استمرار النظرة التقليدية وتبدلها مسألة التقدم
دخلت العلاقات الأوروبية ـ الإسلامية عصراً جديداً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وليس سقوط القسطنطينية سوى علامة على بروز قوتين: الدولة العثمانية لجهة الشرق، وأوروبا الغربية في الجهة المقابلة، وقد أدى ذلك إلى أن العثمانيين وضعوا بمجابهة مع العالم اللاتيني الذي لا يعرفون الكثير عنه. إذ إن نظرة العالم الإسلامي إلى العالم اللاتيني، كما يلاحظ غرونباوم : كان يغشاها من الإبهام النسبي ما جعل القرابة الأساسية في الأفكار والاتجاهات أكثر وضوحاً بين اليونان والعرب، منها بين العرب واللاتين . لكن ومن جهة أخرى فإن هذه المجابهة بين الدولة العثمانية وأوروبا الغربية بسبب زوال البيزنطيين والإسلام الأندلسي قد حتمت على كل قوة من القوتين أن تزيد معرفتها بالأخرى. ومع مرور الوقت فإن كل قوة أخذت تنظر إلى قوة الآخر كواقع سياسي وعسكري قبل كل شيء ، على الرغم من أن العواطف الدينية كانت لا تزال تملك تأثيراً قوياً على الأفراد والجماعات.
وإذا كان الإسلام العثماني يشكل خطراً بادياً في وسط أوروبا يستشعره الغرب بمجمله، فإن الغرب كان يشكل خطراً متزايداً في شمالي أفريقيا وفي بحر العرب والمحيط الهندي. كانت البحرية الأوروبية تكتشف البحار وتطرق أبواب العالم الإسلامي من جهاته المختلفة وأحد أولئك المبكرين الذين تنبهوا إلى هذا التوسع ومخاطره هو قطب الدين النهروالي المؤرخ المكي (1511-1582) الذي ذكر في كتابه عن فتح العثمانيين لليمن البرق اليماني في الفتح العثماني رواية هامة عن ظهور البرتغاليين في المحيط الهندي، يقول: «وقع في أول القرن العاشر من الحوادث الفوادح النوادر دخول البرتغال الملاعين من طايفة الأفرنج إلى ديار الهند وكانت طايفة منهم يركبون من زقاق سبتة في البحر ويلجون في بحر الظلمات (…) فكثروا في بحر الهند بنوا كوة ـــ بضم الكاف العجمية وتشديد الواو بعدها هاء ـــ اسم لموضع من ساحل الدكن هو تحت الإفرنج الآن، ومن بلاد الدكن قلعة يسمونها كوتا، ثم أخذوا هرموز وتقووا هناك وصارت الأمداد تترادف عليهم من البرتغال فصاروا يقطعون الطريق على المسلمين أسراً ونهباً ويأخذون كل سفينة غصباً إلى أن كثر ضررهم على المسلمين وعم أذاهم على المسافرين، فأرسل السلطان مظفر شاه بن محمود شاه ابن محمد شاه سلطان كجرات يومئذ (1511 ـــ 1525) إلى السلطان قانصوه الغوري يستعين به على الإفرنج».
ولهذه الرواية أهميتها على أكثر من صعيد، فهي تكشف لنا أن مراقبة المسلمين لما يجري في محيط الهند لم تكن غائبة، وإن لم تكن فعالة بما فيه الكفاية، كما توضح أن المسلمين صار عليهم أن يتعرفوا إلى الأوروبي ليس في بلاده ولكن خلف خطوط سيطرتهم أيضاً.
ومع ذلك فإن البحرية العثمانية كانت تبدو على جانب كبير من القوة، وخصوصاً في المتوسط، وهي حافظت على هيبتها حتى نهاية القرن الثامن عشر، لعبت دوراً في بلورة نظرة متجددة إلى أوروبا. ويمكن أن نشير إلى دور الأسطول العثماني بهذا الخصوص، فقد جرت مجابهة عسكرية بين العثمانيين والبرتغاليين في عمان وهرمز عامي 1538 و1551، هذا يعني أن رد الفعل الإسلامي لم يكن غائباً تماماً، حتى ولو لم يكن لهذه المجابهات المحدودة أن تغير مجرى التاريخ ولكنها بدلت من نظرة المسلمين إلى أوروبا، فقد كتب قائد الأسطول ويدعى سيد علي ، مؤلفاً بعنوان: المحيط في علم الأفلاك والأبحر قدم فيه معلومات جديدة حول البلدان بما في ذلك بلدان أوروبا، إلا أنه كان لا يزال واقعاً تحت تأثير نظرية بطليموس ، فعندما يشير إلى الدنيا الجديدة (أميركا) يقول إنها غير داخلة في الأقاليم السبعة، ومع بيري ريس وهو قائد آخر للأسطول العثماني سنجد اعتماداً أوسع على مصادر أوروبية في كتابه «بحرية» ، كما سنلاحظ ابتعاداً نسبياً عن النظرية الجغرافية التقليدية، فقد اعتمد بيري ريس على خرائط برتغالية وعلى نسخة من خريطة كولومبس عائدة إلى عام 1498 وتحدث باعتناء عن القارة الجديدة.
كانت الجغرافيا علماً واسعاً وبارزاً في ذلك العصر، وقد فرضت هيبتها كعلم متعدد الاختصاصات والفوائد حتى القرن الثامن عشر. واعتناء عدد كبير من المتنورين العثمانيين بجمع المعارف الجغرافية ليس إلا صدى للاعتراف بأهميتها. ومن خلال الجغرافيا كانت المعرفة تزداد بأوروبا. وفي منتصف القرن السادس عشر ظهر في استامبول كتاب بعنوان تاريخ الهند الغربي يتحدث عن القارة الأميركية ، مما يعني أن الأوساط المطلعة كانت على علم كاف بهذا الاكتشاف الذي ميز العصر.
بفضل الجغرافيا إذاً كانت تتطور معرفة المسلمين العثمانيين بأوروبا، الأمر الذي يذكرنا بما كان عليه الأمر في القرن التاسع الميلادي، ومع حاجي خليفة (1609 ـــ 1657) يمكننا أن نشير إلى تبدل واضح في المعارف حول الغرب اللاتيني، فقد أصبحت صورة العالم لدي العثمانيين مطابقة للصورة المعروفة في أوروبا. وقد عمل حاجي خليفة ، المعروف أيضاً باسم كاتب جلبي ، على ترجمة بضعة مؤلفات وأطالس بمعاونة راهب فرنسي اعتنق الإسلام. وفي كتابه جهان نامه أي (كتاب العالم) يتخلى عن نظرية الأقاليم السبعة نهائياً ويستبدل بها القارات . وإذا كانت مصنفات حاجي خليفة تعكس مستوى المعرفة لدي الأوساط العلمية، فإن الأوساط الشعبية كان بإمكانها أن تزيد معرفتها بأوروبا عبر روايات التجار والرحالة المتكاثرين، وأحد أولئك الذين أسهموا في توسيع المعرفة الشعبية ببلدان أوروبا كان أوليا جلبي (1611 ـــ 1679) الذي اكتسب شهرة واسعة بفضل سياحته الطويلة في الشرق والغرب والذي قدم معلومات مدققة عن البوسنة والنمسا والمجر وألمانيا وهولندا والسويد.
والفكرة القائلة بتقدم أوروبا في مجال الجغرافيا كانت ناتجة من النجاحات التي حققتها البحرية الأوروبية في ارتياد الأصقاع البعيدة. وثمة إشارات إلى اعتراف مبكر بالتقدم الأوروبي، في مجال الجغرافيا على الأقل، فالسلطان مراد الرابع (1623 ـــ 1640) طلب إلى المستشرق الهولندي غوليوس القيام بمسح جغرافي لأراضي الدولة ووضع خارطة لها. وفي إشارة أخرى تعود إلى عام 1652، كتب أحد العثمانيين ويدعى عمر طالب على هامش مخطوطة لحاجي خليفة ما نصه: «الآن، أصبح الأوروبيون يعرفون العالم كله، فيرسلون مراكبهم إلى كل الجهات فتصل إلى المرافىء الهامة من العالم. قبلاً، كان تجار الهند والسند والصين محتاجين إلى المجىء إلى السويس، وكانت بضائعهم توزع على أيدي المسلمين إلى العام أجمع، أما الآن فإن البضائع تنقل على مراكب برتغالية وهولندية وإنكليزية إلى فرنجستان وتنشر على العالم أجمع انطلاقاً من هناك. أما ما ليسوا بحاجة إليه، فإنهم يأتون به إلى استامبول وغيرها من أراضي الإسلام ويبيعونه أضعاف سعره الفعلى، فيكسبون بذلك المال الوفير. لهذا السبب أصبح الذهب والفضة نادرين في بلاد الإسلام. يجب على الدولة العثمانية أن تسيطر على شواطىء اليمن وعلى التجارة المارة من هناك فلن يمر وقت طويل حتى يسيطر الأوروبيون على بلاد الإسلام».
لا شك بأن رؤية عمر طالب هذه قد جالت في أذهان بعض العثمانيين المتنورين، لكنها لم تصبح في منتصف القرن السابع عشر، شاغلاً يشغل أذهان الطبقة الحاكمة، بل على العكس من ذلك فإن الأوساط الفاعلة في استامبول كانت لا تزال تعتقد بتفوق إسلامي ـــ عثماني على المسيحيين الأوروبيين، ويمكن القول بأن إشارة عمر طالب كانت إشارة معزولة إذا ما وضعت في السياق العام وهي تشبه في ذلك إشارة النهروالي قبل أكثر من قرن من الزمان، ومع ذلك يمكن أن نرقب من خلال الإشارتين بعض التحول الذي طرأ على النظرة إلى أوروبا والذي يحتمه ما كان يحدث على الأرض من وقائع مستجدة.
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر برز دور السفراء وكذلك دور المؤرخين في تعميق المعرفة بأوروبا الغربية، ومن بين السفارات الدبلوماسية الهامة والمبكرة سفارة كارا محمد باشا إلى فيينا عام 1664 وصحبته نحو مئة وخمسين شخصاً، مما أتاح لعدد واسع من رجال الإدارة العثمانية الاطلاع على جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية في عاصمة أوروبية . أما حسين هزارفن وهو إداري ومؤرخ فقد كتب تاريخاً جمع فيه معلومات من مصادر يونانية ولاتينية وقد سهّل له ذلك علاقاته ببعض الأوروبيين ومن بينهم المستشرق أنطوان غالان . وفي نهاية القرن السابع عشر ظهر كتاب هام بالعربية هو جامع الدول للمؤرخ التركي منجم باشي المتوفى سنة 1702، وقد خصص فيه فصولاً لتواريخ الدول الأوروبية واعتمد في تحريرها على مصادر أوروبية أيضاً، وقد تحدث منجم باشي عن مختلف الشعوب الإفرنجية وعن ملوك فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإنكلترة.
كان القرن السابع عشر يمثل بحق مرحلة جديدة من تطور النظر الإسلامي إلى أوروبا، فقد تراكمت المعلومات جغرافياً وتاريخياً وسياسياً عن بلدان أوروبا الغربية، إلا أن هذه المعلومات لم تسهم إلا قليلاً في تبديل الأساس الذي تقوم عليه الصورة التقليدية. فبقي المسلم عامة والعثماني خاصة، مطمئناً إلى قوته وما يعتقده تفوقه، ولهذا الاعتداد أسبابه التي يستند إليها، فمن جهة كان اعتقاد المسلم بتفوق إيمانه قوياً وراسخاً. ومن جهة أخرى فإن العسكرية العثمانية ـــ والتي اعتمدت على بعض الخبرات الأوروبية منذ القرن الخامس عشر ـــ كانت ما تزال موحدة وقوية وفاعلة أمام قوى ممالك وإمارات أوروبا المفتتة، وكان لكل هذا نصيبه في تدعيم الفكرة القديمة بتفوق المسلم. ومع ذلك فإن متنورين عثمانيين قد لحظوا بوضوح تدهور الأوضاع الداخلية للدولة، فقد عكف بضعة عثمانيين على تحليل أسباب الضعف العثماني، ومن بينهم قوجي بيك الذي شرح في رسالة مختصرة للسلطان مراد الرابع المجالات التي يبرز فيها الضعف وينتشر فيها الفساد .
وكذلك فعل حاجي خليفة الذي كانت له اهتمامات أخرى إلى جانب الجغرافيا، فقد كتب رسالة بعنوان دستور العمل لإصلاح الخلل ركز فيها على الجوانب الاقتصادية والإدارية التي يتبدى فيها الخلل والفساد . وكتب حسين هزارفن كتاباً بعنوان: تلخيص البيان في قوانين آل عثمان حمل فيه بقسوة على أولئك الذين يخرقون النظام ويفسدون، ولم ينج من نقده واتهامه أعلى رجال السلطة والإدارة .
إن إدراك الأزمة الداخلية لم يكن غائباً تماماً، وكان بإمكان هؤلاء المتنورين العاملين في الإدارة أو الخدمة السلطانية أن يكوّنوا ملاحظاتهم من خلال مراقبتهم الدؤوبة للأوضاع التي يعيشونها عن قرب، وكذلك كان لاطلاعهم على جوانب من الحياة الأوروبية دور في اكتسابهم وعيا إضافياً بأحوال دولتهم من الداخل.
وباختصار فإن جميع هذه الملاحظات والإشارات والمحاولات لم تغير سوى الشيء القليل من الأساس الذي بنيت عليه صورة أوروبا في ذهن المسلم خلال أجيال طويلة، وكان يتوجب انتظار الهزيمة العسكرية المدوية في السنة الأخيرة من القرن السابع عشر ليهتز اطمئنان المسلم الداخلي وتتصدع الصورة القديمة للغرب الضعيف والمهمل.
كانت هزيمة كارلوفيتز عام 1699 أول هزيمة من نوعها تتعرض لها قوات الإنكشارية، وكانت نتائجها فادحة. فقد خسرت الدولة العثمانية أقاليم واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرتها، وأبرزت هذه الهزيمة القوة العسكرية لكل من النمسا والروسيا . ويمكن القول إن رد الفعل العثماني لم يكن بطيئاً، فالسلطان أحمد الثالث (1703-1730) وهو الذي تلقى النتائج المباشرة للخسارة العثمانية كان مدركا بأن أفضل ما تقبل به دولته هو فترة طويلة من السلم مع جيرانها، وهذا ما سعي إليه وحققه في النصف الثاني من ولايته. وأدرك هذا السلطان أن الضعف العثماني في المجال العسكري يمكن أن يعوض بالأخذ بالخبرات الأوروبية. وكان يمكنه أن يدرك شيئاً آخر، وهو أن نمط العيش الفرنسي يختص ببعض الميزات غير المتوافرة في استامبول ومن هنا كان ميله إلى تقليد بعض العادات الملكية الفرنسية، ويذكر المؤرخ جودت في نهاية القرن التاسع عشر: «وقد ظهر في ذلك العصر ـــ عهد أحمد الثالث ـــ ميل الدولة إلى السير في طريق المدنية ورغبتها في ترتيب عسكر منظم غير أنها تركت الرؤوس وتمسكت بالأذناب…» . وواقع الأمر أن ثورة شاركت بها العامة قد أطاحت بهذا السلطان، وأحد الأسباب البارزة لهذه الثورة هذا الميل للبذخ وتقليد الإفرنج.
وخلال القرن الثامن عشر حاول خمسة سلاطين متلاحقين أن يحققوا بعض الإصلاحات، وخصوصاً في الميدان العسكري وقد أدت محاولاتهم إلى بعض النتائج المحدودة وإلى بعض التأثيرات ذات المغزي، فبالإضافة إلى تأسيس مدارس للهندسة والمدفعية وإنشاء بعض المؤسسات ذات الصفة العسكرية الأخرى، فقد تأسست في استامبول أول مطبعة من نوعها سنة 1727، واستعان عثمان الثالث (1754-1757) ببعض الخبراء الأوروبيين لترميم واجهة مسجد، واستخدم مصطفي الثالث (1757 ـــ 1773) ضباطاً أوروبيين لتدريب جنوده وطلابه .
وقد انطوت مشاريع الإصلاح العثمانية في القرن الثامن عشر على نتائج هزيلة، وليس لنا أن نجيب هنا عما إذا كانت أجهزة الدولة ومؤسساتها هي العاجزة عن استيعاب الخبرات الجديدة من أي نوع كان، أم أن المعارضة التي أبداها زعماء الإنكشارية ورجال الدين في رفض كل انفتاح ورفض كل تجربة تأتي من الغرب هي التي لم تسمح لمشروع الإصلاح أن يصل إلى نهايته، أم أن الإصلاح المرجو الذي فشل في المجال العسكري كان لا بد له أن يكون إصلاحاً تاماً، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق خلال القرن الثامن عشر. ولعل كل هذه الأسباب مجتمعة قد جعلت من الإصلاحات خلال عهود متلاحقة غير ذات جدوى. لا تهمنا النتائج الميدانية للمحاولات الإصلاحية بحد ذاتها بقدر ما تهمنا آثارها الذهنية التي خلفتها في عقول بعض المتحمسين لفكرة الإصلاح ممن كانوا يحيطون بالسلطان على الدوام، وأثر ذلك في التبدل البارز الذي طرأ على نظرة المسلمين إلى أوروبا، إذ لم تعد هذه القارة مكاناً بعيداً ومهملاً ومحتقراً، وأصبح بالإمكان لأول مرة احتذاء نموذج غربي ومسيحي.
وأول من عبر عن ذلك بوضوح محمد جلبي أفندي الذي أوفده السلطان أحمد الثالث إلى باريس عام 1720 للتعرف على المؤسسات الفرنسية وطبيعة عملها وما يمكن اكتسابه أو أخذه عنها. كان محمد أفندي لا يزال يعتقد أن الفرق بين الأتراك والفرنسيين مثل الفرق بين الليل والنهار ـــ والفرنسيون الذين اندفعوا في شوارع باريس لمشاهدة هذا السفير التركي عبروا عن شيء مماثل ـــ ومع ذلك فقد قدم الصورة التي جعلت السلطان يشغف بنمط العيش الملكي الفرنسي ويندفع لتقليده.
جاء تقرير السفير عند عودته من رحلته إلى باريس التي استغرقت عدة أشهر، وقد ضمن تقريره الذي عرف باسم «سفارتنامه» مشاهداته التفصيلية نزولاً عند رغبة الوزير إبراهيم باشا داماد . وبما أن الطريق الذي سلكه هو الطريق البحري فقد تسنى له بعد وصوله إلى مرسيليا أن يعبر العديد من المدن الفرنسية في طريقه إلى باريس وأن يكوّن فكرة عن الحياة المدنية الفرنسية قبل وصوله إلى محطته الأخيرة. ومما يلاحظه أن تولوز كبيرة جداً ومشهورة، وبوردو لا نظير لها بين المدن وكثيفة السكان. من جهة أخرى لاحظ السفير أحد الفروق البارزة في زمنه بين الحياة الاجتماعية الفرنسية والحياة الاجتماعية في استامبول، ويتصل ذلك بشكل خاص بعلاقات الرجل بالمرأة التي يصفها على النحو التالي: «في فرنسا يكن الرجال الكثير من الاحترام للنساء… بحيث إن النساء يفعلن ما يشأن.. وأوامرهن تطاع في كل مكان، وقد قيل إن فرنسا هي جنتهن، لأنهن يعشن منعتقات من كل تعب، وإذا رغبن في شيء حصلن عليه بسهولة».
لكن أهم من هذه الملاحظات التي يذكرها، وصفه للقوى العسكرية وللتنظيم العمراني، وهي الأمور التي تهمه أكثر من أي شيء آخر. وبالنسبة للقوة العسكرية الفرنسية يلخص بعد أوصاف منوعة: «ينبغي أن أقول بأنني رأيت فرقاً جميلة جداً ورائعة جداً وقوية جداً». أما بالنسبة للتنظيم العمراني فيسهب في وصف القصور الملكية كفرساي ومارلي وسان كلو وغيرها. كما يتحدث عن التقدم العلمي فيشير إلى المانيفكتورات ومن بينها واحدة لصنع القماش فيها خمسمائة وخمسون عاملاً، وأخرى لصنع الزجاج يعمل فيها ألف عامل. ويتحدث عن زيارته للمرصد الذي أمر ببنائه لويس الرابع عشر ، وأشرف عليه الفلكي الإيطالي كاسيني Cassini ، يقول محمد أفندي : «يوجد برج كبير من الحجر بعلو ثلاثة طوابق في كل منها عدد من الغرف مليئة بآلات لا تحصى، واحدة خاصة بالفلك ورصد النجوم وغيرها لتسهيل الأعمال ولمعرفة القمر الجديد ولرفع الماء من أسفل إلى أعلى، وأشياء أخرى مدهشة وعجيبة». ويضيف «رأيت أيضاً الكثير من أدوات الهندسة (…) وهناك آلة اكتشفت حديثاً لمعرفة كسوف وخسوف الشمس والقمر». أما بشأن العالم كاسيني فيذكر: « كاسيني هذا الفلكي العظيم مات قبل أن يكمل اكتشافاته مخلفاً ابنه في مهنته.. وقد أعطاني المسائل التي أعدها والده في نقد لوائح بطليموس ». وواقع الأمر أن هذه اللوائح التي حملها السفير إلى استامبول لم تجد من يهتم بها، وبقيت في مكتبة السلطان ولم تترجم إلى التركية إلا في عام 1771.
إن الطريقة التي يتبعها محمد أفندي في كتابته لتقريره هي في عقد مقارنات بين مشاهداته في باريس وفرنسا عامة وبين ما يماثلها في استامبول، إننا إزاء عالمين مختلفين وهذا ما كان السفير مقتنعاً به اقتناعاً تاماً، وهذا ما نجده عند السفراء الأتراك على امتداد القرن الثامن عشر. وحين يلقي محمد أفندي نظرة إجمالية على باريس التي لا شبيه لها في الضخامة بعد استامبول، يلاحظ مدققاً: «ليس صحيحاً على الإطلاق أن باريس أكبر من استامبول.. ولكن نرى عدداً أكبر من الناس في الطرقات لأن النساء لا يستطعن البقاء لحظة في منازلهن.. هذا الخليط من الرجال والنساء يظهر المدينة كثيفة السكان وهي ليست كذلك في الواقع».
وتعود أهمية هذا التقرير إلى عدة أسباب. فقد قدم السفير محمد أفندي أول تقرير مفصل يشرح باعتناء صورة الحياة في مدينة أوروبية، وهذه الصورة لم تكن معروفة من قبل، أو أنها كانت غامضة. من جهة ثانية فإن هذا التقرير قد حدد قدر المستطاع ملامح «التقدم» الفرنسي، والأوروبي عامة والذي برز في الجوانب العسكرية والعمرانية والعلمية، بينما أهمل السفير الجوانب الثقافية والسياسية ولم يعرها اهتمامه. ولهذا الأمر أهميته لأن المتنورين الأتراك في القرن الثامن عشر ما كانوا ليقرّوا بأي تقدم ثقافي للأوروبيين المسيحيين وما كانوا ليروا في الأنظمة السياسية السائدة في أوروبا ما يفضل نظامهم. ولهذا فإن الاعتقاد الذي ساد هو أن التقدم الذي أحرزته أوروبا يتجلى في العسكرية والعمران والعلم، وهي ميادين يمكن إحرازها بجهود الخبراء المتخصصين. ويمكن أن نذكر أخيراً بأن تقرير محمد أفندي قدم نموذجاً للسفراء الذين جاؤوا بعده والذين كتبوا تقاريرهم مقلدين الخطة والطريقة التي اعتمدهما.
ومع ذلك فإن السفراء كان بإمكانهم أن يخرجوا عن ميدانهم الخاص في كتابة التقارير، كذلك فإن تطوير صورة أوروبا لم يكن حكراً على السفراء. وبهذا الخصوص نذكر الدور الخاص الذي قام به رجل متعدد المواهب والاهتمامات، كان له أن يقدم صورة جديدة لأوروبا التي عاصرها، وأن يسهم في تخطي الحواجز التي تقوم بين العالمين العثماني والأوروبي، المسلم والمسيحي على التوالي.
كان إبراهيم متفرقة (1679-1742) هو الشخصية التي ستلعب دوراً بارزاً في الانفتاح العثماني على أوروبا، إن العمل البارز الذي ارتبط باسمه هو إنشاء أول مطبعة إسلامية في استامبول عام 1727، ويظهر أن هذا العمل ما كان ليقوم لولا حماسته ومواهبه. ومع ذلك فإن تأسيس المطبعة كان جهداً مشتركاً للعديد من الشخصيات المؤمنة بنقل هذا «الاختراع» الذي ظهر في أوروبا. ومن بين الذين أسهموا في تشجيع ذلك السفير محمد أفندي نفسه وابنه سعيد أفندي الذي رافقه في سفارته إلى باريس، وكذلك الوزير المصلح إبراهيم باشا داماد ، وما كان لهذه المطبعة أن تبصر النور لولا تشجيع السلطان.
وقد تطلب تأسيس المطبعة موافقة مسبقة من شيخ الإسلام، لهذا فإن إبراهيم متفرقة كتب رسالة قصيرة تحت عنوان وسيلة الطباعة شرح فيها أهمية وضرورة إدخال «فن الطباعة» إلى البلاد العثمانية، ولم يصدر الفرمان بافتتاح المطبعة إلا بعد موافقة شيخ الإسلام الذي اشترط عدم طباعة الكتب الدينية بكل فروعها، كما عين شخصين لغرض الرقابة على منشورات المطبعة. ولعل الشرط الذي اشترطه شيخ الإسلام لم يكن سلبياً كله، بل على العكس من ذلك إذ إن المطبعة انصرفت إلى طباعة الكتب العلمية والتاريخية واللغوية . وقد استمر عمل المطبعة منذ تأسيسها عام 1727 وحتى وفاة مؤسسها عام 1743، وخلال هذه المدة تم إصدار العديد من الكتب من بينها: كتاب لغات وهو قاموسي عربي ـــ تركي في جزءين عدد صفحاته 1422 صفحة، ثم كتاب حول الحروب البحرية مع خرائط من إعداد حاجي خليفة وقد صدر في السنة نفسها. ثم تاريخ غزوات الأغاخانات وهو ترجمة من اللاتينية إلى التركية، وكتاب تاريخ جزر الهند الغربية أو أمريكا في 91 صفحة مع 4 خرائط، وكتاب قواعد فرنسية ـــ تركية، ورسالة في فضائل البوصلة في 23 صفحة، وكتاب جغرافي بعنوان «مرآة العالم» تأليف حاجي خليفة، بالإضافة إلى تاريخ رشيد أفندي وقاموس تركي ـــ فارسي صدر عام 1742.
تلك هي أبرز المؤلفات التي صدرت عن مطبعة استامبول في النصف الأول من القرن الثامن عشر، ويمكن تقسيمها إلى موضوعاتها الرئيسية وهي التاريخ والجغرافيا واللغة. واللافت للانتباه بشكل خاص الترجمة عن اللاتينية والاهتمام باللغة الفرنسية، والاهتمام بالمؤلفات العلمية الجغرافية، والتي كما ذكرنا تمثل في ذلك الوقت العلم الذي يعكس تقدم العلوم البحرية والعسكرية والتجارة أيضاً. وهذا ما يثيره ابراهيم متفرقة على حدة، ويبرزه في كتاب من تأليفه صدر عن المطبعة ذاتها عام 1731 تحت عنوان أصول الحكم في نظام الأمم ، ويمكننا أن نعتبر هذا الكتاب أول محاولة نظرية من نوعها، ففيه يدعو المؤلف إلى الاستفادة من علوم أوروبا وإلى استيعاب التقنية الحديثة وإعادة تنظيم القوات العثمانية وفق الأساليب الحديثة.
لم يكن ابراهيم متفرقة إذاً مؤسساً لأول مطبعة فقط بل كان سفيراً ومؤلفاً وعسكرياً قبل هذا وذاك. فقد وُلد في كلوج ( Cluj ) بترانسيلفانيا من عائلة تدين بالمذهب التوحيدي ( Unitarianisme ) وهذا ما يفسر عداءه الشديد للكثلكة حتى بعد دخوله الإسلام. ومن المرجح أن يكون ابراهيم الذي لا يعرف اسمه الأصلي قد وقع في الأسر في إحدى المعارك وبيع كعبد وتدرج في الخدمة العسكرية والإدراية حتى اكتسب رتبة «متفرقة» وهي رتبة تعطى للعاملين في خدمة السلطان. وأول مؤلفات ابراهيم هو الرسالة الإسلامية وتعود إلى سنة 1710 يشرح فيها انتقاله من المسيحية إلى الإسلام ويضمنها انتقاداً عنيفاً للكاثوليكية والبابوية، يبسط فيها اعتقاده بانتصار الإسلام على الكاثوليكية في أوروبا، ولم تكن هذه الرسالة تشتمل على أي فكرة تتعلق بالإصلاح من قريب أو بعيد. والواقع أن هذه الرسالة الإسلامية التي لا شأن كبيراً لها في التأليف العثماني، تفيدنا في التعرف إلى تطور أفكار مؤلفها، والتي تتفق مع ما كان يسود العالم الإسلامي ـــ العثماني من عداء للمسيحية في أوروبا . وهذه النظرة الشائعة التي يتبناها إبراهيم بشدة والتي كانت تقسم العالم إلى قسمين متخاصمين كان يمكن للهزيمة القاسية القريبة العهد أن ترسخها لا أن تقلل من أهميتها، ومع ذلك فإن متفرقة على الرغم من عدائه للكثلكة كان يرى معالم التقدم الأوروبي فيشرح أسبابه ويدعو إلى الأخذ به، وهكذا سيكون بمقدورنا أن نراقب كيف تتولد النظرة الحديثة إلى أوروبا من داخل النظرة التقليدية.
يقسم ابراهيم كتابه أصول الحكم في نظام الأمم ، إلى ثلاثة أقسام مشتملة على فصول: القسم الأول يعالج ضرورة النظام والفوائد المعولة عليه، والقسم الثاني يشتمل باختصار على الفوائد الناجمة عن دراسة الجغرافية، والثالث يشتمل على استعراض لمختلف اشكال القوات في الجيوش المسيحية وقواعد النظام الملاحظة عندهم ونظمهم العسكرية المسجلة والمنفذة في حروبهم. ويستعرض في البداية الظروف التي أحاطت بتأليف كتابه، ويبدو أنه كتب أصول الحكم في فترة من العزلة المؤقتة حسب ما يشير في مقدمته. ومن المرجح أن يكون التأليف قد تم في فترة الثورة إلى رافقت عزل السلطان أحمد الثالث وصعود محمود الأول . إن الأحداث التي رافقت هذه الثورة المضادة للإصلاحات التي أنشئت في عهد أحمد الثالث ، وأحرقت خلالها القصور الباذخة المبنية على الطراز الأوروبي، وقتل خلالها الوزير ابراهيم داماد الذي اعتبر مسؤولاً عن هذا الانفتاح الباذخ. ومع ذلك فإن المطبعة سلمت من التدمير والحرق، فليس مستبعداً أن يكون المشرف عليها قد خشي أن يلقى مصير وزيره، يقول: وهكذا انسحبت إلى زاوية، وفي ظلام الوحدة استسلمت لأفكاري وتذوقت راحة النفس ونعيم الحياة الخاصة، حتى قامت عام 1143 / 1730 شمس سلطان البيت العثماني (يقصد السلطان محمود الأول ) فوجدت ذهني قد توقد وامتلأ بالأفكار، كما امتلا القلب بالألم لرؤية هذه العدوانية على امتداد تلك السنة، والكوارث التي أحاطت فجأة بالدولة العثمانية. وإذا كانت تلك هي ظروف التأليف فإن أسباب التأليف يشرحها على النحو التالي: «في تلك الأثناء اتجه انتباهي إلى أسباب هذه الثورة وعكفت على البحث في أصول هذه المساوىء.. ولم أخطىء بإيعاز هذه النتائج إلى الاستخدام السيىء لمؤسسات الدولة وتراخي الوزراء وكبار الإداريين وعدم اضطلاعهم بمسؤولياتهم.. ومن المناسب الاعتقاد بأن علامات الوهن في جسم الدولة، وهذه المظاهر من الضعف ليست إلا التمهيد لانحطاطها وانحلالها».
يتابع متفرقة هنا تقاليد الكتّاب العثمانيين من أمثال قوجي بيك وحاجي خليفة وحسين هزارفن ممن بحثوا في اسباب انحطاط الدولة خلال القرن السابع عشر، لكن ابراهيم كان يملك معطى لم يتبينه سابقوه. يقول: «أشد ما دفعني إلى عملي هذا، الذي هو فوق طاقتي وأبعد من حدود عقلي، هو هذا الشعب المسيحي (يقصد الأوروبيين) بمقارنته مع المسلمين، إذ كان منخفضاً جداً عن المسلمين في العدد وطبيعة الجسم والعقل وهو من جنس بائس أيضاً. لكن منذ بضع سنين انتشروا في كافة أرجاء العالم فلم يسيطروا على بعض المقاطعات فحسب، بل انتصروا مرات عدة على الجيش العثماني».
ظهور العامل الأوروبي أدخل عنصراً جديداً لدي ابراهيم متفرقة لتحليل أسباب انحطاط الدولة العثمانية. ورسم بالتالي طريقة معالجة المسألة بشكل جديد. وهذا ما نلمسه في فصول الكتاب وكذلك من خلال المراجع والمواد التي يستخدمها المؤلف في إعداد كتابه وإتمام محاولته. فقد كان يملك ميزة، يقول «اللغة اللاتينية التي أصبحت مألوفة لدي ساعدتني كثيراً في محاولتي، لأنني تمكنت من خلالها أن أجمع المعلومات من الكتب المشتملة على تاريخ هذه الشعوب (الأوروبية). كما راجعت مختلف الكتب عن فن الحرب وعدداً من الرسائل المتعلقة (بالتكتيك) ومؤسساتهم العسكرية وتشكل نظام معارفهم… ومن خلال اللغة اللاتينية تمكنت من معرفة خبرات كل الأمم».
يبدأ متفرقة كتابه بالحديث عن ضرورة السلطة للمجتمعات وجوب الحكام بين الأنام فيقول: كان من الضروري أن يبحث البشر عن النجدة المتبادلة، فنشأ لديهم الميل إلى التجمع والتعاون، ولعجزهم عن قيادة أنفسهم أرسل لهم تارة نبي وتارة مبشر يسن القوانين النابعة من معرفتهم لتطبيق العدالة، ويضيف «وتبعاً لهذا التنسيق نرى أن الشعوب تنتشر على مساحة الأرض، فكان الخلفاء والأباطرة والسلاطين والقياصرة». وهذا التعداد يتعمده ليشير إلى الاختلافات والنسبية بين أشكال الحكم في العالم. وحين يتحدث عن أشكال السلطات لا يعود إلى الفهم الإسلامي بل يستعير التقسيم اليوناني القديم ويختصر أشكال السلطات إلى ثلاث:
الشكل الأفلاطوني وهو الذي يرى بأن الدولة يجب أن يحكمها ملك عادل وحكيم. وهذا النوع يسمى باللغات اللاتينية أو اليونانية (المونارشي) أو الملكي وعليه تسير أغلب الدول في العالم. ثم الشكل الأرسطوي، وحسب هذا الشكل ينبغي أن توضع السلطة بين أيدي كبار الدولة وهذا النوع يسمى بلغة الفلاسفة الأرستقراطي ، وفي أيامنا تسير جمهورية البندقية على نمطه، وأخيراً الشكل الديموقراطي وبحسبه تكون السلطة للشعب حتى يتم إزالة الظلم والقسوة، وتتبع هذا النوع حالياً هولاندا وإنكلترا.
يكاد الهاجس العسكري الذي يخترق كتاب متفرقة أن يكون موضوعاً وحيداً لمحاولته، فهو يشدد في كل الصفحات على هذه الناحية، أو النواحي المتصلة بها والمتفرعة عنها.
ويتحدث متفرقة بالتفصيل في الجزء الأكبر من كتابه عن أشكال تنظيم الجيوش المسيحية في المعارك وأنواع الأسلحة المستخدمة والتحصينات المعتمدة. ويفصل الحديث في نهاية كتابه عن التجربة الروسية فيقول: «من المفيد أن نلاحظ بأن الموسكوف لم يكونوا إلا شعباً بائساً من قبل.. وليس لهم الشجاعة لمحاربة أي جيش فاختاروا الانسحاب إلى بقعة بعيدة في زاوية الأرض في مناخ جليدي.. وكانوا في هذه الحالة حين قام بينهم فجأة قيصر موهوب وعارف بأمور الحكم في الدول الأخرى، فبحث عن شكل نظامهم العسكري ومبادىء حكوماتهم وإدارة الشؤون المدنية والسياسية.. وبعد أن أصلح قواه البرية التي نظمها على طريقة الدول الأوروبية، لاحظ أن بحر قزوين ليس خاضعاً لسيطرة أحد فخطط للسيطرة عليه فبنى في موانىء هذا البحر السفن والبواخر، واحتج بأنه يقصد التجارة مع بلاد فارس، واستدعى مهندسين من جنسيات مختلفة فوضعوا له الخرائط الدقيقة للبلاد المحيطة ليستخدمها دليلاً في حروبه في فارس وداغستان والأقاليم المجاورة».
ومن الطبيعي أن يولي متفرقة علم الجغرافيا اهتمامه، فإن كسب الحروب لا يكون بدونها، يقول: «الجغرافيا في الحقيقة مرآة مصقولة، فيها نرى بنظرة واحدة كل الشعوب والأمم المنتشرة على سطح الكرة بوضوح.. والشعوب المؤمنة بوحدانية الله، والمنتشرة في أصقاع مختلفة، ستتصل بعضها ببعض بهذه الوسيلة وتستجمع من جديد شجاعتها وتنظم قواها فتؤلف اتحاداً لرد ظلم الكفرة».
وفي عبارة بارزة لافتة للانتباه يلاحظ ابراهيم متفرقة في معرض حديثه عن قوانين الأوروبيين: «أن الشعوب المسيحية ليس لها في أيامنا الحاضرة قوانين مقدسة تتعلق بإدارة أعمال الحكومة، أي ليس هناك قانون من جانب الله تتعلق به دينياً، إن في شؤون التشريع أو في القرارات الشائكة لإدارة الدولة، إنها تهتدي فقط بقوانين وتشريعات بشرية ناتجة من نور العقل وحده».
ويمكن القول أخيراً إن كتاب أصول الحكم في نظام الأمم هو أول محاولة «نظرية» باللغة التركية تطرح مسألة الاستفادة من علوم أوروبا وضرورة اكتساب التقنيات الحديثة، ومن جهة أخرى فإن هذا الكتاب قد طور على نحو لا سابق له طريقة نظر المسلم إلى أوروبا، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أوروبا مركز استقطاب للوعي الإسلامي الأكثر تحسساً بمتغيرات العصر.
وعلى غرار محاولة ابراهيم متفرقة تبرز محاولة أخرى في سبعينيات القرن الثامن عشر وصاحبها السفير أحمد رسمي (1700 ـــ 1783)، فقد زار هذا الدبلوماسي عاصمتين أوروبيتين، فيينا عام 1757 وبرلين 1774، وما كتبه عن زيارتيه يعكس دقة في الملاحظة، ويذكر مؤلف تاريخ الدولة العثمانية الشهير Hammer – Burgstal l‚ أن تقرير أحمد رسمي قد لفت الانتباه سريعاً حتى في الغرب لآرائه حول البوليس البروسي ووصفه لبرلين ولسكانها ولجميع ملاحظاته الدقيقة الأخرى.
إلا أن المحاولة الهامة التي خلفها أحمد رسمي تظهر في كتابه المعروف تحت اسم خلاصة الاعتبار الذي تحدث فيه عن الحرب الروسية في البلقان. وفي هذا الكتاب الذي يتجاوز عرض الأحداث، يحاول أن يشرح ويفسر أسباب صعود الروسيا إلى مسرح التاريخ في الوقت نفسه الذي تدهورت فيه القوة العثمانية. وفي كتابه الذي هو نوع من التحليل التاريخي ينتقد جهل وتكبر المحافظين العثمانيين ويعتبرهم المسؤولين عن اندلاع الحرب وعن خسارتها أيضاً.
كان أحمد رسمي أول من تعرض بالنقد للأسطورة العثمانية القائلة بأن الأتراك قد رصدوا لهزيمة المسيحيين بغض النظر عن عددهم أو قوتهم. والنتائج التي توصل إليها في كتابه تتأسس على تفهم أكثر عقلانية للأحداث، فقد أشار إلى أن القوة العثمانية قد تلاشت، ولم يعد من الممكن مجابهة الروسيا التي تملك ثروات مادية هائلة والتي تقدمت بفضل ذلك في المجال العسكري. ويخلص إلى ضرورة اتباع سياسة سلم وتسامح تجاه الأمم غير المسلمة، ويعتبر أن الاختيارات السياسية ينبغي أن تتخذ بعيداً عن الحماسة الدينية، ويدعو إلى اعتماد الطرائق المعروفة في الدول غير المسلمة .
ويمكننا أن نلاحظ مع خلاصة الاعتبار كيف تطورت معرفة الأتراك العثمانيين بأوروبا نتيجة للاتصالات المباشرة والصراعات المتعاقبة، ويتضح لنا أن تبدلاً عميقاً قد طرأ على النظرة التقليدية الإسلامية إلى أوروبا. إذ إن العالم لم يعد منقسماً إلى دار حرب ودار إسلام بقدر ما هو منقسم إلى عالم قوي وعالم يتأكد ضعفه.
ــ 2 ــ لم تكن النظرة التي طورها المسلمون العثمانيون حول أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر هي الشكل الوحيد لوجهة تبدل النظر الإسلامي إلى أوروبا بشكل عام. والعلاقات العثمانية ـــ الأوروبية لم تنعكس نتائجها بنفس الدرجة في كل مكان من العالم الإسلامي.
وتجدر العودة سريعاً إلى القرن الخامس عشر، ففي الوقت الذي كان فيه العثمانيون يتقدمون في شرق أوروبا، كانت أوروبا الغربية تجدد الحروب الصليبية في أفريقيا الشمالية، وإذا كانت الحروب الصليبية الأولى لم تترك آثاراً تذكر في المشرق، فإن غزوات البرتغاليين والإسبان في المغرب قد أدت إلى بروز حالة من العداء بين الإسلام والمسيحية لم تكن على نفس الدرجة من الحدة في العصور السابقة. ويمكننا أن نستعيد مع عبارات برنارد لويس أجواء القرن الخامس عشر: «… وفي سنة 1415 نقل البرتغاليون الحرب إلى معسكر العدو بعد احتلال سبتة. وأثناء القرن الخامس عشر حاولوا بجهد وتصميم أن يثبتوا أنفسهم في المغرب بعد أن احتلوا لفترة قصيرة الدار البيضاء وطنجة. وقد انتهت المحاولة البرتغالية للتوسع في شمال أفريقيا بانتصار المغاربة في «معركة القصر الكبير» عام 1578. في غمرة حماستهم لاستعادة البلاد، تعقبوا أعداءهم المسلمين المهزومين من أوروبا إلى أفريقيا، واحتلوا بين سنتي 1497 و1510 سلسلة من المدن على ساحل شمال أفريقيا من مليلة حتى طرابلس في الشرق…» .
وتشكل «حروب الاسترجاع» أو الحالة الإسبانية وضعاً خاصاً في هذا المجال، إذ إن تقدم الكاثوليك وطردهم للمسلمين واليهود على السواء قد قضى على التعايش الإسلامي ـــ المسيحي الذي كان قائماً من قبل. وقد انعكس هذا الواقع في أدبيات العصر، وفتوى الونشريشي تشكل نموذجاً معبراً إذ إن التعايش الإسلامي ـــ المسيحي قد أصبح جزءاً من الماضي، وحل محله عداء تزايد مع مرور الزمن بسبب الاحتكاكات والصدامات المستمرة. يقول الونشريشي : «إن محبة الموالاة الشركية والمساكنة النصرانية والعزم على رفض الهجرة والركون إلى الكفار، والرضى بدفع الجزية إليهم ونبذ العزة الإسلامية والطاعة الإمامية والبيعة السلطانية أو ظهور السلطان النصراني عليها، وإذلاله إياها، فواحش عظيمة مهلكة قاصمة للظهور، تكاد أن تكون كفراً والعياذ بالله…» .
وواقع الأمر أن المغرب الإسلامي الذي كان عرضة لتهديدات القوة الأوروبية والذي كان بعيداً عما يجري في الوسط الإسلامي، قد انكفأ على أزمته الداخلية، وهذا ما نلاحظه عند ابن خلدون الذي عاش قبل الونشريشي بقرن من الزمن، كان يدرك أن ممالك الإسلام العظمى تقوم في الشرق، ومن جهة أخرى فإن ما يجري في أوروبا لم يكن ليثير اهتمام هذا المؤرخ المتفتح الذهن. فالمغرب في عصر ابن خلدون ، وفي العصور التالية، لم يكن قادراً على جعل ما يجري في أوروبا شاغلاً من شواغله.
إن ظهور القوة العثمانية قد أوقف محاولات السيطرة الأوروبية في أفريقيا الشمالية، إلا أن الصدامات المستمرة لم تتوقف. إن أعمال القرصنة والاحتجاز المتبادل للأسرى كان يمكن أن تطيل أمد نظرة تقليدية ولكن مؤسسة على العداء.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وفي المغرب الأقصى، استجمع مولاي اسماعيل حول نفسه النفوذ والهيبة. إن حكمه الطويل (1672 ـــ 1727) والمتشدد، وطموحه في فرض هيبته على جيرانه قد أضافا نمطاً جديداً من التصورات المتبادلة. كان مولاي اسماعيل معاصراً للويس الرابع عشر . ونقد الاستبداد الذي بدأ في فرنسا آنذاك كان يفضل الاستعانة بالرموز، من هنا تشكل صورة اسماعيل المعادل لصورة المستبد القاسية والتي هي تورية لصورة لويس الرابع عشر . وشأن المتسلطين الشرقيين الأقوياء آنذاك، فإن مولاي اسماعيل (سلطان فاس ومراكش) كان مهتماً بتوثيق صلاته بأوروبا، ومن هنا يأتي دور سفرائه بتوضيح ما آلت إليه النظرة الإسلامية في المغرب إلى أوروبا في نهاية القرن السابع عشر. ومن أبرز هؤلاء السفراء الوزير الغساني الموفد إلى إسبانيا عام 1690، و عبد الله بن عائشة السفير إلى فرنسا، و الحاج عبد القادر الذي زار بريطانيا عام 1721 .
إن التقرير الذي قدمه الوزير الغساني المتوفى عام 1707، يظهر متميزاً من جهات عدة، فقد عبر فيه عن دقة ملاحظة وسعة أفق وتسامح لا يتفق مع الطابع العام للعصر. إن هدف سفارته ليس الاطلاع على منجزات التقدم الأوروبي ـــ كما بالنسبة للسفير محمد أفندي ـــ ولكن تحرير بعض الأسرى المحتجزين في إسبانيا كما يشير عنوان التقرير: رحلة الوزير في افتكاك الأسير ، وإن الهدف الأبعد هو إقامة معاهدة صلح بين البلدين. وبغض النظر عن النتائج التي أدت إليها الرحلة فإن الوزير الغساني قدم تقريراً شبيهاً بعمل الإتنوغرافي وعالم الاجتماع، فهو يهتم بسياسة الدول الأوروبية المعاصرة ويهتم أيضاً بوصف الأخلاق والعادات والنظم، وفي هذا المجال تتميز معلوماته بدقة لا تتصف بها بعض المصادر الأوروبية المعاصرة له. تحدث عن ديوان التفتيش، وعن مصارعة الثيران التي كانت حتى ذلك الوقت طقساً شعبياً. كما اهتم بالناحية الاقتصادية وللتنبه لطرق الزراعة وتربية الحيوانات. وقد تمكن من ملاحظة الأثر السيئ الذي تركه اكتشاف أميركا وتراكم الثروة على إسبانيا وشعبها على الرغم من الغنى الفاحش .
بعد موت مولاي إسماعيل استمرت الاتصالات الدبلوماسية مع أوروبا وخصوصاً مع اسبانيا. وفي سنة 1766م قام أحمد بن مهدي الغزال بسفارة إلى إسبانيا في عهد مولاي محمد بن عبد الله الذي أرسله بمهمة لدي ملكها كارلوس الثالث ، والهدف هو إطلاق سراح الأسرى المسلمين مثل كل السفارات المغربية. وقد كتب تقريراً على غرار الغساني عنوانه: نتيجة الاجتهاد وفي المهادنة والجهاد ، وهو يعبر بصدق عن فحوى مهمته ومشاعره. وقد اهتم منذ البداية بالموضوع الذي جاء من أجله، إلا أنه اهتم بالمسائل الدينية، وأظهر مواقف المتشددة من أخلاق الإسبان وعاداتهم وإحتفالاتهم كما أتخذ موقفاً سلبياً من مصارعة الثيران. والوصف الذي يقدمه له أهميته البارزة من وجهة نظر تاريخية إذ يقدم صورة متكاملة لإسبانيا في القرن الثامن عشر، إلا أن معطياته عن المجتمع الإسباني كما يقول كراتشكوفسكي ـــ قد كيّفتها بقوة وجهة نظره الخاصة كمسلم .
ويشبه تقرير الغزال تقريراً آخر كتبه محمد بن عثمان المكناسي إثر سفارة لدي كارلوس الثالث أيضاً عام 1779. وقد استطاع ابن عثمان الذي أمضي حوالي السنة في إسبانيا وتنقل في عدد كبير من المدن الإسبانية أن يخلف تقريراً هاماً من عدة زوايا ضمنها كتابه: الإكسير في افتكاك الأسير . ونظرته إلى أسبانيا شبيهة بنظرة الغزال ومطبوعة مثلها بالطابع الديني. وقد أبدى من ناحيته اهتماماً بتقدم الصناعة والعمران، ومن ذلك ملاحظته لما في مباني مدريد من إتقان ولما فيها من تقدم علم، فقد لاحظ فيها مثلاً: «دار معدة للرسائل يسمونها دار الرقاس يجتمع فيها من المكاتب ما لا عد له، فمن كتب براءة (رسالة) وأراد أن يبعثها إلى بلد يكتب عنوانها»… ويختمها ويدفعها بصندوق بالدار المذكورة. ويتحدث عن معهد لتدريس العلوم البحرية: «فأول ما يتعلم الصبيان الكتابة والحساب في مكان مخصوص. وبالدار المذكورة مكان آخر فيه سفينة بقلوعها وأحبالها وجميع إقامتها من مدافع وغير ذلك، فمن نجب من الصبيان في الكتابة والحساب ينتقل من تلك المرتبة إلى المرتبة التي فيها السفينة ويتعلم فيها أمور البحر مباشرة. وعندهم بالبيت المذكور كثير من الآلات التي يتوقفون عليها في البحر مثل القوس والبوصلة وكورة العالم وما أشبه ذلك».
لكن ملاحظات السفير المكناسي حول التقدم الصناعي والعمراني في إسبانيا تبقى على الرغم من ذلك عابرة في خضم المشاهدات التي يذكرها. فإذا كان قد استشعر الخطر الذي تحمله الصناعة والقوة الحربية، فإنه لم يعر انتباهه لكيفية امتلاك هذه القوة. ولعل ما استشعره من خطر عزز لديه نظرته العدائية. وطابع العداء نلحظه في عنوان الرحلة وهدفها الذي يشرحه على النحو التالي: «وكان ممن اختصه الله تعالى بالشفقة على عباده والسعي في الصلاح في أرضه وبلاده، والبحث عن أسارى المسلمين الذين بأيدي الكفرة». وهو يرى في شعب إسبانيا شعباً كافراً بالدرجة الأولى، فيستدعي الماضي العربي المجيد ليحتقر الحاضر الإسباني: «فخرجنا من المحراب وطفنا بالمسجد، فأخذنا في عد سواريه فأتعبنا ذلك تعباً شديداً لأن النصارى دمرهم الله أحدثوا فيه بيوتاً عديدة وكنائس كثيرة لضلالاتهم وكفرياتهم طهر الله منهم البلاد». وتسيطر على الرحلة نزعه الجدال الديني، من ذلك «المناقشة التقليدية التي جرت بيني وبينه ذات يوم في شأن المسيح عليه السلام فقلت له ما تقول فيه فقال إنه ابن الله، فقلت ما مرادكم بالإبن، فقال قبحه الله: ذات الله ثلاثة أقانيم الأب والإبن والروح القدس. فحل ابن الله في بطن مريم وتكونت ذات عيسى ، فهو من جهة الذات إنسان ومن الحيثية إله، فقلت له: الله تعالى لا يشتمل عليه مكان وهو تعالى بذاته ولا يحل بالذات إلا بالصفة.. إلخ».
تلك هي الانطباعات التي كانت تؤسس نظرة المسلمين في المغرب إلى أوروبا ومن خلال إسبانيا بشكل خاص. وتتوضح الصورة أكثر فأكثر من خلال التعرف إلى حالة العلم الجغرافي من خلال كتاب أبي القاسم الزياني (1734 ـــ 1833) الذي اضطر خلال خمسينيات القرن الثامن عشر أن يمضي ثلاث سنوات عند سواحل فرنسا وإيطاليا، يقدم لنا فكرة عن حالة العلم التي يستمد منها معلوماته عند الحديث عن أوروبا وذلك في كتابه الكبير «الترجمانة الكبرى في أخبار العالم براً وبحراً» فقد كان الزياني لا يزال واقعاً تحت تأثير الجغرافيين العرب القدماء وتقسيمهم العالم إلى سبعة أقاليم، وقد أعاد في كتابه رسم خارطه الإدريسي دون أن يتقنها إتقان الأصل، ومع ذلك، وحسب ملاحظة ليفي بروفنسال ، فقد كانت هذه الخارطة بالنسبة للمغرب نموذجاً فريداً بحيث لم تكن في متناول أفهام معاصريه .
وقد تواصلت نظرة العداء والاحتقار واللامبالاة حتى أواسط القرن التاسع عشر، وهذه اللامبالاة لا يفسرها شيء سوى الوضع الداخلي في المغرب ذاته. فالطاهر بن عبد الرحمن الفاسي الذي زار إنكلترا سنة 1860، يظهر لنا كيف أن المغرب المنطوي على ذاته كان يمكنه أن يعيد إنتاج صورة دهرية مدعمة بشواهد معاصرة. وفي تقريره: الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية يتحدث الفاسي عن اكتشاف البخار فيرده إلى مصادفه وقعت لصبي كان يلهو بمروحة متصلة بإناء فرآه رجل فتعجب واستنبط هذا البابور Vapeur المعروف بعقله الظلماني. ويمضي الفاسي في تفسيره لأسباب أكتشاف البخار فيقول: «لأن العقل على قسمين ظلماني ونوراني. فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية ويزيدهم ذلك توغلاً في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية، كالإيمان بالله وبملائكته ورسله وكل ما يقرب من رضى الله، ومن هذا الباب وصفهم الله في غير آية بعدم العقل وبعدم التفكر وبعدم الفقه. ولا تفوت الفاسي ملاحظة أوجه الحياة في عاصمة الإنكليز كوصفه لمعمل الزجاج ومكتب البرق والبنوك ومتحف السلاح والمعارض ومصانع السلاح. وعلى الرغم من ذلك فإنه يحتفظ بموقف عداء واحتقار للأوروبيين والكفار. فهو إذ يلاحظ قوة الإنكليز يستنتج ما يلي: «جميع المراكب التي عند الإنجليز مائتان وألف فسبحان من قضى عليهم بالكفر وحتمه عليهم حتماً. ومن كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى…» .
ــ 3 ــ لقد وضح لنا بشكل صريح أن القرن الثامن عشر قد حمل معه تفاوتاً في النظر الإسلامي إلى أوروبا، وقد برز لدينا اتجاهان مختلفان في التعامل مع أوروبا وفي النظر إليها، لكن أوروبا الصاعدة بقوتها وعلومها لم تستطع أن تفرض حتى أواسط القرن التاسع عشر الطريقة التي ينظر من خلالها المسلمون إليها.
إن تطور أشكال متفاوتة من النظر إلى أوروبا لم يكن نتيجة لتطور أوروبا ذاتها، بل نتيجة أيضاً للأوضاع الداخلية للمناطق الإسلامية المختلفة.
عبر مضيقي البوسفور وجبل طارق كانت تحصل الاتصالات الإسلامية بأوروبا لكن الانطباع الذي بدأ يتكون في الشرق لم يكن مطابقاً للانطباع الذي تأصل في الشرق، فما الذي جعل العثمانيين يرهفون السمع إلى جلبة تقدم أوروبا العسكري، بينما ظهر المغرب وكأنه يتحاشى التنبه إلى الوقائع المستجدة في أوروبا القرن الثامن عشر.
بالنسبة للعثمانيين فإن الإشارات الأولى التي نبهت إلى مخاطر القوة الأوروبية جاءت مبكرة وسابقة للهزيمة العسكرية. إن دولة كبرى كالدولة العثمانية كان بإمكانها أن تفرز رجالاً يجمعون إلى سعة الأفق دقة التأمل، مهما تضاءل عددهم. لكن الهزيمة العسكرية هي التي نبهت شخص السلطان، بالدرجة الأولى، إلى المخاطر التي تهدد دولته من جراء صعود القوة العسكرية الأوروبية. ليس هذا فقط، بل إن الذين هزموا واقعياً، أي قوات الإنكشارية، كانوا على نقيض مع شخص السلطان منذ بدايات القرن السابع العشر وقبل أن تأتي الهزيمة في نهايته.
من هنا نتفهم الإلحاح الذي أظهره خمسة سلاطين متعاقبين خلال القرن الثامن عشر على الإصلاح العسكري. إن الإصلاح العسكري كان يعني في ظروف العصر إدخال إصلاحات جديدة على النمط الأوروبي وفرضها على قوات الإنكشارية التي كانت بدورها ترفضها بدعم من بعض رجال الدين المتنفذين.
ومن الطبيعي أن تسمح ظروف هذا الصراع الذي تواصل على امتداد القرن الثامن عشر بالتعرف إلى أوروبا أكثر وأكثر، وباتساع دائرة المؤيدين للإصلاح والمدافعين عنه. ومن جهة أخرى فإن الأوروبيين أنفسهم ما كانوا بعيدين عما يجري في إستامبول، والفرنسيون الذين أقاموا على الدوام علاقات حسنة مع العثمانيين كانوا ينظرون إلى توظيف هذا الصراع ضمن تصورهم لمصالحهم. ولم يتباطأ الفرنسيون بتلبية جميع طلبات السلطان عبد الحميد الأول (1774 ـــ 1789) ووزيره المتحمس للإصلاح خليل حميد ، وأرسلوا بعثة مكونة من عشرات المتخصيين الذين وضعوا في خدمة السلطان ومشاريعه الإصلاحية.
وهكذا فإن دائرة المدافعين عن الإصلاح، المنفتحين على أوروبا، كان بإمكانها أن تجد الظروف الملائمة لتعزز قناعتها، وترسخ أسس نظرة جديدة إلى أوروبا مبنية على الإيمان بأن تقدم أوروبا العسكري والعلمي يمكن أن يستوعب في الإطار العثماني لاستعادة القوة السابقة.
إن غائية مشروع الإصلاح ضمن الصراعات الداخلية تحولت إلى اقتناع بقضية التقدم كما أبرزتها أوروبا، وخصوصاً فرنسا، لدى العديدين من المنفتحين على المدنية الأوروبية. إن إبراهيم متفرقة أو أحمد رسمي والكثير غيرهما، وهم المعتمدون على دعم السلطان كان بإمكانهم، ليس فقط أن يدافعوا عن وجهات نظرهم بل أن ينتقدوا القوى التي تحول دون المضي في المشروع الإصلاحي. و أحمد رسمي في إنتقاده الصريح لرجال الدين والمحافظين، خطا خطوة واسعة تبشر بنمو فريق واسع من المتنورين المنفتحين على أوروبا ومدنيتها الذين سيبرزون خلال سنوات قليلة.
والوضع لم يكن ذاته في الطرف الآخر من العالم الإسلامي، فلم يشهد المغرب أية صراعات داخلية من هذا الطراز، فالإدارة لم تكن سوى حاشية السلطان عبيد البخاري ، والجيش لم يكن ـــ في عهد مولاي إسماعيل ـــ سوى مجموعة من العبيد: إن أي مهمة إصلاح لم تكن مطروحة طوال القرن الثامن عشر في الإطار المغربي، ولهذا فإن نمو القوة العسكرية الأوروبية كان يعني ازدياد خطر العدو الأوروبي، لكنه لم يكن ليعني أي أمر على الصعيد الداخلي. وكذلك فإن «التقدم» الأوروبي، وإن صار معروفاً وملموساً بالنسبة لبعض معاوني السلطان، فإنه لم يكن إلا ليزيد الصورة البغيضة للعدو القديم ـــ الحديث.
ويمكننا أن نستنتج أنه لم يكن كافياً أن يبرز وجه جديد لأوروبا حتى تتبدل نظرة المسلمين إليها، فقد كان لا بد للعامل الأوروبي من أن يدخل عنصراً قي الصراعات الداخلية ليسهم على نحو فعال في زحزحة النظرة التقليدية.. كان ذلك في القرن الثامن عشر، وقبل قيام الثورة الفرنسية وبروز الوجه الاستعماري لأوروبا لاحقاً.
الهوامش
غرونباوم: حضارة الاسلام ، مكتبة مصر بالفجالة ص 21
رودنسون، مكسيم: «الصورة الغربية والدراسات العربية الإسلامية، ضمن تراث الاسلام»، سلسلة عالم المعرفة (8)، الكويت 1978 ص 55.
كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي ، ج2 ص. 57.
المرجع السابق ص 589-595 انظر ايضاً: Adnan, A: La science chez les trucs ottomans , Paris 1939. P.60. المرجع السابق، ص 122.
كراتشكوفسكي ج2 ص 639 وعدنان ص 123.
كراتشكوفسكي ج2 ص 638.
Lewis, B: The emergence of modern turkey , London 1961 P.34. SHAW, S.J.: Between old and new , Harvard University Press 1971 P. 185. Lewis, B: Attoman observes of ottoman decline j.c.i.i.R. Vol. I. 1962, pp. 71-77. Lewis, B: “The use of Muslim historians of non-muslim sources”. Asia Africa Series of modern histories : London 1962 Vol. IV., 180-191. Canon de Sultan Subeiman II represente a sultan Murad IV pour son instruction a Paris MOCCXXV Paris pp. 163-218. Lewis, B: ottoman observers . P. 77. نفسه، ص 82.
SHAW, S.J.: History of Ottoman . تاريخ جودت : ترجمة عبد القادر الدنا، المجلد الاول بيروت 1308 هجرية. ص 75
K ARAL, E.Z: La transformation de la turquie d’un Empire oreiental en un etat moderne . J.W.H. (1958) p. 430. اعتمدنا في عرضنا لهذه الرحلة على الترجمة الفرنسية: Relation de L’ambassade de Mehemet. effendi a la cour de France en 1720 a Paris chez Ganeau 1757. Lewis B: the Emergence of modern Turkey , P. 35. Berkes, N: art. Ibrahim Muteferriqa EI (2) Vol. 3 P. 1021. أسماء جميع مطبوعات مطبعة استامبول مع تفصيلات وشروح حولها نجدها في Toderini: de la Litterature des tires Tome 3.
Berkes, N: art. Ibrahim Muteferriqa EI (2). اعتمدنا في هذا الغرض على الترجمة الفرنسية التي صدرت تحت العنوان التالي:
Traite de la tactique . A Vienne 1769. Hammer Purgstall: Histoire de l’empire ottoman depuis son origine .. volume XVI. Paris 1839. PP. 27-28. Berkes, N: the Development of secularism in turkey PP. 25-58. برنارد لويس: السياسة والحرب، ضمن تراث الإسلام « عالم المعرفة 8»، الكويت 1978 ص 291.
الونشريشي: أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصاري ولم يهاجر . صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد 5، ص 129 ـــ 192.
Chantal de la veronne: Veronne: Vie de Moulay ismael, roi de fes et de MAROC : Geuthner, Paris 1974, P. 21.
Peres, H: L’espagne vue par les voyageurs musulmans de 1610 a 1930 , Paris 1937 PP. 5-9. كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي ، ج 2، ص 773.
محمد بن عثمان المكناسي، الإكسير في فكاك الأسير ، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط 1965.
كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي ، ج 2، ص 771.
الفاسي، أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمن، الرحلة الأبريزية إلى الديار الإنجليزية ، تحقيق محمد الفاسي، مطبعة جامعة محمد الخامس1967.
المرجع السابق ص 37.