هناك من يعتقد أن “الشورى” في التفكير الديني هي مرادف للانتخاب، وهذا خطأ كبير. فمن يتمعن في التجارب التاريخية السياسية للحكام المسلمين، ومنهم الخلفاء، وكذلك التجارب السياسية الدينية الحديثة، كتجربة النظام الإسلامي في إيران، سوف يستنتج بأن “الشورى” لم تعكس إلا الطاعة والتبعية، على الرغم من وجود عملية انتخاب في بادئ ولوج الخليفة أو الأمير أو الولي أو المرشد على الحكم. فتجربة الخلفاء في الحكم ومع المعارضة تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم تعاملوا معهم بمفهوم الطاعة والتبعية لا بمفهوم الاختيار والانتخاب والحق في المعارضة والنقد. وللدلالة على ذلك يمكن أن نعود إلى كتب التاريخ ونتمعن في تجربة المعارضة التي جسد أحد صورها أبو ذر الغفاري مع الخليفة عثمان بن عفان، حيث تمت معاقبته بإبعاده إلى الصحراء. كذلك تشير الرسائل التي وجهتها شخصيات إيرانية معروفة ومحسوبة على النظام الإسلامي وتنتمي الآن إلى المعارضة الخضراء، إلى مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، أن نقد المرشد ومعارضة النظام الإسلامي أصبحا أحد الأسباب الرئيسية لزج المعارضين في السجون واتهامهم بالسعي لتغيير النظام.
ليس أمام الإنسان في الحياة الحديثة إلا السير في نهج الانتخاب، لأن جميع الأمور والقضايا خاضعة لهذا النهج. فالتعدد والتنوع ظاهران في مختلف جوانب الحياة بما فيها الدينية، كذلك في الأطر الضيقة منها أيضا. فهناك تعدد في الديانات، وكذلك تعدد في المذاهب داخل الدين الواحد، وتعدد في التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية في المذهب الواحد.
إن تنوع الاختيارات في الحياة الحديثة لا يمكن أن يخضع للسؤال التالي: هل نريد هذا التنوع أم لا نريده؟ فالحياة قائمة على التنوع ولا حياة من دونه، لكنه يختلف في “شكله” وفي “نسبته” من مجتمع إلى آخر. هذا التنوع هو الذي يؤدى إلى ظهور “البدع” في الحياة. والبدع، حسب التفسير الديني التاريخي، تصنّف في إطار العمل المذموم، لكنها في واقع الحال لا تعبّر سوى عن مفهوم “الإبداع” لدى الإنسان الحديث. فعن طريق التنوع، ومن خلال إنتاج البدع أو “الإبداعات”، استطاع الإنسان أن يقفز قفزات جبارة في جميع شؤون الحياة.
لكن التفسير الديني التاريخي لا يزال يسعى لأسر البشرية في سجن فهمه التاريخي لكي يطلق على الإبداعات التي تظهر في كل لحظة من لحظات الحياة “بدعا مذمومة”، رغم أن أصحاب هذا التفسير، من دون أن يعلموا، أو بجهل متعمد منهم، يستخدمون معظمها ويستغلون أخطرها لتحقيق أهدافهم ومآربهم. فالبدعة كانت مذمومة في الماضي لأنها كانت تعتبر عملا غريبا واستثنائيا.
وبسبب سيادة ثقافة الخضوع والتبعية والطاعة للسلطات التي كانت تتحكم في الحياة بالماضي، اعتبرت البدعة تحديا وخروجا على طاعة السلطات. لكن العصر الراهن يعتبر عصر البدع أو الإبداعات الخلاقة بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان، لأنه عصر الانتخاب لا عصر الطاعة والتبعية والتقليد.
إن الفهم الديني الناتج عن نهج فلسفي علمي حديث، يعارضه البعض ويعتبره باطلا ويوصمه بالبدعة والزندقة ويخرج صاحبه من الدين لمجرد أنه فهم انطلق من نظرة علمية بشرية غير تاريخية، فهم لا يعترف به هذا البعض، ولا يقبل بنتائجه المعرفية، رغم أنه – أي هذا البعض – ينطلق أيضا في فهمه للدين من نهج علمي بشري في التفسير، لكنه نهج تاريخي. ورغم هذا التباين والاختلاف، إلا أن الفهم الديني يعتبر في المحصلة، التاريخية والحديثة، فهما بشريا، وفهما غير منته، وفهما لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن ينفك عن العلوم البشرية، كذلك يمكنه أن يكون فهما صحيحا أو فهما باطلا. والتاريخ الإسلامي يشهد كيف اختلف أهل الحديث مع أهل التفكير الكلامي حول استخدام العلوم المختلفة في منهج التفسير وفي فهم الدين، بحيث أخرج أصحاب الحديث أصحاب الكلام من الدين الإسلامي ووصموا محاولاتهم بالبدع والزندقة.
لقد عاش الإنسان في الماضي في ظل أطر من التفكير لا يستطيع أن يتجاوزها. وكانت هذه الأطر تحتل مكانة في الحياة أهم من الإنسان نفسه ومن وجوده. كما كانت تحدد للإنسان طريقة تفكيره من دون أن يكون قادرا على نقدها أو تغييرها. فقد كانت ترسم له كيفية التفكير، وما يجب أن يفكر فيه، وما يجب ألاّ يفكر فيه. هذه الأطر كانت متعلقة بالعالم الآخر، العالم المرتبط بالدين والغيبيات. وباتت مهمة البشر كشف تلك الأطر لا أكثر. وكانت الحقيقة الدينية، وغير الدينية أيضا، تفسر في إطار هذا النهج. فالحقيقة كانت تعني الوجود، والكذب كان مرادفا للعدم. بمعنى أن التفسير الغيبي المرتبط “بالمقدّر” الإلهي هو الذي سيطر على التفكّر والتفكير.
ولا يزال الخطاب الديني التاريخي الراهن يضحي بالغالي والنفيس من أجل استمرار هذا النهج وسيطرته على الحياة العامة، إذ لا يزال يعتقد أن الحياة لا يمكن لها أن تسير إلا وفق الأطر الغيبية. ولأن تغيير هذا النهج الديني التاريخي هو بمعنى التقليل من التدخل غير المبرر للدين في الحياة العامة، وبمعنى الحد من سلطة رجال الدين ووصايتهم على أمور الناس، وبمعنى عدم إخضاع أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع للفهم الديني التاريخي، فإن الطريق أمام هؤلاء سار في اتجاه واحد هو: محاربة المناهج الحديثة في تفسير النص الديني. ففي الوقت الراهن لا توجد أي أطر تستطيع أن تكبل التفكير أو تحيطه بأسوار تحد من حريته ومن تنوعه، أو تعيّن أنواع موضوعاته التي يراد التفكير فيها. وهذا الأمر ينطبق أيضا على الدين والتفكير فيه وتفسير حقيقته ومكنوناته. فالفهم الحديث للدين في ظل مناهج تفسير جديدة بات مستقلا عن نهجه القديم، الذي كان محددا في أطر خاصة غير قابلة للتغيير والتطوير. والحقيقة الدينية المطلقة القديمة باتت متغيرة، ومعبّرة عن حقائق جديدة، ولم تعد ترتبط بأطر غيبية جامدة مسوّرة بأسوار حديدية تاريخية فحسب، بل ترتبط بأطر علمية منطلقة من العقل المستقل الحر.
إن الإنسان الحديث، أو إنسان اليوم، وُضع في صحراء كبيرة غير منتهية، ومهمته في حياته هي اكتشاف نفسه، إذ عليه أن يعيش في ظل ما تمليه عليه مسؤولياته، وأن يحدد هو بنفسه كيف يريد أن يعيش فيها. فهو وُضع في حياة لا توجد بها أطر، ومسؤوليته تكمن في وضع أطر لحياته، لا أن يجبر على اللجوء إلى الأطر التاريخية الغيبية. فالغالبية العظمى من أطر التفكير التاريخية التي كان الإنسان يستند إليها قد سقطت، كما أن الباقي في طور السقوط. ففي الحياة الحديثة، لا يمكن القبول بدور لمرجعيات، دينية كانت أو غير دينية، تحدد أطرا غيبية تاريخية للتفكير، وتغيّب عقل الإنسان وتكبل حريته، وتجعل إرادته تابعة لإرادة إنسان عاش في ماض بعيد، إنسان غير منتم للوقت الراهن. فالإنسان الحديث لم يعد يقبل للمرجعيات التاريخية أن تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه في الحياة القديمة، ولن يقبل للمنهج التاريخي القائم على التقليد والمستند إلى الغيبيات أن يكون عنصرا أساسيا في حياته يديرها كيفما اقتضى التفكير التاريخي الغيبي.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي