان التي «تستنزف موازنة الدولة«.
النجوم لا يكتفون بكل ذلك، بل يتصرفون مثل المورّثين من أصحاب السلطة السياسية، ويوحون بأنهم متميزون عنهم بـ»فنهم». العائلة كلها تشترك في مسلسل «كليوباترا»: الأم، سلاف فواخرجي، الزوج، وائل رمضان، والابن حمزة رمضان. هي كليوياترا وهو المخرج والبطل العاشق انطونيو في الآن عينه، والابن هو بطليموس الثالث عشر، ابنها؛ وتقول عنه سلاف الفواخرجي بأنها «لم تتدخل لا هي ولا زوجها في تزكية ابنهما للدور بل انه استحقه عن جدارة بعد سلسلة اختبارات». والنتيجة التي شاهدها الجميع على الشاشة الصغيرة: الفشل الذريع للثلاثة. لم يسعفهم لا مجد سلاف في «أسمهان»، ولا الميزانية، الضخمة ايضا، المخصصة للأجور وللاكسسوارات. وسلاف الفواخرجي ليست سوى نقطة في بحر من ورّثوا وما زالوا، موهبتهم الفذة لأبنائهم وزوجاتهم….
الدعاوى المرفوعة ضد كتاب بعض المسلسلات ظاهرة ثانية تلفزيونية – رمضانية: الدعوى التي رفعها سيف الاسلام حسن البنا ضد مسلسل «الجماعة»، أي «الاخوان المسلمون»، ضد الكاتب وحيد حامد والشركة المنتجة، وذلك، برأيه، رفعا للإساءة التي تعرّضت لها الجماعة ومؤسسها، حسن البنا، في المسلسل. وهناك الدعوى ضد مسلسل «شيخ العرب همام» من قبل أبناء القبيلة الصعايدة أحفاد الشيخ، ولنفس الحيثية: الاساءة إلى جدهم الأكبر. فضلا عن اعتراض عدد من المؤرخين على «مغالطات تاريخية» وقع فيها كاتب المسلسل عندما شوّه، برأيهم، صورة أول قائد لانشاء جمهورية مستقلة في الجنوب الصعيدي، متمرّد على سلاطين عصره، المماليك. ثم الدعاوى المُقامة أو التي سوف تُقام ضد البرامج الحوارية، خصوصا برنامج اللبنانيَين نضال أحمدية وطوني خليفة، اللذين استضافتهما القاهرة، وهما نجوم الحوارات الفضائحية. في الشهر الفضيل مطلوب من هذه البرامج جرعات من الاثارة الرخيصة، تتعلق كلها بأسرار النجوم الحميمة، يستخرجها المذيعان إلى العلن من أفواه نجوم آخرين: نميمة على الشاشة، من العيار الثقيل، حوّلت هذه البرامج إلى ساحات فضائح شخصية، سوف يجد كل نجم معني بها مجالا للانتقام عبر الدعاوى القانونية، أو عبر شيء آخر.
الحملات والاحتجاجات أيضا، على السمعة خصوصا: هجوم الصحافة المغربية على مسلسل «العار»، الذي تؤدي فيه الفنانة المغربية ايمان شاكر دور العاهرة. وإقفال هواة الشبكة المغاربة للموقع الرسمي للمسلسل لساعات… ثم الحملة الصحافية حول الموضوع: صحيفة «المساء» المغربية، وقد كتب رئيس تحريرها رشيد نيني: «هؤلاء العربان لا يعرفون شيئا ويتصورون ان المغربيات هن فقط اولئك الفتيات البائسات اللواتي يشترونهم بعقودهم الشبيهة بعقود العبيد ويتاجرون بشرفهم في مواخيرهم….». نفس الغيظ تجده لدى نقابة التمريض على الفنانة غادة عبد الرازق التي تجسّد دور ممرضة في مسلسل «زهرة وازواجها الخمسة»؛ وقد تقدّم نقيب الممرّضين، فتحي البنا، بمذكرة إلى وزير الصحة يطالب فيها بايقاف المسلسل لأنه «يسيء إلى سمعة الممرضات المصريات».
مسلسلان هذه السنة اهتما بالمرأة العازبة. «عايزة اتجوز» المأخوذ من كتاب غادة عبد العال بالعنوان نفسه، بطولة هند صبري، ومسلسل «نعم ما زلت آنسة» بطولة إلهام شاهين. الاول كان عبارة عن كاريكاتور للكتاب المدونة، ويحتج عليه السوريون لأنه، برأيهم، منسوخ حرفيا عن مسلسل قدموه العام الماضي بعنوان «امرأة في ورطة». فيما الثاني عانى من الضعف والمبالغة والاساءة طبعا إلى صورة المرأة التي لم تشأ الزواج أو لم تسنح لها الفرصة المناسبة. ولكن تعدد الزوجات هو الحل الأمثل، كما يبوح عدد آخر من المسلسلات. وفي معظم الحالات رجال مسنون يقترنون بصغيرات، بعد زواج أول وثانٍ: يحيى الفخراني، وهو كبير السن، يتزوج ريهام عبد الغفور على صابرين التي تقوم بخطبتها له لكي ينجب، لظنها أنها عقيمة. أما الباشا صلاح السعدني في «بيت الباشا»، فيتزوج من فتاة للمرة الثالثة على زوجتيه حنان ترك وفريدة سيف النصر. فيما حسن حسني («العار») يتزوج علا غانم، فتاة مطلقة، على زوجته الاولى عفاف شعيب بحجة انها لم تعد قادرة على تلبية «متطلباتة الزوجية». ثم حسن يوسف، في مسلسل «زهرة وأزواجها الخمسة»: انه رجل عجوز، متزوج من امرأتين، يقع في حب الممرضة التي تتابع حالتة الصحية في احد المستشفيات. ليست هذه الظاهرة مجرد تتمة لمسلسل «الحاج متولي» الذي عُرض منذ سبع سنوات وكان تدشينا للدراما الدائرة حول زوج وعدة زوجات، بل هي أيضا ترسيخ لواقع صار قائما ولا يقتصر على البيئات التقليدية: انه التلفزيون الذي يلبّي ذائقة منتشرة، لا تحتاج لمن يمنحها الشرعية. التلفزيون مثل الزعماء، يدغدغ غرائز…
«الفايس بوك» دخل على خط الاحتجاج والتسويق ايضا: تأسست على الشبكة الاجتماعية هذه السنة مجموعتان: واحدة تقاطع المسلسلات الرمضانية بنفحة نضالية واضحة، محتجّة على «هبوط المستوى»، على التكرار، على التفاهة، على التفكك الدرامي، على الاخطاء التقنية… الخ. وتقف بوجهها مجموعة نقيض، تغازل التلفزيون والنجوم وتشجّع، بنَفَس لا يقل نضالية، على إرتياد الشاشة الصغيرة. «الاخوان المسلمون» أنشأوا على «الفايس بوك» أيضا مجموعتهم المدافعة عن صورتهم وصورة مؤسسهم التي أساء اليها بحسبهم مسلسل «الجماعة»، فيما دشن خالد الصاوي مجموعة أخرى تسوّق له عبر مسابقة يسميها «ذكية» تدفع المشترك فيها إلى المتابعة المنتبهة والمركّزة للمسلسل الذي يقوم ببطولته في «أهل كايرو«.
ولكن أكثر ما يسم مسلسلات رمضان هو تحولها، سنة بعد اخرى، إلى ما يشبه «عمل المقاولات» الذي عرفت به السينما المصرية في سبعينات القرن الماضي: وهي افلام كانت تصوَّر على عجل، تحت الطلب، برداءة تطال كل شيء من التمثيل إلى السيناريو إلى المونتاج… الحلقات «تنزل» إلى الشاشة، على نفس الوتيرة، وما زالت تتماتها قيد التصوير: مسلسل «القوي جدا» مثلا توقف تصويره، وتوقفت بالتالي حلقاته، لأن بطله، أحمد مكي، أصيب بتمزّق في أربطة القدم. فيما أصيب صلاح السعدني بالارهاق نتيجة وصله الليل بالنهار أثناء تصويره «بيت الباشا». وقد رصد أحدهم مجموعة أخطاء وقعت فيها مسلسلات بعينها حيث «ظهرت أزياء وأكسسوارات مختلفة بين مشاهد ومشاهد أخرى، وتكرر وجود أشخاص من الكومبارس في مشاهد وأماكن يجب الا يظهروا فيها«.
ولكي لا نستفيض، نتوقف عند سالفة «باروكة» صابرين: المعروف ان صابرين من الفنانات اللواتي تحجبن في السنوات الاخيرة. ولكنها، كما تقول، بما انها تحترم السياقات الدرامية، وجدت ان الابقاء على الحجاب في مشهد مع الزوج، حيث لا لزوم لتغطية الشعر، من العبثيات الفنية. فوجدت الحل بأن لا تظهر شعرها، بل تضع على رأسها شعرا مستعارا، «باروكة»؛ فأشعلت بذلك سجالا على الشبكة وفي صفحات الجرائد، سوف يستمر هو ايضا في شهر شوال: بين من يرى في ذلك «بدعة»، أو «تحايلا» على الدين، وبين من يمتدح براغماتيتها وحبها للفن على الرغم من تقواها.
هل بات الوعي الاجتماعي، السياسي، أو الثقافي يتشكّل بواسطة هذه المسلسلات وظواهرها وكل الضجبج الذي تثيره؟ وهل من قيمة لهكذا وعي؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل