يتساءل الكثيرون عما يريده التايلانديون من ذوي القمصان الحمراء من أعضاء “الجبهة المتحدة من أجل الديمقراطية ضد الديكتاتورية” المناصرين لرئيس الوزراء الأسبق المعزول “تاكسين شيناواترا”؟
قد تبدو الإجابة الأولية هي أنهم فئة تواقة إلى إرساء الديمقراطية، ومحو مظاهر الديكتاتورية، مثلما يوحي إسمها! لكن هل من يتطلع إلى تحقيق هذا الهدف النبيل فعلا يلجأ إلى تدمير إقتصاد بلده وضرب مقومات هذا الإقتصاد والمتجسد أساسا في الصناعة السياحية (تساهم بنحو 6.5 بالمئة من الناتج المحلي الكلي)، وقطاع الخدمات (ولا سيما الخدمات المصرفية التي تجذب كبريات المصارف العالمية)، خصوصا وأن الشعب لم يكد يصدق أنه تجاوز الأرقام السالبة وإنتقل إلى الأرقام الإيجابية في ما خص معدلات الناتج المحلي الإجمالي؟
غير أن الإستغراب والدهشة يزولان حينما نعلم أن عملية ضرب الإقتصاد مقصودة، وذلك بغية منع الإئتلاف الحاكم بقيادة زعيم “الحزب الديمقراطي” / رئيس الحكومة “أبهيسيت فيجاجيفا” من إستثمار ما حققه من رفع معدلات الناتج المحلي الكلي إلى 5 بالمئة خلال العام الحالي لصالح حزبه في الإنتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها رسميا في عام 2011. هذه الإنتخابات التي قد يضطر “فيجاجيفا” إلى تقديم موعدها إذا ما نجحت ضغوط قوى المعارضة التي يحركها “شيناواترا” من منفاه الإختياري. أما الدليل فيمكن للمتابع أن يستنبطه من لجؤ ذوي القمصان الحمراء إلى التظاهر والإعتصام والدخول في عمليات كر وفر مع قوات الأمن في مواقع حساسة من العاصمة بانكوك، وتحديدا شريانها المالي المتجسد في محيط شارع “سيلوم” (حيث يوجد مقر “بنك بانكوك” الذي يعتبر من أكبر مؤسسات البلاد المالية وأكثرها إحتضانا للإستثمارات الأجنبية)، ثم قلبها التجاري المتجسد في محيط مركز التجارة العالمي الذي تم تجديده مؤخرا.
إن ما حدث ويحدث في تايلاند من مماحكات سياسية بين الحكم والمعارضة والمؤسسة العسكرية، ليس أمرا جديدا على هذه البلاد، بطبيعة الحال، لأن تاريخها المعاصر مليء بأحداث متشابهة. غير أن الجديد هذه المرة هو تحول تلك المماحكات إلى ما يشبه الصراع الطبقي الذي يغذيه “شيناواترا” عبر إدعائه بأنه يعمل من أجل الفقراء، وأن عودته إلى الحكم كفيل بمحو الفقر نهائيا من البلاد خلال عام واحد فقط، فيما تعمل حكومة “فيجاجيفا” – حسب قوله – لصالح الطبقات الأرستقراطية والمدينية (نسبة إلى المدينة) والنخب المتعلمة فقط. هذا في الوقت الذي يتهمه فيه خصومه بأنه لا يعمل إلا من أجل مصالحه الخاصة، وأنه يستغل الثروات الطائلة، التي كونها من الإشتغال في مجال الإتصالات والمضاربة العقارية والتعامل في سوق الأسهم، في شراء الولاء والذمم والأصوات الإنتخابية عبر إقامة بعض المشاريع التنموية في معقله الإنتخابي في شمال تايلاند، مستغلا فقر مواطني تلك المناطق، وإستعدادهم لمناصرة أي سياسي يخفف من أزماتهم المعيشية بغض النظر عن أهدافه ومقاصده النهائية. بل يذهب خصوم الرجل أبعد من ذلك للقول بأن طموحات “شيناواترا” لا حدود لها، وبالتالي فهو يستهدف في نهاية المطاف النظام الملكي، مستغلا الظروف الصحية الحرجة لعاهل البلاد الملك “بهوميبون أدونياديت” وتقدمه في العمر وعدم تمتع ولي عهده الأمير “فاجيرالونغكورن” البالغ من العمر 53 عاما بشعبية جارفة. ولعل ما يساعد على رواج مثل هذه الإدعاءات وغيرها وتداول الشارع لها بكثافة والإختلاف حولها عدة أمور:
أولها الماضي الراديكالي لقادة الحراك الجماهيري ضد الحكومة. إذ أن معظم زعماء ذوي القمصان الحمراء تعود جذورهم الفكرية إلى الحزب الشيوعي التايلاندي الذي كان ناشطا في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، وبالتالي فهم من جهة ضد النظام الملكي والإقتصاد الحر، ومن جهة أخرى مشبعون بفكرة “عبادة الشخصية” أو تأليه وطاعة الزعيم الفرد، الذي يتجسد هنا في “تاكسين شيناواترا”، على الرغم من برجوازية الأخير وجذوره الإقطاعية ورأسماليته، بل وأيضا على الرغم من إنحدار أحد أقرب مستشاريه للشئون الحكومية وهو الصحافي السابق “بانساك فينياراتن” من النخب الراسمالية المنخرطة في الأعمال المصرفية.
وثانيها ما صدر عن “شيناواترا” مرارا وتكرارا من إتهامات للقصر، وخصوصا رئيس الخاصة الملكية/ رئيس الوزراء الأسبق الجنرال المتقاعد “بريم تنسولانوندا”، بأنه كان المحرك الرئيسي وراء إبعاده عن السلطة من خلال الإنقلاب العسكري الذي قاده قائد القوات المسلحة الجنرال المسلم “سونتي بونياراتغلين”، المعروف أيضا بإسم عبدالله في عام 2006 . هذا ناهيك عن توجيه “شيناواترا” لأنصاره من ذوي القمصان الحمر للقيام باعمال تخريب وتفجير في المواقع التي تعود ملكيتها إلى “دائرة أملاك التاج”.
وثالثها أن “شيناواترا” – طبقا لوزير المالية الحالي “كورن تشاتيكافانيج”- لئن كان بالفعل قد أحدث نقلة نوعية في حياة الفقراء من أبناء المقاطعات الشمالية النائية عبر توفير الكثير من القروض الزراعية وخدمات التعليم والصحة والكهرباء والري لهم، فإنه فشل في إيجاد فرص إقتصادية متساوية أمام السواد الأعظم من التايلانديين أثناء فترة وجوده الطويلة في السلطة، فيما إستطاعت حكومة “فيجاجيفا” أن تفعل ذلك خلال عام واحد فقط من وجودها في الحكم. وطبقا للوزير نفسه فإن شيناواترا وأنصاره يروجون لكذبة كبيرة دون أن يدركوا حقيقة بسيطة هي ” أنه لكي تصدق الجماهير كذبتك، فيجب ألا تقدمها عارية، وإنما تقرنها بشيء من الحقائق”!
في خضم أحداث تايلاند السياسية التي تحولت للأسف إلى مصادمات وإشتباكات و تفجير للقنابل اليدوية في الأسبوع الثاني من إبريل المنصرم (أسفرت عن 24 قتيلا بينهم خمسة عسكريين، ونحو 800 جريح)، توجهت الأنظار كالعادة إلى القصر الملكي عل الملك العليل وعميد ملوك العالم (نودي به ملكا في عام 1938 ، وتوج رسميا في عام 1946 ) يصدر بيانا يكون بمثابة الحل الشافي لأوجاع البلاد، على غرار ما فعله في مرات سابقة، إنطلاقا من صلاحياته الدستورية وما يحظى به من منزلة سامية تقترب من حدود التقديس. غير أن القصر آثر أن يصمت، متجاهلا النداءات التي وجهها إليه قادة “الجبهة المتحدة” بضرورة التدخل في الأزمة، ومكتفيا بمشاركة الملكة “سريكيت” في جنازة العقيد “رومكلاو توواتام” الذي قتل في مصادمات العاشر من أبريل، وزيارتها للجنود المصابين في الواقعة نفسها.
وفي خضم هذه التطورات برز موضوع آخر شغل المراقبين هو دور قائد الجيش الجنرال “أنوبونغ باوتشيندا” في ما حصل، وذلك على ضؤ إتهامات وجهتها له المعارضة بمسئوليته عن إلقاء الجيش للقنابل اليدوية في الثاني والعشرين من الشهر الماضي كي يوجد مبررا قويا لإستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين العزل (أسفرت حادثة إلقاء القنابل عن قتيل واحد و85 جريحا)، ثم على ضؤ ما تردد من وجود صراع داخل المؤسسة العسكرية بدليل أن كل القتلى من العسكريين كانوا من الموالين لرئيس الأركان الجنرال “برايوت تشان أوتشا” الذي ينتظر أن يخلف “باوتشيندا” في قيادة الجيش في وقت لاحق من العام الجاري، أي حينما يصدر الملك مرسومه السنوي الخاص بالترقيات وحركة التنقلات في المناصب العسكرية العليا، ثم بدليل تسريب معلومات مهمة إلى المعارضة مسبقا حول تحركات قوات الجيش والشرطة ومواقع تمركزها داخل العاصمة والضواحي.
وبغض النظر عن مدى صحة هذه المزاعم من عدمها، فإن إعلان حكومة “فيجاجيفا” حالة الطواريء في العاصمة وبعض الأقاليم في السابع من إبريل المنصرم، أعطى قوات الجيش والشرطة صلاحية إستخدام العنف ضد المتظاهرين والمحتجين، حتى وإن إشترط ذلك بحالات محدودة أهمها حالة الدفاع عن النفس.
ويتنبأ أغلب متابعي الشئون التايلاندية، بأن الأوضاع في هذه البلاد قد تتطور وتأخذ منحى أكثر خطورة، إذا ما أعلن رئيس الحكومة الأحكام العرفية، خصوصا وأن ضغوطا كبيرة باتت تمارس عليه أولا من قبل أنصاره الذين يميزون أنفسهم عن أنصار المعارضة بإرتداء القمصان الصفراء، وثانيا من قبل أصحاب المصالح والأعمال المتضررة من حالة الإحتقان السياسي الراهن، وجل هؤلاء – وهنا تأتي المفارقة – من ذوي الأصول الصينية أي تماما مثل “تاكسين شيناواترا” الذي هاجر جده “سينغ ساي خو” إلى تايلاند من إقليم “غواندونغ” الصيني في منتصف القرن الثامن عشر، قبل أن يستقر به المقام في إقليم “شانغماي” الشمالي ويتزوج وينجب إبنه البكر”تشيانغ ساي خو” الذي إنتقى لنفسه إسما تايلانديا هو “شيناواترا”.
وتأتي خطورة إعلان حالة الطواريء من أنه خطوة سوف تطلق يد الحكومة لجهة إستخدام كل ما في يد أجهزة الجيش والشرطة لكبح جماح ذوي القمصان الحمراء، ومقاومتهم، والسيطرة عليهم، وتنظيف الشوارع والأحياء والميادين منهم، فضلا عن إعتقال قادتهم وتقديمهم إلى محاكم عسكرية. علاوة على ذلك فإن مثل تلك الخطوة سوف تباعد ما بين الطرفين المتصارعين أكثر، وتجعل من فرضية توصلهما إلى حلول وسط بالحوار والتفاوض أمرا مستبعدا، خصوصا وأن “فيجاجيفا” ظهر في الخامس والعشرين من إبريل المنصرم برفقة قائد الجيش على شاشات التلفزة الحكومية ليرفض رفضا قاطعا موضوع إستقالة حكومته، وليرفض ايضا مقترحا من ذوي القمصان الحمراء حول الدخول في حوار مشروط بحل البرلمان خلال شهر وإجراء إنتخابات نيابية جديدة خلال ثلاثة أشهر.
elmadani@batelco.com.bh
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين