I. حيثيات المسألة في هذا الوقت
دعوة رئيس مجلس النواب اللبناني، الزعيم الشيعي نبيه بري، إلى “المباشرة” في تشكيل “الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية” كانت دعوةً لافتة في الشكل والتوقيت، وإن لم تكن كذلك في المضمون.
• في الشكل، لجهة تعمّده إرسال تلك الدعوة بصفته الدستورية، مع حَثّه المعنيين على المباشرة في تسمية أعضاء الهيئة، خلافاً لما كان يجري إبّان الوصاية السورية حيث كانت تلك الدعوة تُطلق بصيغة “تهديد سياسي” في وجه المعارضة المسيحية كلما طالبت تلك المعارضة بإنسحاب الجيش السوري من لبنان. وفي الشكل أيضاً، كان لافتاً – وربما شاذاً – إقدام رئيس المجلس على إرسال مذكرة إلى البعثات الدبلوماسية في لبنان يبرّر فيها مبادرته، مشدّداً على أنه لا يفعل شيئاً سوى “تطبيق الدستور اللبناني” من موقعه الدستوري (كذا… وبراءةُ الأطفال في عينيهِ!).
• في التوقيت، لجهة إندراج الدعوة في سياق نقاشٍ محتدم بين اللبنانيين، منذ حرب تموز 2006 وبصورة أشدّ إحتداماً بعد أحداث 7 أيار 2008، حول سىلاح حزب الله: أيصير إلى كنف الدولة، أم يبقى خارجاً عن إمرتها؟ وحول المشاركة الميثاقية: أتكون وفق إتفاق الطائف والدستور، أم وفق إتفاق الدوحة؟ وفي التوقيت أيضاً، تزامنت دعوة ُ بري مع تشديد حزب الله على ضرورة ” إلغاء الطائفية السياسية من النظام(…). وإلى أن يتمكن اللبنانيون من تحقيق هذا الإنجاز التاريخي الحساس(…) فإن الديموقراطية التوافقية تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان، لأنها التجسيد الفعلي لروح الدستور ولجوهر الميثاق الوطني” ( من الوثيقة السياسية الصادرة عن المؤتمر التنظيمي العام لحزب الله في كانون الأول 2009).
• في المضمون، لم تغادر مبادرةُ بري نصّ المادة (95) من الدستور اللبناني، المطابقة لما جاء في إتفاق الطائف تحت عنوان “إلغاء الطائفية السياسية” في باب الإصلاحات: ” على مجلس النواب، المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، إتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية، وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات فكرية وإجتماعية. مهمةُ الهيئة دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية”. كذلك لم تغادر الدعوة تلك الفكرة الشائعة لدى اللبنانيين، والقائلة بأن إلغاء الطائفية السياسية، رغم النصّ عليه في الدستور، إنما يحتاج إلى وقت طويل جدّاً، قد يمتد إلى عشرات السنين. وهم في ذلك يستعينون من ذاكرتهم بتلك الإلتفافة الشهيرة إلى إلغاء الطائفية السياسية التي وردت في بيان حكومة رياض الصلح الأولى عام 1943. وقد تكفّل الرئيس بري وبعضُ معاونيه بالإشارة إلى هذا “الأمد البعيد” في معرض دفاعهم عن المبادرة خلال الأسابيع الماضية، مشدّدين على أن “تشكيل” الهيئة لا يعني “المباشرة” في الإلغاء، وعلى أن صلاحياتها محصورة في التداول والمناقشة والإقتراح. إلى ذلك ثمة قناعة راسخة ومُحقّة في ذهن اللبنانيين، مفادُها أن الزعامات اللبنانية الواقفة على أرض الطائفية السياسية إنما ترفض عملياً إلغاء هذه الطائفية – رغم التصريحات والمزايدات – لأنها تمثّل مبرر وجودها السياسي. وقد ينطبق مبرر الوجود هذا raison d’être على الرئيس بري أكثر من سواه. والحال كذلك، أي مع غياب شيء لافت في مضمون الدعوة، فإن الشكل والتوقيت، مرتبطَين ببعض الإحالات، يستحوذان على المغزى كله.
II. مغزى الدعوة الآن في ضوء بعض الإحالات
• تخويف المسيحيين.
وهو ما ظهر جلياً من خلال الإجماع المسيحي التلقائي على رفض الدعوة في هذا الوقت.إن أي دعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية تعادل في وعي اللبنانيين وعُرفهم، مسلمين ومسيحيين، الدعوة إلى حكم الأكثرية العددية؛ وهي أكثرية إسلامية في الواقع الديموغرافي اللبناني. ذلك أن ” ألأكثرية السياسية “، رغم حضورها في الوعي النخبوي، ما زالت شبحية المعنى في الوعي العام الذي ما زال وعياً طائفياً على وجه الإجمال. من هنا فإن مقترح إلغاء الطائفية السياسية يمثل، في عنوانه الأول، تخويفاً للمسيحيين الذين يعتقدون – ويشاطرهم المسلمون هذا الإعتقاد – بأنهم باتوا أقليةً موصوفة في الإجتماع اللبناني، أي ثلث اللبنانيين المقيمين عدداً ( يبدو – والله أعلم – أن الفريق المسيحي في إجتماع الطائف 1989 قد وافق على مبدأ إلغاء الطائفية السياسية تحت وطأة ” ضغط مهول “!).
يتضاعف هذا الخوف بلحاظ معطيات إستجدّت في العقدين الأخيرين:
– اللهجة الإنتصارية لدى كثير من أعيان المسلمين اللبنانيين إبّان الوصاية السورية، بناءً على فرضيّة أن الحرب في لبنان قد إنتهت بغالب ومغلوب!
– اللهجة الإنتصارية الشيعية بعد تحرير الجنوب 2000 وحرب تموز 2006، ثم النبرة الإستقوائية بعد 7 أيار 2008، بناءً على مقولة أن ” قوة لبنان في مقاومته الشيعية “!
– حدوث المزيد من تراجع الوجود المسيحي في المنطقة العربية، فضلاً عن تراجع الحضور، بعد سقوط النظام العراقي السابق الذي كان – رغم عواهنه والمثالب – يشكل سدّاً أمام توسُّع الأصولية الإيرانية في المنطقة العربية وأمام إنتشار السلفية الجهادية العنفيَّة بصيغتها ” القاعدية “. هذا بالإضافة إلى ضمور الجماعة المسيحية الفادح في فلسطين بفعل السياسات الإسرائيلية العنصرية. في المقابل، فإن النظام السياسي العربي – وهو نظامٌ في عهدة المسلمين عملياً – لا يقدّم ضمانة يُعتدُّ بها للوجود المسيحي بين ظهرانيه في معظم البلدان (وضع الأقباط في مصر، مثالاً بارزاً).
– يالعودة إلى الوضع الداخلي اللبناني بعد الحرب، فقد إتّسم هذا الوضع بتفاقُم الحذر المتبادل بين المسلمين والمسيحيين، بتحريضٍ منهجيّ من قِبل الوصاية السورية، ثمّ تميّز بعد العام 2005 بإنفجار التناقض المذهبي بين أهل السنّة والشيعة، وبنشؤ خوف مسيحي إضافي إزاء هذا التجاذب الدراماتيكي الذي بلغ حدّ الفتنة الدامية. وفي الحالتين – أي أثناء الوصاية وبعدها – كانت الدولة اللبنانية عاجزة عن رفع تلك المخاوف والهواجس، كما ظلّت مقصّرة في معالجتها.
لذلك كلّه إتّسم ردُّ الفعل المسيحي على المبادرة بشيء من ” الهلع “، ما كان منه مبرَّراً وغير مبرَّر.
• الإبتزاز السياسي والطائفي.
قلنا إن شعار إلغاء الطائفية السياسية إنما كان يُطلَق أثناء الوصاية السورية بصيغة ” تهديد سياسي ” في وحه المعارضة المسيحية كلما طالبت تلك المعارضة بإنسحاب الجيش السوري من لبنان. وغالباً ما كان يُطلق التهديد على لسان شخصيات سياسية إسلامية لصيقة بالحكم السوري، أبرزُها نبيه بري، ومن فرسانها الأشاوس النائبان السابقان عبدالله الأمين وناصر قنديل. آنذاك يمكن القول بأن ” عملية الإبتزاز ” كانت تجري وفق ” المقايضة ” التالية: إذا كنتم تصرّون على الإنسحاب السوري، فإن إلغاء الطائفية السياسية، أي حكم الأكثرية الإسلامية، هو البديل؛ أو فلا هذا الإلغاء ولا ذاك الإنسحاب .. وكفى اللهُ اللبنانيين شرَّ الفتنة بإستمرار الوصاية الأخوية! أكثر من ذلك، فإن القيادة السورية كانت توحي لأتباعها من المسلمين بأن إستمرلر الوصاية كفيلٌ بالحؤول دون عودة “الهيمنة المسيحية السابقة”، مثلما كانت توحي في الوقت نفسه لأتباعها من المسيحيين بأن إستمرار وصايتها كفيلٌ بتمكينهم، يوماً ما، من قلب الطاولة على رأس خصومهم المسلمين (حكمةُ الإستعمار الأزليَّة! ). لنقُل – وإن كان ثمّة بُدٌّ من هذا القول الثقيل – بأن إستجابة بعض اللبنانيين، من هنا وهناك، لتلك الحكمة لم تكن إلا نوعاً من ” الإستحمار ” !
كيف يمكن أن يتم الإبتزاز اليوم بعد خروج الجيش السوري من لبنان؟
قبل الإجابة عن مثل هذا السؤال، من المفيد إيراد ثلاث ملاحظات راهنة:
الأولى، أن الرئيس بري يمثل اليوم أحد أبرز الشواخص الثابتة للسياسة السورية في لبنان، بالإضافة إلى كونه على” تضامن إجباري” مع حزب الله. وهو تضامن يُمليه التحالف السوري – الإيراني، طالما أن هذا التحالف لم تفسخه الضغوط الدولية والعربية، كما يُمليه أيضاً وخصوصاً ميزان القوى داخل الطائفة الشيعية، الذي يجعل من نبيه بري “ملحقاً” بالحزب، ولو على كُرهٍ يخنق الأنفاس! بالتالي يصعب إفتراض ألا تكون مبادرتُه منسّقة مع مرجعيته السورية، وألا تأخذ بكثير من الإعتبار حسابات حزب الله في شأن الطائفية السياسية.
الملاحظة الثانية، أن الحكم السوري يقوم اليوم بـ”تمثيل دور” العائد بنفوذه إلى لبنان. ومع ميلنا إلى الإعتقاد بأن هذه “التمثيلية” لا تنتمي إلى “مسرح الواقع” بمقدار ما تعكس رغبة ذاتية ما زالت تفتّش عن “سماح عربي ودولي؛ إذ طالما سمعنا من العرب والغربيين أن “مساعي التفاهم مع القيادة السورية من أجل تغيير سلوكها الإقليمي لن يكون على حساب لبنان” – مع ذلك يبقى لدى الإستقلاليين اللبنانيين تخوُّف كبير ومشروع من أن يفقدوا إستقلالهم مجدداً “إرضاءً” للسوري على إنسلاخه عن الإيراني؛ وذلك إستناداً إلى تقاطع حاجتين: الأولى، حاجةُ الحكم السوري الماسة إلى المجال اللبناني؛ وهي حاجةٌ لا يبدو أنه قادرٌ حتى الآن على تصوّر تلبيةٍ لها إلا بالإستحواذ على هذا البلد، فضلاً عن رغبة جامحة في الثأر لما حدث في نيسان 2005 لا تُبدي القيادة السورية إستعداداً للشفاء منها. والثانية، حاجةُ العرب والغربيين الماسة إلى أن تكون ” الوَزنة ” السورية في كفّتهم. وهنا يبدو الإمتحان أمام اللبنانيين أكثر تعقيداً مما كان عليه عشية إنتفاضة الإستقلال.
الملاحظة الثالثة، هي أن مبادرة الرئيس بري تأتي في ظلّ إعتراضٍ شديد اللهجة من قِبل غالبية المسيحيين على سلاح حزب الله، كما على التحفُّز السوري لإستعادة نفوذه في لبنان (الإستثناء العوني في وضعه الراهن بات يؤكد هذا الموقف المسيحي التقليدي بدلاً من أن يضعفه، خصوصاً بعدما بات عون على طرف نقيض مع كنيسته). وهذه المرة يشارك المسيحيين الإعتراض الغالبية السّنية الساحقة، وإن بعبارات مختلفة (ليس صدفة تحفُّظ السّنة عن المبادرة، إلى حدّ مطالبة بعضهم بإلغاء ” الإلغاء” من النصّ الدستوري!).
إستناداً إلى ما تقدّم من ملاحظات، قد يمكن القول بأن ” عملية الإبتزاز ” تجري اليوم وفق الأطروحة التالية: إذا كنتم تصرّون على رفض سلاح حزب الله ( القائم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن السلاح السوري السابق ) وعلى رفض عودة النفوذ السوري، فإن إلغاء الطائفية السياسية، أي حكم الأكثرية الإسلامية، هو البديل.. أو فلا هذا الإلغاء ولا ذاك الرفض، وكفى اللهُ اللبنانيين شرَّ الفتنة باستمرار ” إتفاق الدوحة ” قاعدة للحكم بدلاً من إتفاق الطائف والدستور!
إزاء إعتراض القسم الأكبر من اللبنانيين على مبادرة السيد بري، حذّرهم هذا الأخير بقوله: “سوف تندمون على إعتراضكم!” ولعله كان يقرأ في عقل الرئيس السوري الذي سيُتحف صديقه الصحافي الأميركي سيمور هيرتش بحديث “من فوق السطوح” – ويصحّ القول “من تحت الزنّار”. قال: “إن الحرب الأهلية في لبنان لا تحتاج إلى أسابيع أو شهور كي تنشب، بل إلى أيام”. وأضاف: “لا يمكن أن يطمئنَّ أحدٌ إلى شيء في لبنان إذا لم يتغيّر النظام برمَّته” (مجلة نيويوركر 3 / 2 / 2010). هذا الكلام يحاول إبتزاز اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، بأسلوب سوقي فجّ. غير أن التهديد بحرب أهلية على الأبواب، يمكن أن تدخل في غضون أيام، إنما هو تهديدٌ موجّه بالدرجة الأولى إلى المجتمعين العربي والدولي؛ ومفاده أن إشعال هذه الحرب هو في يد النظام السوري الذي يطلب أجراً معلوماً لمنعها.
ولقد ترافق كلام الرئيس السوري عن لبنان مع ” عنتريات ” لوزير خارجيته بشأن الحرب في المنطقة، الأمر الذي إستدعى من “العنتر” الإسرائيلي النظير أفيغدور ليبرمان رداً طاول قدس أقداس “التفاهم” السوري – الإسرائيلي المستمر منذ نحو أربعين سنة: “هذه المرة ستخسرون نظامكم السياسي مع الحرب!” (صحف 5 / 2 / 2010). على الأثر، جاء “توضيح” سوري “رفيع المستوى” (الحياة 6 / 2 / 2010) يفتقر أكثر ما يفتقر إلى الوضوح – وإن وجد فيه بعض أطراف 14 آذار مدعاة ً للترحيب الحار – كما جاء “توضيح” نتنياهو ليطيّب خاطر الأسرة الحاكمة في سوريا.
إذا كان الشقّ الأول من حديث الرئيس السوري (الحرب الأهلية) يثير حفيظة حزب الله، بإعتبار أن البازار السوري المعروض يتناول سلاح الحزب، فإنَّ في شقّه الثاني “ترضية” له من حيث الوعد بتغيير النظام اللبناني في إتجاه “صيغة الدوحة” أو “المثالثة”، فضلاً عن أن مثل هذا التغيير يسهّل عودة النفوذ السوري إلى لبنان من دون حاجة إلى تدخُّل ألويته العسكرية، كما سنبيّن في الفقرات التالية.
• ماذا يعني إتفاق الدوحة ومَن المستفيد من إستمراره قاعدةً للحكم؟
مثَّل إتفاق الدوحة في حينه تدبيراً إقليمياً مؤقتاً (عربياً وإيرانياً) لتجاوز المغامرة التي أقدم عليها حزب الله في السابع من أيار 2008 – وقيل “إستُدرج” إليها. أياً ما كان الأمر، فإن منطق تلك المغامرة كان يقول: إذا كنتم تصرّون على حكم “الأكثرية السياسية”، فإني جاهزٌ لإغتصاب الدولة بقوة السلاح! يُشار هنا إلى أن إعتراض حزب الله على حكم الأكثرية السياسية بعد 2005 قد تدرّج من سحب الوزراء الشيعة من حكومة ما قبل الدوحة (التعبير السياسي الأقوى)، إلى إحتلال وسط العاصمة ومحاصرة مقر الحكومة لمدة 18 شهراً بواسطة متظاهرين أقاموا ليلاً ونهاراً في المكان ذاته (تعبير بدأ مدنياً، من خلال الإتحاد العمالي، ثم تحول خلال ساعات إلى تعبير حزبي ميليشياوي)، فإلى إستخدام السلاح في 7 أيار 2008 (“جراحة عنفية مدروسة ومحدودة” بحسب توصيف حزب الله نفسه). والحال أن إتفاق الدوحة، وبذريعة تجاوز المغامرة اللامعقولة، قد علَّق الديموقراطية اللبنانية المعمول بها وفق الدستور. كيف؟
وفقاً للدستور، فإن “المشاركة الميثاقية”، أو “الديموقراطية التوافقية”، إنما تجسّدها المناصفة الإسلامية – المسيحية في السلطة والإدارة، مع حكم الأكثرية السياسية المنبثقة من إنتخابات نيابية، بما لا يعطّل آليات إشتغال النظام الجمهوري البرلماني الديموقراطي: أكثرية سياسية تحكم + أقلية سياسية تعارض، بصرف النظر عن الهوية الطائفية لمكونات الأكثرية والمعارضة. وعليه فإن إنسحاب وزراء طائفة معينة من الحكومة – وهو ما يختلف جوهرياً عن تشكيل حكومة من دون طائفة معينة – لا يُسقط شرعية هذه الحكومة، كما زعمت قوى 8 آذار على أثر إنسحاب وزراء أمل وحزب الله من حكومة الرئيس السنيورة، بل أن روحيَّة الدستور كانت تقضي آنذاك بالمسارعة إلى تعيين بدلاء عنهم من الطائفة ذاتها وليس بالضرورة من الإتجاه السياسي ذاته. والحال أن ما أحدث “ثغرة ميثاقية” في الحكومة المشار إليها ليس مجرد إنسحاب الوزراء المذكورين، بل إجتماع عاملين في حينه: قدرةُ حزب الله وأمل على “منع” أية شخصية شيعية من المشاركة في الحكومة بعد إنسحابهما (إحتجاز الطائفة)، وعدم تجرّؤ الأكثرية على إختيار بدلاء (الرضوخ للأمر الواقع).
أما وفق إتفاق الدوحة، فإن المشاركة الميثاقية يجسّدها “حكم التوافق في جميع الأمور”، على أساس أنَّ لكل طائفة حقَّ “الفيتو” على قرارات الدولة، من خلال حزبها السياسي الغالب، أكان في الأكثرية النيابية أو الأقلية. وهذا هو التأويل الذي إعتمدته قوى 8 آذار، بقيادة حزب الله، للديموقراطية التوافقية. وعلى هذا الأساس الإستنسابي تألفت الحكومة الحالية وسابقتها: حكومة “فيتوات” طائفية مع إلغاء نتائج الإنتخابات النيابية! بعبارة أخرى أكثر تعبيراً عن الواقع: حكومة “فيتو السلاح” على الدولة!
خلاصة القول في النقطة السابقة أن “التوافقية” – بحسب التأويل الذي فرضته الشيعية السياسية، بالتحالف مع المسيحية العونية وإستناداً إلى سابقة الدوحة – تُلغي الديموقراطية لتُحِلّ محلّها آلية ذات قماشة “فدرالية”.
لقد إعتبر حزب الله في وثيقته السياسية أن “الديموقراطية التوافقية”، بصيغة إتفاق الدوحة، “تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان (…) إلى حين إلغاء الطائفية السياسية”. كذلك صرَّح الرئيس بري غير مرة بأن صيغة الدوحة هي التطبيق السليم لإتفاق الطائف والدستور بخصوص المشاركة الميثاقية. ومما لا شك فيه أن التمادي في إعتماد هذا التفسير سيؤدي إلى تكريس فدرالية الأمر الواقع de facto ، وإن لم تكن بصورة فدرالية جغرافية.
أن مثل هذه الصيغة – في حال أصبحت عُرفاً يتمتع بقوة القانون الدستوري – ستكون خير مُعين لعودة النفوذ السوري إلى لبنان. ذلك أن “تجاور” الجماعات الطائفية في الدولة، وإنغلاقها على ذواتها بذرائع الخصوصية والتوافق وحق النقض، سيجعلان منها جماعات مسكونة بالخوف المتبادل، فتلجأ كل واحدة منها، على طريقتها، إلى “المرجعية السورية” التي لن تلبث أن تستعيد سيرتها الأولى من باب “المساعي الأخوية الحميدة” لخير لبنان وإستقراره! غير أن “حديدان” السوري، كمرجعية وملاذ للأقليات الخائفة المتناحرة، لن يكون وحيداً في الميدان. فهناك إسرائيل، الأكثر عراقةً والأشدّ بأساً في هذا المجال، والحاضرة دائماً للعب مثل هذا الدور “الحميد” ..فتأمَّل!
• ماذا عن النزعة الفدرالية؟
إن حرباً أهلية، بالطول والعرض وعلى مدى خمس عشرة سنة، لم تفلح في أخذ لبنان إلى الفدرالية، فكيف بعد مصالحة تاريخية في عمق أعماق اللبنانيين أتاحتها إنتفاضة الإستقلال (شباط – آذار 2005)، وفي وقت بات لبنان المركزي الموحّد، الحاضن لواقع العيش المشترك، حاجةً عربية ودولية أكثر من أي وقت مضى! هذا هو إنطباع الفئة المتبصّرة من الرأي العام اللبناني الجديد. مع ذلك فإن المشهد اللبناني الحالي يشي بثلاث نزعات فدرالية، تتباين قليلاً أو كثيراً، كما يلي:
أ. نزعة حزب الله:
وتتمثّل في حرص الحزب، من موقعه الممسك بتلابيب الطائفة الشيعية، على الإحتفاظ بحق إستخدام “الفيتو” في وجه قرارات الدولة السيادية. وهنا تدخل أطروحة “المثالثة” الشيعية – السنية – المسيحية كبديل من “المناصفة” الإسلامية – المسيحية، كما تدخل صيغة الدوحة بوصفها صيغة دائمة للحكم. هذا المقدار يمثل الحدّ الأدنى الذي لا يبدو الحزب مستعداً للتنازل عنه طوعاً. أما الحدّ الأقصى – على ما تشير مبادئه الثابتة وبعض حراكه الإجتماعي والأمني – فقد يتمثّل في الطموح إلى السيطرة على مجمل الدولة اللبنانية الموحّدة، بصورة أرجحيّة شيعية تحاكي الأرجحية المارونية السابقة، وهذه المرة إستناداً إلى متغيرات سياسية وإقتصادية وديموغرافية وأمنية حدثت في العقود الثلاثة الأخيرة وحققت لحزب الله والطائفة الشيعية “فائض قوة” يشبه فائض القوة المارونية أبّان عصرها الذهبي، وإن إختلف “الفائضان” من حيث المنشأ والوسائل والأداء. فإذا لم يتحقق هذا “الحد الأقصى” – لأنه مشروع مستحيل – يبقى “الحد الأدنى” ذو القماشة الفدرالية هو المقدار المعمول به.
أين يقع نبيه بري من هذه النزعة؟ يبدو في منطقة الإلتباس المقصود نظرياً، وفي موقع “الشريك المضارب” عملياً، وفقاً لقاعدة: “مَن حضر السوق باع واشترى!”. وفي هذا الموقع قد يشكل إزعاجاً لحزب الله، ولكنه لا يشكل تحدّياً جدياً طالما أن ميزان القوى الشيعي راجح لصالح الحزب بصورة فادحة. في هذه الحدود، ومن خلال مبادرته، يبدو نبيه بري وكأنه يعمل خادماً لسيّدين: الحكم السوري وحزب الله. غير أنه لا ينسى، وليس من عادته أن ينسى، مصلحته الشخصية في ما يبادر اليه. فالذي يقلق الرئيس بري أشدَّ القلق هو أن تتحوَّل القماشة الفدرالية، بفعل حدث دراماتيكي كبير، إلى ثوب تقسيمي على الأرض، الأمر الذي سيجعل من “تصفية” نبيه بري – لا سمح الله – المهمة الأولى لدى حزب الله، قياساً على تجارب سابقة في غبر “ساحةٍ طائفية”. من هنا يجد الزعيم الشيعي مصلحة أكثر من حيوية في تثبيت صيغة الدوحة (الفدرالية المقنَّعة) التي تُتيح له دوراً مرموقاً عند التقاطع السوري – الإيراني، كما في شكليات التواصل مع الطوائف الأخرى.
وما دمنا في الجانب الإسلامي، قد ينبغي التساؤل: إين يقع وليد جنبلاط من هذه النزعة؟ قبل تحوُّله السياسي الأخير، ذي النكهة “الوجودية”، كنّا نعلم علم اليقين أنه يقف بصلابة وفروسية على أرض الطائف. بعد التحوُّل الذي فاجأنا (مووو؟!) لم نعد نعرف إلا على وجه التخمين، لا سيما وأن جنبلاط أخذ يكرز ب” أمن المجتمع الدرزي أولاً” وب”الإسلام والعروبة وفلسطين أولاً” آخذاً على فكرة “لبنان أولاً” تخلُّفَها ورجعيتَها. وللإنصاف ينبغي القول بأنه لم يأخذ عليها حتى الآن “عمالتها”!
ب. نزعة العماد ميشال عون:
يشترك العماد عون مع حزب الله في إثنتين: أطروحة “المثالثة” ومقارعة الحيثيَّة السنّية في لبنان. ولكن وضعيته تختلف عن وضعية الحزب في إثنتين.
1. أنه في حاجة إلى الحزب – بعد ذهابه بعيداً في التورّط معه – كي يثبّت نفسه زعيماً للثلث المسيحي، بينما لا يحتاج إليه حليفه كي يثبّت نفسه زعيماً للثلث الشيعي (حاجة الحزب إلى عون هي على صعيد آخر. وقد إنتقلت على هذا الصعيد من البحث عن غطاء مسيحي لمشروع شيعي إلى إستخدام العونية مطيَّة لإختراق البيئة المسيحية بما في ذلك الإختراق الثقافي). وفي هذا الصدد – أي تثبيت الزعامة – فشل عون فشلاً ذريعاً، إذ تقلّصت شعبيته بشكل ملحوظ لمصلحة خيار الكنيسة المارونية، بينما حقَّق حزب الله بعض النجاح في “الإختراق” ولو على ظهر حصان أخرق.
2. تمثل نزعة عون تراجعاً دراماتيكياً عن حصة المسيحيين الملحوظة في إتفاق الطائف (النصف)، بينما تمثل نزعة حزب الله حركة هجومية لتكبير الحصة الشيعية. هذه المفارقة غير القابلة “للبلع” مسيحياً حاول عون تسويغها بالتلاعب على الكلام، فبدا كمن جاء ليكحّلها فعماها: “الثلث الفعلي خيرٌ من النصف الإفتراضي”!
لذلك، ولأسباب أخرى تتعلق بسيكولوجيا الجنرال وسيرته، تبدو النزعة الفدرالية العونية مفصَّلة على قياس “الشخص” أكثر مما هي على قياس “الجماعة”. إلى ذلك فإن هذه النزعة تعتاش على بقايا حالتين نكوصيتين في الواقع المسيحي اللبناني، تنتميان إلى ما قبل معطى الإستقلال الثاني، هما “الإحباط” و”تحالف الأقليات”.
ج. نزعة “لبناننا”:
أبرز المعبّرين عن هذه النزعة – وليس أعرقهم بطبيعة الحال – القيادي الشاب في حزب الكتائب النائب سامي الجميّل. وتقوم أطروحته على أن “الشراكة مع المسلمين في دولة مركزية باتت غير قابلة لأن تكون منصفة؛ والحال كذلك فهي تهدد الوجود المسيحي الحر”. وعليه – يضيف خطاب الجميّل – “فإن الإدارة الذاتية المسيحية، في نظام وحدات إقليمية طائفية، مع التخلي عن مركزية الدولة، هي الصيغة المنصفة والمطلوبة”. ولهذه الغاية يتمّ إستعراض سلسلة من الخرائط تحاول مطابقة الديموغرافيا على الجغرافيا. تَفرِق هذه الدعوة عن الجنرال عون في كونها تعلن يأسها من “جميع” المسلمين، سنّةً وشيعة ودروزاً، بينما يحاول عون إستغلال التناقض السنّي – الشيعي بأسلوبه المعلوم. لذلك يبدو رأي سامي الجميّل وكأنه “إجتهاد” من داخل المدرسة العونية ذاتها؛ وقد يعتقد الجميّل بحصول العكس، أي بأن الجنرال يحاول الإجتهاد من داخل مدرسة “لبناننا”! إلى ذلك يرى بعض المراقبين أن عامل “الفتوَّة العُمرية” يزيّن للقيادي الشاب وراثتين: وراثة الحالة العونية – بعد طول عمر الجنرال – نظراً لأن محازبي عون غير قابلين للإستيعاب في إطار القوات اللبنانية؛ ووراثة الحالة الكتائبية برمّتها بعدما أصبحت بنيتها التقليدية عاجزة عن أية مبادرة تاريخية للتجدد وأسلست قيادها لفتاها الأغرّ.
إذا تأملنا في واقع هذه النزعات الفدرالية، ما كان منها صريحاً أو مقنّعاً، نراها جميعاً “مقطورة” إلى عربة حزب الله بصورة موضوعية. بمعنى أن قدرتها على التحقق مرهونة بقدرة حزب الله على الإندفاع قدماً في هذا الإتجاه. من هنا خطورة التمادي في ترتيب الدوحة الذي يفاقم النزعات الفدرالية على حساب الدولة المركزية، ويُغري بتعميم “أوراق التفاهم” بين حزب الله من جهة وبين كل واحدةٍ من الجماعات الأخرى التي لن تلبث أن تجد نفسها أجراماً تدور في فلكه. وبذلك يُعاد تركيب الدولة على صخرة “طائفةٍ ملكة”!
مما لا شك فيه أن التضامن الإسلامي – المسيحي الذي استولد الإستقلال الثاني، معزَّزاً برأي عام عابر للطوائف والمناطق والأحزاب، ما زال يشكل عقبة أساسية أمام النزعات الفدرالية ومشروع “تغيير وجه لبنان”. غير أن هذا التضامن في حاجة اليوم إلى أن ينتقل من وضعية الدفاع السلبي والتآكُل البطيء إلى وضعية المبادرة الإيجابية في إتجاهات أربعة:
– في إتجاه تجاوز ترتيب الدوحة لمصلحة الدستور والديموقراطية اللبنانية الحقيقية (توافقية المناصفة لا توافقية الفيتوات الحزبية الطائفية).
– في إتجاه بعض القوى السياسية التي إبتعدت عن الإطار الجامع للحركة الإستقلالية أو عبَّرت عن قلق داخله، بُغية العودة إلى السير معاً، ولو بلا “نظام مرصوص”.
– في إتجاه بعض المساحات الشعبية التي ما زالت أسيرة الهواجس الأقلّوية، أو تلك التي يخترع لها زعماؤها مهمات مستحيلة.
– أخيراً وليس آخراً، في إتجاه الرأي العام الإستقلالي الذي بات يرفض أن يبقى مجرًّد إحتياطيّ يُستدعى عند الحاجة.
وإذ نتحدّث عن التضامن الإستقلالي، المسيحي – الإسلامي، بوصفه تضامناً تأسيسياً وإستراتيجياً في آن معاً، لا يفوتنا التحذير من الإنزلاق نحو “ثنائية مذهبية” لم يعد لها من مسوِّغ في منطق دولة الطائف.
III. الطائفية السياسية في وصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين:
إصلاح لبنان لا يمرّ بما قد يؤدّي إلى إلغائه!
في ما هو “بمثابة تقديم” للوصايا، كتب غسان تويني:” أَي نعم! فهمنا على بعض، ونتَّفق على أن الشعارات التي تضجّ في ما نسمع من أحاديث لا يعني سماعُها تسليماً بها ولا قبولاً. مثلاً؟ إلغاء الطائفية السياسية! (…) وها أنت تفجّر المُسارّات في وصية لا تحتمل شكّاً ولا لبوساً: حذار الإنسياق مع أقوال حَقّ قد تقود إلى باطل! إصلاح لبنان لا يمرّ بما قد يؤدي إلى إلغائه!”.
مع وصايا رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السابق، نحن أمام رأي مختلف تماماً عن رأي حزبَي الطائفة الشيعية بخصوص إلغاء الطائفية السياسية. وبدايةً يحسن بنا إثبات نصّ الوصية الذي لا يحتمل التأويل، مع الإشارة إلى أنها مسجلة خلال الأسبوع الأخير من سنة 2000:
” أوصي الشيعة اللبنانيين بوجهٍ خاص، وأوصي جميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، أن يرفعوا من العمل السياسي، من الفكر السياسي، مشروع إلغاء الطائفية السياسية، لا بمعنى أنه يحرم البحث فيه والسعي إليه، ولكن أنه من المهمات المستقبلية البعيدة، وقد يحتاج إلى عشرات السنين لينضج بحسب نُضج تطور الإجتماع اللبناني وتطورات المحيط العربي بلبنان. أوصي بالثبات والإلتزام بنظام الطائفية السياسية مع إصلاحه. وأعتقد أن صيغة الطائف هي صيغة نموذجية في هذا الشأن.(…) أعتقد أننا بهذا سنحقق للبنان إستقراراً سياسياً، وإمكانيات كبرى للإندماج الإجتماعي، وللثقة المتبادلة بين مجموعاته، ولتسريع حركة النمو والتقدم. وأعتقد أن لبنان بهذا سيبقى منارة ونموذجاً لكل المجتمعات الأخرى التي تتميز بالتنوع الشديد ” (وصايا، ص 52 – 53 – 54).
في هذه الوصية تشديد غير عادي على “التمسك” بنظام الطائفية السياسية، كما آلَ إليه هذا النظام جرَّاء إتفاق الطائف، وصرف النظر عن أي عمل أو تفكير يؤدي إلى إلغائه. نعم، يتضمن نصّ الوصية العبارة الإستدراكية التالية:” … لا بمعنى أنه يحرم البحث فيه والسعي إليه “. ولكن سرعان ما يتّضح أن هذا الإستدراك أنما هو نوع من الإحتياط المنهجي لجهة عدم المصادرة على المستقبل البعيد. إذ إن ما يليه من تقديرٍ عالٍ لصيغة الطائفية السياسية في لبنان يُعيدنا إلى أساس الوصية، وهو صرف النظر عن مشروع إلإلغاء، كما أنه يُضفي على الصيغة سمة “إستراتيجية بعيدة المدى” خلافاً للسمة “الإنتقالية السريعة”، التي يُفصح عنها إتفاق الطائف والدستور (مباشرةً بعد إنتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة، يبدأ البحث في السبل والإجراءات الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية).
والوصية أعلاه تحذّر من التوقيت الخاطىء. وخطأ التوقيت لا يتعلّق باللحظة السياسية الراهنة فحسب، بل بالمرحلة التاريخية التي يعيشها لبنان. وذلك بإشارة الوصية إلى أن الإلغاء يتطلَّب “نُضج الإجتماع اللبناني” وجاهزيته لمثل هذه الخطوة. وهذا يعني بوضوح أن الإمام شمس الدين يأخذ بمقولة “النفوس قبل النصوص” التي يرددها الشريك المسيحي منذ نحو ستين سنة والتي لم تزدها الأيام إلا وجاهةً.
غير أن الوصية تُضيف إلى هذا “الشرط اللبناني” لإلغاء الطائفية السياسية “شرطاً عربياً” لم يُشر إليه أحدٌ، على حدّ علمي. فهي ترى أن “نُضج المحيط العربي بلبنان” يمثل شرطاً آخر ضرورياً لإمكانية إلغاء الطائفية السياسية. ذلك أن مثل هذا الإلغاء – مع إستمرار صعود الأصوليات الإسلاموية ومشاريع الفتن الأهلية في المحيط العربي – سيجرّد العيش اللبناني المشترك وواقع التنوع من اية ضمانة فعلية. بهذا المعنى ستكون خطوة إلغاء الطائفية السياسية، قبل أن تنضج شروطها، قفزةً في الهواء ومغامرةً قد تؤدي إلى زعزعة الكيان السياسي – الإجتماعي برمَّته.
لتوضيح مخاوف الإمام شمس الدين ينبغي العودة مجدداً إلى نصّ الوصية. فبعد أن يشير إلى أن شعار إلغاء الطائفية السياسية كان من الشعارات الثابتة لدى المسلمين اللبنانيين، وفي هذا الشأن وضع مشروعاً خاصاً هو “مشروع الديموقراطية العددية القائمة على مبدأ الشورى”، يضيف مستدركاً:
” ولكني تبصّرتُ عميقاً في طبيعة الإجتماع اللبناني، وفي المجموعات المكوّنة للمجتمع اللبناني، وفي طبيعة النظام الديموقراطي البرلماني الذي يتميّز بخصوصيات معينة نتيجةً للتنوع الطائفي.. وتبصرّتُ عميقاً في تفاعلات الفتنة اللبنانية، وفي خفايا ما تحمله في ثناياها أفكار القيادات في هذه الطوائف، سواءٌ أكانت قيادات سياسية أو دينية أو ثقافية، على تفاوت ما بين هنا وهناك.. تبيّن لي أن إلغاء نظام الطائفية السياسية في لبنان يحمل مغامرة كبرى قد تهدّد مصير لبنان، أو على الأقل ستهدّد إستقراره، وقد تخلق ظروفاً للإستقواء بالخارج من هنا ومن هناك، ولتدخُّل القوى الأجنبية من هنا ومن هناك. لذلك فإني أوصي … “(وصايا، ص 52).
هذا القسم من الوصية يضعنا أمام النقطة الأشدّ درامية في المسألة من وجهة نظر الإمام شمس الدين. فمقابل الرأي القائل بأن أزمة نظام الطائفية السياسية في لبنان قد بلغت أوجَها، وأن الحلّ السليم إنما يكون بالذهاب فوراً إلى إلغاء الطائفية السياسية لوضع البلد بشكلٍ عملي وقانوني على سكة الدولة المدنية – مقابل هذا الرأي يقول الإمام شمس الدين بأن ما “يعرفه” من خفايا في تفكير بعض القيادات الطائفية يحمله على الظنّ القويّ بان إلغاء الطائفية السياسية في الظروف الراهنة لن يؤدي بنا إلى وضعية الدولة المدنية بمقدار ما سيؤدي إلى هيمنة فئوية على الدولة أو إلى التشظّي الوطني. وفي الحالتين سيكون للتدخل الأجنبي الدور الحاسم.
* *
أذن فإن موقف الإمام شمس الدين من إلغاء الطلئفية السياسية لا يختلف عن موقف الحزبين الشيعيين (أمل وحزب الله) فحسب، بل يختلف أيضاً عن موقف الذين وضعوا نصّ إتفاق الطائف لجهة إعتبارهم الطائفية السياسية مرحلة إنتقالية ينبغي أن تكون سريعة وسيكون تجاوزها حدثاً سعيداً.
يعتقد كاتب هذه السطور أن أهل الطائف تسرّعوا في ربطهم بداية مسار إلغاء الطائفية السياسية (تشكيل الهيئة الوطنية) بأول مجلس نيابي على أساس المناصفة. ذلك أنهم بهذا العمل لم يربطوا المرحلة الإنتقالية ما بين الطائفية السياسية وعدمها بمقاصد هذه المرحلة (توفير الشروط السياسية والإجتماعية والإدارية والنفسية للإلغاء، بحيث يتجاوز اللبنانيون رواسب الحرب ومفاعيل الإحباط والتخوف التي رافقت إبرام إتفاق الطائف – وهو ما كان يمكن أن يوفره تطبيق سليم وأمين لإتفاق الطائف، خلافاً لما جرى في حقبة الوصاية) بل ربطوا ذلك بإجراء معيّن في تاريخ معيّن. فإذا علمنا أن أحداث عشرين سنة ما بعد الطائف لم تزد المشكلة إلا تعقيداً، تبدو صفة “التسرّع” قليلة على السادة أهل الطائف. وحتى لو إدّعى أنصار الدعوة إلى تشكيل الهيئة الوطنية الآن بأن هذا الإجراء يرمي إلى التشاور والتفكير الهادىء في مكان بعيد غن التشنّج، سيكون الردّ البديهي عليهم: وهل يمكن التشاور والتفكير الهادىء على سطح صفيحٍ ساخن؟! كيف يمكن التفكير الهادىء في إلغاء الطائفية السياسية بينما يجلس إلى طاولة “الهيئة” فريق يملك من القوة المسلحة فوق ما تملك الدولة ويصرّ في الوقت نفسه على أن “الفدرالية المقنّعة” المعمول بها حالياً هي الحدّ الأدنى لما يقبل به؟!
بالعودة إلى وصية الإمام شمس الدين نرى أنه يعتبر النظام السياسي المنبثق من إتفاق الطائف نظاماً “نموذجياً لإستقرار لبنان وتطوره”. ويمكن القول بأن جوهر ما يتمسك به الإمام في هذا النظام هو المناصفة الإسلامية – المسيحية. وهو في هذه النقطة شديد التوافق مع الموقف السنّي الحالي، مثلما هو شديد التوافق مع المسيحيين في مسألة “النفوس قبل النصوص”. وفي وصيّة أخرى بخصوص المسيحيين يذهب الإمام إلى ما هو أبعد من النصوص والنفوس، فيبدو مؤمناً بالمناصفة “الدائمة” كضمانة إستراتيجية للعيش المشترك، وللفاعلية المسيحية في الشرق إنطلاقاً من لبنان قبل أي مكان آخر:
” من الوصايا الأساسية التي أركّز عليها بالنسبة إلى المسلمين اللبنانيين، وبالنسبة إلى العرب جميعاً، هي الحرص الكامل التّام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان، وعلى شعورهم بالإنتماء الكامل والرضا الكامل، وعلى عدم أي شعور بالإحباط أو الحرمان أو الإنتقاص أو الخوف على المستقبل، وما إلى ذلك. وهذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة وعلى الحسّ الإنساني فقط وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية أساسية لابد من مراعاتها. وينسحب على هذا الأمر القضية التي بدأت تثير قلقاً متزايداً في الأوساط المسيحية العربية والأجنبية، وهي وجود المسيحية في الشرق وحضور المسيحية في الشرق. وأنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم”(وصايا، ص 49 – 50).
أما بخصوص “المصلحة الشيعية” في صيغة إتفاق الطائف، فيقول بأن هذه الصيغة قد جعلت من تجربة الشيعة اللبنانيين “نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع” (وصايا، ص 31). فإذا عطفنا على هذا تصريحاته الكثيرة التي يؤكد فيها أن الشيعة اللبنانيين، مع إتفاق الطائف، لم يعد لديهم أي مطلب خاص لإنصافهم في الدولة، يتبيّن لنا إعتراضه الشديد على أي “طموح إضافي” من قبيل “المثالثة” وما يعادلها.
وفي حساب “المصلحة” أيضاً يَنهى الإمامُ الشيعةَ في أي وطن من أوطانهم عن التصرُّف كأقلية تطالب بحقوق خاصة، أو تنفرد بقيادة مشروعٍ ولو كان إصلاحياً ومحقّاً، “لأنهم بعملهم هذا سيخلقون مخاوف وهواجس عند الآخرين، وسيُنظر إليهم وكأنهم فئة موالية للأجنبي”. فإصلاح الأوضاع ” إنما يكون بالعمل السياسي الإنساني الدائم لتوثيق عُرى الإندماج، بجميع سُبل الإندماج، في الحياة الثقافية والإجتماعية في أوطانهم، وفي توثيق نظام المصالح العام، وفي زيجات مختلطة، وفي كل شيء يمكن أن ينشىء شبكة مصالح عامة للمجنمع، يكون الشيعة جزءاً من نسيجها لا ينفصم”(وصايا، ص 84 ، 85 ، 86).
* *
وبعد، فإن القراءة المتأنّية لوصايا الإمام مجمد مهدي شمس الدين إلى الشيعة عموماً، والشيعة اللبنانيين خصوصاً، تُظهر مزاوجةً في العمق بين القناعة المبدئية التي ترقى إلى درجة الإيمان الواثق المطمئن، وبين المصلحة التي تتجاوز المؤقت العابر لتتصل بالكياني المصيري. ففي حديثه عن لبنان الوطن النهائي لجميع أبنائه يقول :” والحقيقة أن هذا المبدأ وُضِع ليس فقط إستجابة وترضية للمسيحيين، بل كان ضرورة للإجتماع اللبناني ولبقاء كيان لبنان، ليس لمصلحة لبنان وشعبه فقط، وإنما لمصلحة العالم العربي في كثير من الأبعاد، وحتى لمصلحة جوانب كثيرة في العالم الإسلامي، ونحن نمرّ في حقبة تاريخية مفصلية تتعلّق بقضايا التنوع والتعددية السياسية وما إلى ذلك” (وصايا، ص 47،48). وفي وصيته إلى عموم الشيعة في مختلف الأوطان يقول: “أوصي أبنائي وإخواني الشيعة في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم ومجتمعاتهم وأوطانهم، وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاٍ يميزهم عن غيرهم” (وصايا، ص27).
ولا يخفى ما لهذه الوصية الأخيرة من علاقة وثيقة بالحراك الإيراني في الأوساط الشيعية العربية. فلقد كان الإمام شمس الدين ينظر بكثير من الريبة إلى هذا الحراك في سعيه إلى إستقطاب الشيعة العرب وربطهم بالمشروع الإقليمي الإيراني، بحيث نشأت في المنطقة العربية “مسألة شيعية” لا مصلحة فيها للعرب ولا للشيعة. هذا فيما كان الشيعة يعتقدون أنهم تجاوزوا تلك المسألة – المحنة تاريخياً، ويحمدون الله على تجاوزهم إياها جرّاء دخول المنطقة العربية مرحلة الكيانات الوطنية والدولة الحديثة، ولو على كثيرٍ من التعثُّر الذي إن عاند التطور لبعض الوقت فلن يستطيع ذلك لكل الوقت.
* كاتب لبناني- بيروت