في تصريح للسيد عارف دليلة لوكالة رويترز بعد إطلاق سراحه في 7\8\2008 قال: (قضاء كل هذا الوقت في السجن دون أن أرتكب أية جريمة يفوق تصوّري… أوضاعي الصحية كانت في تدهور… وأخيرا أفرجوا عني… كل ما أستطيع قوله الآن الحمد لله).
ربيع دمشق استُخدم في الأدبيات كتعبير عن فترة قصيرة جداً، سُمح خلالها بهامش محدود لنشطاء الرأي بالتعبير من خلال اجتماعات محدودة كانت محصلتها مجموعة من النشاطات والفعاليات التي شجعها خطاب القسم ومجموعة بيانات من الأحزاب والمثقفين. المغزى الأساسي لهذا الحراك المدني السلمي كان الحوار مع السلطة لتطبيق إصلاحات أساسية فحواها إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية المطبّقة منذ استيلاء البعث على السلطة عام 1963 وإصدار عفو عام عن المعتقلين السياسيين والسماح بعودة المنفيين وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي…
لكن هذا الحراك سرعان ما تمّت مواجهته حيث فُرضت شروط لتقييد حرية المنتديات عبر محاولة تحويل إداراتها إلى مجموعة من المراسلين الأمنيين باشتراط الحصول على موافقة أمنية لموضوع المحاضرة واسم المحاضر وتقديم كشف عن أسماء الحضور والمتداخلين قبل 15 يوم من موعد المحاضرة… ترافق ذلك مع حملة إعلامية وحزبية واسعة مغطاة بتعميم صادر عن القيادة القطرية لحزب البعث تتهم فيه النشطاء بالعمالة والارتباط بالخارج وحملات في المساجد لتكفيرهم تمهيداً لحملة الاعتقالات. وكان ذروة ذلك الحراك عندما جلس السوريون على مختلف اتجاهاتهم لرسم مشروع وطني للإصلاح عبر إعلان دمشق الذي تمّ إعلانه بشكل علني وعبر وسائل الإعلام حيث أجمع السوريون ولأول مرة في تاريخهم على كلمة سواء أنهم تجاوزوا كل ما فرّقهم في الماضي من إيديولوجيات وعقائد وخلافات، وأنتجوا صيغة توافقية تضمن للجميع أفراداً وجماعات وقوميات التعبير عن أنفسهم ضمن النسيج الوطني الواحد والمحافظة على دورهم وحقوقهم الثقافية واللغوية وتعميق مفهوم المواطنة عبر المساواة التامة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم أو قومياتهم، وأكدوا على مبادئ الحرية وسيادة القانون ودولة المؤسسات وعلى تداول السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة.
مرة أخرى كان ردّ فعل السلطة عنيفاً حيث اعتقلت قيادة الإعلان وأعضاء المجلس الوطني ومن تبقى منهم هرب خارج البلاد.. لقد فشلت سوريا مؤقتاً عبر شتاء عاصف قادته السلطة لكن الربيع برأيي مازال مستمراً.
ماذا أعني بربيع دمشق؟؟
إنها تلك المرحلة الانتقالية التي عاشتها وما زالت تعيشها البلاد.. إنه ذلك الفصل المتنوّع المتقلب، هو ليس تاريخ بعينه بل هو تلك الحقبة المستمرة رغم الجمود الظاهر فيها، ذاك الصراع المستمر بين الخوف واللا خوف، بين العنف واللا عنف.. فصل بدأ تاريخه يوم السبت 10\6\2000 عندما قطع الإعلام الرسمي بثه وظهر مروان شيخو باكياً شاهقاً يعلن نهاية عصر مليء بالأحداث، مثير للجدل معلناً وفاة الرجل الذي حكم البلاد بقبضة فولاذية عسكرية – أمنية حول البلاد إلى أشبه ما تكون بمستنقع بارد راكد لا حياة فيه، ومعلناً بداية مرحلة يشوبها الغموض والترقب والخوف من انهيار كل شيء في البلاد سيما وأن المرحلة طبعت بشكل كامل ببصمة الرئيس الراحل دون سواه.
لكن الأحداث تسارعت.. جلسة لمجلس الشعب خفّضت عمر رئيس البلاد في تعديل للدستور أثار الجدل.. نائب الرئيس الراحل يصدر مرسومين بترفيع الرئيس الجديد إلى رتبة فريق، ويعينه قائداً عاماً للجيش الذي هو القوة الحقيقية في البلاد، واستفتاء على الطريقة السورية يحصل فيها الرئيس الشاب على 97,29%، والجميع يعيش حالة الذهول والترقب إلى ما ستؤول إليه الأوضاع بعد ذلك.
ربيع دافئ….
خطاب القَسَم عبارات جديدة غير مألوفة في الخطابات التي ألفها السوريون أربعين عاماً مفردات جديدة (شفافية – محاربة الهدر والفساد – المشاركة – احترام الرأي الآخر – الإصلاح… الخ).. على الرغم مما أثارته عملية انتقال السلطة من جدل داخل البلاد وخارجها إلا أن الوسط السياسي المعارض في سوريا التقط الخطاب بإيجابية كبيرة حتى أولئك الأكثر عداءً للنظام والأكثر هجوماً عليه كالإخوان المسلمون مثلاً.. وبدأ المقربون من الرئيس الشاب يجوبون البلاد طولاً وعرضاً يبشرون بأفكار الرئيس الجديدة في أوساط المثقفين والمهتمين بحملة كان عنوانها الرئيسي رغبة الرئيس الشاب بإدخال إصلاحات حقيقية قابلها من المعارضة موجة من الترقب والأمل وحتى التفهم بأن الموضوع يحتاج بعض الوقت لإعادة ترتيب أوضاع البلاد التي أصابت مفاصلها حالات الصدأ والتآكل سيما في السنوات العشر الأخيرة.
دمشق الأمس…. دمشق اليوم
والآن وبعد مرور عقد كامل على ولادة الربيع كيف نقيّم ما جرى بتجرد وحياد؟؟ وكيف يمكن توصيف المرحلة؟؟ وكيف يمكن تبرير العواصف التي ألمّت بالبلد؟؟ وكيف تحول الأمل في 2000 إلى اليأس والذهول في 2010؟؟؟
أختلف مع الكثيرين في التوصيف فرغم كل ما يظهر اليوم من جمود واستقرار قاتل إلا أنني أعتقد، وهذا هو جوهر ورقتي اليوم، أن سوريا ما زالت تعيش حالة الربيع رغم أن تلك الحالة فشلت حتى اليوم في الإفصاح عن ذاتها.. فحال المراجعة التي أحدثها الربيع في البلاد انطلقت، وأصبح من الصعب أو المستحيل إيقافها أو العودة بالبلاد إلى ما قبلها.. تلك المراجعة التي شملت كل التيارات التي كشفتها الحال شبه العلنية التي طرأت على نشاطها في 2000 حال الكشف الرهيب الذي تعرّض له الجميع والأسئلة التي طرأت على مختلف أطياف العمل السياسي عن الرؤية نحو المستقبل الذي سيعني الجميع في النهاية والمصلحة كمرادف سياسي للمستقبل كونه الجانب المثالي للمصطلح.
أعتقد أن فرصة هائلة متاحة اليوم لصنع المستقبل الذي أثبتت المرحلة أنه لن يكون مضموناً إذا لم يشارك الجميع في صنعه، وأن البديل الوحيد للاستقالة ستكون ببساطة إفلاس الجميع نظاماً ومعارضة، بل سيكون إفلاس المجتمع والسير بالبلاد نحو المجهول، وسيكون دور الجميع عدّ اللحظات وانتظار زمن الانهيار وانفجار البلد في حال لن يختلف كثيراً عما نشاهده اليوم من حولنا هنا وهناك.
ما حصل في دمشق 2000 كان بالمقياس السياسي الاجتماعي فرصة ضائعة للتغيير لو كان الجميع يدركها وقت حدوثها، ولو كانوا أنجزوا استعداداً من أي نوع من أجلها.. الوضع الاقتصادي شبه منهار، هبوط في نصيب الفرد من الناتج المحلي إلى أقل من 1% في عامي 98 – 99، ازدياد العجز التجاري إلى ما يقارب 73%، معدلات البطالة أكثر من 20%، تدهور حادّ في مستوى الخدمات وتصاعد في أعداد الفقراء مع تراجع خطير في الإنفاق على التعليم والصحة وازدياد عدد الطلاب الذين يتركون المدارس، ففي حين بلغت نسبة الطلاب الذين يتابعون دراستهم الثانوية مثلا 75% في تونس و76% في مصر فإنها لم تتجاوز 42% في سوريا…
شعور عميق لدى الشارع بالألم والإحباط والشعور بالخسارة وانعدام الإنجاز، إن داخلياً أو خارجياً.. هذا الواقع المؤلم وتلك الفرصة الضائعة فشل الربيع من التقاطها ولكن ماذا بعد؟؟؟؟
أين هي المشاريع المطروحة اليوم للتغيير؟؟؟؟
ما هو مضمون التغيير الذي تحتاجه البلاد اليوم؟؟؟
أعتقد أن تلك الأسئلة الهامة، وربما غيرها، مازالت بعيدة عن معظم، إن لم أقل كل القوى التي اندفعت عام 2000 وبقوة للمطالبة بهذا التغيير.. ولكن الواقع حينها أنها اكتفت بالتوصيف وبرعت بالنقد وأحياناً الهجاء.. نجحت في تحميل المسؤولية ولكنها أخفقت في تحمّلها.. معظمها لم يستطع إنجاز وقفة صادقة مع ماضيها، وفشل الجميع، وإن بدرجات متفاوتة في تصفية آثاره مع الآخرين، مما ألقى بظلال ذلك الماضي على أول تجربة حقيقية للتلاقي وفشل عند أول اختبار… معظم تلك القوى داهنت وغطت على وساوسها وتناقضاتها، بل والبعض هرب منها، فتاهت البرامج في العموميات التي تحوّلت مع الوقت إلى مطالبات غير واضحة وأحياناً غير مفهومة حتى من كاتبيها، وتحوّلت بالتالي إلى مجرد عبارات مرسومة على الورق.
ما حدث في دمشق 2000، ويستمرّ حتى يومنا، كان هزة وطنية بامتياز تلقفها أناس غير مؤهلين وساروا بها إلى المحطة التي هي عليه اليوم إلى حيث يريد النظام كجزء من الضمانات لاستمراريته عبر مجموعة هائلة وغير مفهومة من التناقضات والصراعات والشكوك والاتهامات في مواجهة محسومة النتائج بين مجموعة متناثرة من معارضة معزولة عن قواعدها ثم عن مناصريها ثم عن الشارع الذي تتحدث باسمه، وبين نظام مدجج بكل أدوات البطش تحميه شريحة باتت اليوم تضم مئات الآلاف من المنتفعين والمرتبطين والمرتشين والفاسدين من مختلف الطبقات والشرائح والأعمار…
وضع استثنائي بحاجة إلى مبادرات خلاقة واستثنائية، ورغم المبادرات الكثيرة التي يتجاوز عددها عدد أيام السنة، ورغم الجديد والمفيد الذي جاء به إعلان دمشق مثلاً، إلا أن الجميع لم يرتقِ إلى الدرجة المطلوبة.
لقد فشلت المعارضة في تقديم مشروع وطني واضح وقابل للتطبيق والحياة، والأهم أنها حتى لو امتلكت معالمه الرئيسية فإنها فشلت في إيصاله إلى الناس المنوط بهم الاندفاع خلف ذلك المشروع وتبنيه في حركة تاريخية باتجاه التغيير للخروج من حالة الإحباط العام والشك بالذات وبالآخرين وانعدام الأفق وغياب الأمل.
لقد غاب عن الجميع أن أي تغيير لايمكن تحقيقه دون قبول المجتمع به، ودون رغبته في التضحية في سبيله وبتقاسم الواجبات والالتزامات اتجاهه.
لم يقرأ الشارع رداً على المسائل الأساسية التي تؤرقه… ماهو طبيعة النظام المطلوب؟ جمهوري – رئاسي – برلماني؟؟؟ اشتراكي – شيوعي – ليبرالي؟؟؟؟ ما شكل التعددية المقصودة؟؟ مادور الدين.. وماذا عن الأحزاب ذات الطابع الديني؟؟؟ ما هو المجتمع الذي نطمح لبنائه؟؟؟ وأين البعث من كل ذلك؟؟؟ ما هي الوسائل للخروج من ثقافة الركود والفساد والانحطاط وكيف سنتعامل مع الإرث الذي مضى؟؟؟؟؟
على المعارضة اليوم الإسراع في إنجاز تلك المهام، وقبل ذلك عليها أن تنجز مراجعاتها.. إنني من منبركم هذا أطالبها بعمل نفضة فكرية وسياسية وتنظيمية لأوضاعها، وإزالة الركام الذي أصاب تصوراتها عبر عقود، والبدء بإعطاء الشباب دوراً أساسياً في رسم سياساتها وصوغ تكتيكاتها، ورغم أن كل ما قلته تردده تلك الأحزاب ليل نهار، إلا أنه لم تقم بما يكفي.. نريد أمناء عامين جدد وشباب لتلك الأحزاب، وليفسح المجال الجيل الذي مضى للجيل الجديد كي يخوض التجربة، بل وأتمنى عليهم طالما أن البعض منهم مقبل هذه الأيام على مؤتمرات عامة أن يمتنعوا وبقوة عن ترشيح أنفسهم لأي مقعد قيادي، وأن يتفرغوا لرفد أحزابهم بعلاقاتهم العامة وتحالفات أحزابهم، وأن يكتفوا بتقديم خدماتهم الاستشارية، وهذه المهام ليست استقالة سياسية بقدر ما هو تتويج لنضالاتهم التي لم ينكرها عليهم أحد.
هذا لا ينطبق على الأحزاب فقط، بل حتى على إعلان دمشق الذي آلت إليه أوضاعه بالشكل الذي نراه عليه الآن… على الإعلان أن يعيد ترتيب صفوفه، وأن يجسد التعددية الوطنية داخل صفوفه، وأن يسعى لحوار أوسع مع الجميع ضمن آلية وطنية، وأن ينبذ ما صدر من البعض بما لا يتفق مع الخط الوطني الديموقراطي الجامع الذي طمحنا منه أن يمثله ويقوده…
تعجبني مقولة قرأتها للأستاذ غسان المفلح عن المشروع الوطني المطلوب صياغته حين قال: (إن أي مشروع لن يكتب له النجاح إذا لم يتحول إلى مشروع للأغلبية العربية بالتوافق مع الأقلية القومية الثانية للبلاد وهي القومية الكردية).. تلك القضايا ينبغي أن تتحول من شعارات إلى قناعات راسخة لدى كل النخب التي تطالب اليوم بالتغيير، وإلى مبادئ تكرسها النظم الداخلية للقوى السياسية وتتدرب عليها كوادرها وقياداتها.
إنها فقط مجموعة من التساؤلات حاولت إثارتها في ورقتي تلك.. وأطلب العذر منكم إذا أطلت، وأعتقد أن نقاشاتكم ستغني الموضوع عبر ذلك المنبر الرائع الذي أشكر القائمين عليه، وأتمنى منه كما كان دائماً أن يكون منبراً لكل أبناء الوطن على اختلاف آرائهم، وليس لجحا وآل بيته كما بدأنا نسمع من البعض.
كاتب وباحث سوري في العديد من الصحف العربية والصحافة الالكترونية..
قيادي سابق في التجمع الوطني الديموقراطي..
ناشط سياسي وحقوقي في مدينة حلب..
مقيم حالياً في السعودية..
30 كانون الثاني 2010
للمشاركة في النقاش حول هذه الورقة الضغط على الرابط: