لم يكن شيخاً.
أعني حسن البنا.
لا.
كما لم يكن إماماً، لا أكبر ولا أصغر.
كان معلماً في مدرسة إبتدائية بمدينة الإسماعيلية في مصر..
ووجهته الدينية بدأت عندما أصبح من مريدي شيخ الطريقة الحصافية الصوفية، عبدالوهاب الحصافي. ذاك الذي كان يوصي مريديه دوماً، بألا يرددوا كلام “الملاحدة والزنادقة والمبشرين”.
فتأثر الشاب. ثم خرج علينا بحزب سياسي. الأخوان المسلمين.
حسن البنا عاش في بدايات القرن العشرين.
فترة مخاض.
العالم يتغير بسرعة تسرق الأنفاس. الأفكار تتوالد وهي تلهث، ثم ترفس ماكان قبلها كي تحل محلها، عادات وتقاليد تزول، تزيحها انماطٌ اخرى بقيم جديدة، ودول عظمي تتهاوى، لتحل محلها اخرى.
العالم كان يتغير، و يعيش فترة مخاض.
وحسن البنا عايش هذه الفترة. بكل ما فيها من تغيير. بكل ما فيها من تجديد. وبكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
بكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
*
عايش فترة بدأت فيه نساء الطبقة الوسطي والعليا في مصر في الخروج من الحرملك.
خرجن من الحرملك – تقليد وعادة اخذتها مصر عن أتراك الدولة العثمانية.
يفصل فيها المقتدرون نسائهم ويعزلونهم عن العالم.
كسرن القيد. وبدأن في خلع النقاب. الواحدة بعد الأخرى. خرجن من الظلام إلى الحياة. أردن أن يتعلمن، أردن أن يعيشن. يتنفسن هواءاً طلقاً، ويمارسن دورهن في مجتمعهن.
أردن أن يكَنَ.
ما أجمل الحياة عندما نعيشها.
وأقول المقتدرين من المصريين عامدة.
فالغالبية الساحقة من الشعب المصري، التي كانت تعيش في الأرياف، لم تكن لتفكر في مثل هذا “الترف الإقصائي”. في فصل نسائهن في حرملك. ما كانت قادرة على ذلك. فالمرأة والرجل كانا يعملان معاً في الحقل، يزرعان الأرض بأيديهما، ولأنهما جزءاً من الطبيعة، لم يكن من الطبيعي أن ترتدي المرأة الفلاحة رداءا أسوداً يقيد حركتها وهي تعمل، كما لم يكن من الطبيعي أن تغطي وجهها وتخنق أنفاسها، وهي تنحني على الأرض تبذر، تزرع، تسمد، وتحصد. وفوق كل هذا ترعى أسرتها واطفالها.
كانت عادة، عادة غير طبيعية. ضد طبيعة الإنسان. تخنق المرأة. تقيدها في شرنقة. وتمنعها من ان تمارس حياتها كما اراد الخالق لها أن تُمارس. فنبذتها المرأة المصرية الفلاحة.
ما أجمل الحكمة عندما ندركها بالفطرة.
فقط المقتدرون كانوا قادرين على عزل نسائهم. لم يكونوا حكماء. كانوا مقلدين. قلدوا غيرهم دون أن يفكروا. ففرضوا التعاسة على نسائهم.
لكن الزمن كان يتغير، والنساء أدركن بعد أن تعلمن وقرأن أن عزلهن قيدٌ يتناقض مع الطبيعة. وأنها عادة. فقط عادة، يمكن تغييرها، وإدانتها ايضا.
فخلعن النقاب.
*
أنتِ ايضاً قادرة اليوم على خلعه.
أخلعيه أنتِ أيضاً.
وأخرجي إلى الحياة.
وكوني.
كوني ما تريدين.
*
حسن البنا عايش هذه الفترة.
كان يرى تغييراً إجتماعياً يتجسد امام عينيه.
لم ير فقط النساء يخرجن من الحرملك. بل رأى المجتمع كله يتغير.
المرأة تخرج لتتعلم، والأسر معها تتغير.
والقيم تتغير.
فزع يتغلل في نفس حسن البنا. عالمه يتهاوى. يتمدن. الحداثة تمتد إليه. وهو يقف جامداً. لا يريد أن يتغير. لايريد أن يتمدن. يريد عالمه كما كان.
*
الأهم، أن حسن البنا كان يرى العالم السياسي كما فهمه يتهاوى أما ناظريه.
الدولة العثمانية، الخلافة الإسلامية كما كان يسميها، تنهار.
انقسمت اجزاءها، تبعثرت، بعضها استقل، وغيرها إُستعمر، او وُضع تحت وصاية.
والدولة العثمانية نفسها، إنكمشت لتصبح الدولة التركية.
والدولة التركية، أمله، تلك التي كان يأمل أن ترفع لواء الخلافة، رفضت رفع ذلك اللواء. كانت حكيمة هي الأخرى.
أدركت، لحسن حظها، أن الزمان غير الزمان، وأن المستقبل لدولة حديثة، لا لخلافة عثمانية متهرئة متهالكة.
المستقبل للحداثة.
كمال أتاتورك جاء، الغى منصب الخلافة، عزل الخليفة، وأحل محل نظام الخلافة نظاماً جمهورياً يقوم على مبدأ القومية الوطنية: “نحن أتراك. ومسؤوليتنا تجاه وطننا. تركيا”.
فتهاوى النظام السياسي الذي اعتبره حسن البنا نموذجه.
كان أتاتورك رجلاً طموحاً لديه رؤية للمستقبل، ادرك أن تركيا التي يحلم بها لن تكون قوية ما لم تكن مهيئة للمستقبل، ولكي تكون كذلك، عليها أن تتبنى نظاماً سياسياً جديداً، يمُكنها من الدخول إلى الحداثة.
فجعل العلمانية أساس الدولة التركية الحديثة.
فَصلَ الدين عن الدولة.
لم يقل للناس كفوا عن الإيمان بالله.
كل ما قاله، ان الدين مكانه الحيز الخاص.
*
أن تؤمن أو لا تؤمن شأنك أنتَ وأنتِ. شأنكما الخاص.
لكن الحيز العام لا يحكمه الدين. الدين ينظم علاقة الإنسان بالله. لكن علاقة الإنسان بالدولة يحكمها القانون. والقانون يجب ان يكون علمانياً كي تستطيع الدولة ان تتعامل مع مواطنيها بحياد، أياً كان هذا المواطن: مسلماً، ملحداً، سنياً، صوفياً، شيعياً، مسيحياً، يهودياً، رجلاً، إمرأة…
المواطنة هي المحك.
لا الدين.
الدين لا يجب ان نقحمه في تنظيم حياتنا السياسية والقانونية والإجتماعية (قوانين العائلة).
مكانه الحيز الخاص. حيث تؤمن أو لاتؤمن. وعندما تضعه في ذلك الحيز، يمكنك بالفعل ان تكتشف معنى الروحانية. إذا رغبت في إكتشاف تلك الروحانية.
*
ولهذا اعتبرُ العلمانية الجوهر الذي لا يمكن الإستغناء عنه لبناء دولة مدنية حديثة.
لا اعتبرها شتيمة. لا اعتبرها بعباً يخيف.
بل أقولها ببساطة: أنا علمانية.
علمانية.
ثم أضيف عبارة :علمانية مدعمة بأحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، كي لا نسقط في الفخ الذي سقطت فيه تركيا بعد أتاتورك. كانت علمانية، لكنها لم تحترم حقوق أقليتها الكردية، وكانت شرسة في العقود الأولى في قمعها لحرية التعبير.
*
أتاتورك لم يكتف بذلك.
زاد على ذلك بأن أدرك، وكان على حق مرة أخرى، أن التغيير إلى الحداثة كي يتجسد يبدأ مع المرأة.
منع النقاب.
وسن القوانين، الواحدة تلو الأخرى.
منح المرأة حقوقها السياسية، ثم غير قوانين الأسرة، وحولها إلى قوانين مدنية بعد أن كانت مستمدة من قواعد الشريعة الإسلامية، وتبنى القانون السويسري للعائلة، الذي وإن كان أبوياً في رؤيته وقواعده، إلا أنه مهد الطريق لمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في العلاقات العائلية.
لم يعد من حق الرجل ان يطلق زوجته بكلمات ثلاث: طالق، طالق، طالق.
بل أصبح من حق الرجل والمرأة الطلاق من خلال تقديم طلب إلى محكمة مدنية محايدة.
كمال أتاتورك كان يرى المستقبل بعينيه.
يراه.
وكان يدري أن الدولة العصرية تحتاج إلى إسرة مكونة من رجل وإمرأة، وعددٍ من الأطفال، حبذا لو كانا طفلين.
الدولة القبلية في المقابل، تحتاج إلى رجل واربع زوجات وجيش من الأطفال.
لكن دولة القبائل لا تحمي الإنسان فيها.
دولة القبائل تقتل الإنسان فيها.
ولأن المستقبل للحداثة، أرادها أتاتورك معاصرة.
*
وحسن البنا كان يتابع كل هذا.
من بعيد.
من مصر.
يرى العالم كما يتمناه، كما يتصوره، ينهار، يتغير، يتبدل.
وهو لا يريده أن يتغير.
لا يريد المرأة كما ارادها أتاتورك.
لا يريد الدولة كما نظمها أتاتورك.
لايريد المجتمع والأسرة كما تصورها أتاتورك.
فخرج علينا ببدايات فكر حزب الأخوان المسلمين السياسي.
هو حزب. وسياسي. يستخدم الدين كغطاء. غطاء فقط.
وفكره في الواقع لم يكن أكثر من محاولة يائسة من شخص متدين للوقوف امام زحف الحداثة.
لا يريدها دولة حديثة، لا يريدها وطناً لمواطنين متساويين أمام القانون، تماماً كما لايريدها إمرأة حديثة.
اساس ذلك الفكر كما روج لها حسن البنا تتلخص ببساطة في كلمات ثلاثة: “الشريعة، الجهاد، الأمة، “.
*
في المقال القادم سأبدأ بكلمة الشريعة كما وصفها حسن البنا، ثم اعرض لكما موقفي الذي يتلخص في عبارة “حان الوقت كي نكف عن إستخدام الشريعة في تنظيم شؤون الأسرة والحياة”.
إلهام مانع
“معاً مع حسن البنا ضد الحداثة”! “المحظورة” : اسم الدلع هنالك توسع (افقي) “لأيديولوجية” الاخوان المسلمين خارج (مصر) حيث ولدت ونشأت وتطورت , هذا التوسع محكوم بالانحسار (الحتمي) .. في العراق وبلاد الشام (اولا) لأصالة تراث (المقاومة) .. وفي الجزيرة العربية (ثانيا) لأصالة تراث (القبيلة) .. وفي المغرب العربي (ثالثا) لأصالة تراث (الأحياء والعودة) , على التوالي من حيث الترقيم الذي يعكس نسبة الاضمحلال “فهي لن تنتهي بالكامل” . وتبقى (مصر) حالة خاصة خارج هذا التصنيف وموجهة له بمتعلق السرعة والبطء … امريكا اللاتينية واستراليا خارج ثنائية (المد والانحسار) .. اوروبا توازي “ولا تطابق” المغرب العربي .. اما امريكا الشمالية… قراءة المزيد ..