يستطيع الفرد في كل مكان وموقع في العالم ان يفكر بدرجة عالية من الحرية. لكن هذه الحرية الطبيعية لا قيمة لها اذا لم يستطيع الفرد ان يطرح افكاره بصوت عال ويتشارك مع مجتمعه ومحيطه. لهذا بالتحديد ارتبط التطور عبر التاريخ بقدرة الفرد على التعبير عن نفسه بصورة علنية وواضحة. لقد وقع التغير بصورة اكبر عندما تصادم الفرد مع عادات وتقاليد ان الاوان لتغيرها او مع انظمة سياسية ان الاوان لاصلاحها. وهنا بالتحديد يصبح صمت الفرد صعبا بل ومستحيلا وذلك لان هذا الصمت يشعره بخيانته لامانة التفكير. في نهاية اليوم لا يمكن فصل حرية التفكير عن حرية القول العلني. هذا ما اكتشفه الناس على مدى قرون طوال.
ولقد امضت انظمة سياسية ودينية قرونا طويلة في محاربة حرية التفكير والقول. واستنتجت دول ومجتمعات كثيرة، بعد تجارب قاسية، بأن محاربة الحرية غير ممكنة وان الكلمة يمكن لها ان تتواجه مع الكلمة، وان الانظمة السياسية والعادات والتقاليد والقيم التي لا تستطيع ان تصمد امام حرية الكلمة والقول هي انظمة وعادات وتقاليد ركيكة تنجح فكرة بسيطة او مقالة او سلسلة كتب بأسقاطها. واستنتجت البشرية ان الانظمة والقيم والعادات القوية والصائبة لا تخشى حرية الاخرين بل تقوى بحريتهم. لهذا اصبحت حرية التفكير ثم التعبير واحدة من اقدس حقوق الانسان لدى قطاع كبير من البشرية.
لكن الحرية الفكرية وحرية الرأي في العالم العربي لازالت اسيرة الخطوط الحمراء والموانع والمخاوف. وتؤكد الابحاث والدراسات انه لا يوجد ابداع وتغير وتطور بلا حرية خالية من الموانع والخطوط الحمراء والصفراء. بل تؤكد مسيرة التاريخ الانساني بأن تطور الانسان وفكرة وعلمه ومعرفته جاءت من خلال كسر الخطوط الحمراء لا التعايش معها ومن خلال ملامستها لا التخوف منها. فالحرية عنت في الماضي وتعني اليوم المقدرة على الوصول الى المحظور السياسي. نرى هذا البعد في الرواية حيث التمرد والاختلاف كما وفي السينما التي تحمل رسالة تغير وتبحث عن المخفي والمسكوت عنه، كما وفي القصة، نرى هذا في الفكر السياسي والعلوم الانسانية على انواعها وفي اعادة دراسة التاريخ وتجارب الانظمة السياسية العربية الراهنة.
ان التطور والتغير في كل مجتمع لن يكون ممكنا بلا ملامسة التناقضات على انواعها. فكثيرا ما تكون الخطوط الحمراء التي وضعها جيل او وضعتها سلطة احد مسببات الخمول والجمود. ربما تكون الحالة الشيوعية وخطوطها الحمراء احد اهم الامثلة في العصر الحديث على علاقة الحرية بالتغير والابداع. الحرية في التعبير عن مشكلات الزمن والحرية في تناول علاقة السياسة بالحزب او الاسرة او القبيلة او الدين او المرأة والاقليات تتطلب هامشا كبيرا من الحرية. وتقوم الحرية اساسا على تسمية الاشياء بأسمائها دون ان يعني هذا التسفيه او الاهانة او القذف. الحرية هي الضمان الوحيد لبناء مجتمعات قادرة على التعامل مع قضاياها الحيوية.
ان الحرية تتعلق اذن بحق الفرد بتناول سياسييه بالنقد عبر كتاب او أغنية او مسرح، وهي تتعلق بحق الكاتب في كتابة مقال يختلف فيه مع مراكز القوة والسلطة دون ان يشكل اختلافه خطرا على حياته وعمله واسرته. كما وتتعلق الحرية بمقدرة الدراسين على دراسة موضوع يخالف الرأي السائد في المجتمع دون ان تشكل تلك الدراسة عائقا امام عملهم وامنهم الشخصي.
الحرية المقصودة والتي سعى الانسان اليها منذ فجر التاريخ والتي تزداد تعبيراتها في البلاد العربية تخلق من العدم من أجل دفع عجلة التغير والتقدم. فلاسفة الاسلام القدماء مارسوا حريتهم كما مارسها ابن رشد الذي دفع ثمن حرق كتبه واتهامه بالزندقه، شعراء الاسلام الصوفيين مارسوا حريتهم بقوة رغم حرق كتب كل من شوقي ورومي وغيرهم من كبار الشعراء. في التاريخ الاسلامي نماذج كبيرة تدل على صراع الحرية مع النظام السياسي المغلق.
في زمننا هذا نشهد حركة اصلاحية شديدة التأثير في ايران الاسلامية، ونشهد حركة تساؤل عبر الكتب وعبر التساؤل العلني في عدة مجتمعات عربية. في هذا الزمن بداية عودة لحرية التفكير والتعبير والدفاع عنها. في الزمن القادم مواجهات حول حرية التعبير، سنجد لها تعبيرات عديدة في دول عربية شتى. هذه لحظة تزداد اقترابا.
• استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
حرية بلا موانع!
“يستطيع الفرد في كل مكان وموقع في العالم ان يفكر بدرجة عالية من الحرية.” هذه عبارة شاملة مانعة، لا تصف ولا توصف الواقع، مئات الالوف من البشر لا يجرؤن على التفكير حتى بصوت خافت.