مسيحيو المشرق العربي يتناقصون باطراد. كأنهم يختفون، أو يهربون. لا يملكون طموحا مماثلا لنظرائهم المسلمين بالحصول على «القنبلة الديمغرافية». لا يتكاثرون على نفس وتيرتهم. يهاجرون الى بلاد الغرب، أفراداً وعائلات، من غير ضجيج ولا سؤال. ولا يحتاج المرء الى الارقام أو النسب التي تغطي التناقص المسيحي لكي يلاحظ بأن مشهد المشرق العربي في طور تفريغه من مسيحييه. نقول «المشهد»، أي الذي يظهر على السطح فحسب، لا الأعماق النائمة أو المحجوبة. لأن من قرر البقاء منهم، عجزاً عن الرحيل أو تشبَثا بوطن المسيحية الاول، يحتل الصفوف الخلفية وتكاد العين المجرّدة لا تراه. وقد ينتهي مطاف هذه الهجرات الصامتة، بعد عقد أو أقل، الى مصير مسيحي يشبه مصير اليهود المشارقة: تبحث عن آثارهم بين معمّرين أبوا الرحيل وبقيت في ذاكرتهم الضعيفة نثرات من ماض كان من أسس إزدهار هذا المشرق وتقدّمه. وهم، أي المسيحيون، تارة كبش فداء وطوراً ضحية وأطوارا اخرى عرْضة لتنكيد وتحرّش وانتهاكات يومية تحطّ من عقيدتهم وتتجاهل تاريخهم وتبخّس قيمهم وتعايرهم على مواقف وتحالفات قديمة لم يكن للمعايرين أفضل منها…
انهم أبناء دين سماوي، صحيح، لكنه دين «محرَّف» صحّحه الاسلام، على ما يردّده مطاردوهم. وهذه مقولة صاغها «المفكر» الاخواني المتطرف سيد قطب في الخمسينات من القرن الماضي، منتشرة كتابةً كما هي ممنتشرة شفاهةً لدى العامة كما لدى النخب، بما حوّلها الى بديهة. ولكن الأمر لا يقتصر على هذا النوع من المطاردات. بل يتعدَاه الى الأذى الجسدي، الى القتل او التهديد بالقتل… وهما سيان. التهميش الروحي والثقافي والديني للمسيحيين، وانعدام الامن الجسدي بينهم. هل من جديد في الامر؟
ليس تماما بجديد. العصور الاسلامية الاولى والمتأخرة كانت تتأرجح دوما بين القبول الآمن بالمسيحيين بصفتهم «أهل ذمة»، تحميهم قوات الخليفة او السلطان مقابل خضوع وجزية. بين هذه اذن، وبين فِتَن وهياج وتعبئة تؤدّي عادة الى القتل والتشريد والخراب. والوضعيتان، الآمنة والدموية، لم تناسب «دولة القانون» التي يفترض اننا نعيش في كنفها الآن، وقد بناها عصر الاستقلال عن الاستعمار الاوروبي؛ وكان من قوامها «النظري» مفاهيم المواطنة والدولة القانون.. ما يلامس علمانية متردّدة. فمناخ ذاك العصر «الاستقلالي» لم يُتِحْ الفصل بين مسيحي وآخر يهودي او مسيحي، الا بما تقتضيه العصبيات الخافتة. الجديد في الامر، وعمره اكثر من عشرين سنة، ان الدولة والقانون والمواطن، وكلها تسميات زمنية غير دينية جرى إستبدالها بالحلال والحرام و«الاسلام هو الحل» وبالخلافة والشريعة والأمة… تأسلمت كل المجالات، فأفرزت معايير وتعريفات تطرد تلقائيا المسيحي من فضائها، إن لم تعتدِ عليه بالقتل والحرق والتشريد …
الغالبية من بين الذين يكتبون يبرّئون ضمائرهم بالسكوت عن هذه الظاهرة بالقول المكرَّر بأن «إثارة مسألة الاقليات» تضرّ بالوحدة الوطنية، وبأن المواطن المسلم عرْضة، هو أيضاً، لكل تعبيرات انهيار مشروع الدولة الاستقلالية القانونية. يتفهمون هروب مسيحيي المشرق من ديارهم، يربطونه بالعلاقة الثقافية ـ التاريخية بين المسيحيين والغرب، يقارنون بين هجرة المسيحيين وهجرة المسلمين اللجوجة هربا من الحروب والبطالة والتسلط والفساد… الخ، فينفون بذلك وجود «مشكلة أقليات» في بلادهم، طالما ان مسيحييها ومسلميها، هم، على حدّ سواء، ضحايا أنظمة استبدادية… الخ. وهم بذلك يتعامون عن رؤية الفرق بين «المواطن» المسيحي والآخر المسلم: فالأول يتعرض لآفة إضافية، آفة التهميش الديني والثقافي في كل المؤسسات الرسمية منها والاهلية، في الخطابين السياسي والديني، في الفنون المختلفة وفي الذاكرة التاريخية الجمعية… في كل مجال من مجالات انتاج المعاني. ترى المسيحي إما مقصىً أو غائباً او معزولاً أو ملعوناً. وفي حالات اخرى، تراه مباحاً دمه، رخيصاٌ، إستناداً الى «عقيدة» التفضيل بين الاديان السماوية نفسها.
قصص قصيرة لا تنتهي، يرويها يومياً اي «مواطن» مسيحي في فلسطين، لبنان، مصر العراق وسوريا. كلها تفضي الى شيء واحد: الهوية المسيحية منبوذة ومغيّبة، في عصر طغيان الهوية، وهيمنة الهوية الدينية على غيرها من الهويات. والمسيحي فضلا عن ذلك مهدَّد بأمنه ورزقه.
في مصر، حيث الاسلامية المتطرفة هي ايديولوجيا سائدة، تقف ثقافة مجتمع بأسره موقف الفصل بين المسلمين وغيرهم… من الاقباط. والدولة، مثل الانتلجنسيا، يخيفها هذا المدَ الديني، فتختار ما اخترعه الرئيس الراحل انور السادات، «الرئيس المؤمن»، سلوك المسلك المزايد: أنتم متأسلمون؟ نحن اذن أكثر اسلامية. وهاكم موقفنا من الاقباط: اعلام وثقافة هائجين، يد مطلقة لمجمع الازهر الاصولي في صياغة المعاني الدينية وغير الدينية، تمسّك بالقانون العثماني الهميوني في بناء المساجد، سكوت مريب عن قتل الاقباط والتخاذل عن اثارة قضيتهم باسم «وحدة وطنية» مبنية على الولاء الكروي… الخ. والنتيجة: أية ذريعة كفيلة باطلاق النار على جمهرة من الاقباط خارجين من معابدهم أو داخلين اليها. وأما «التنوير» الذي تحتجّ به الدولة المصرية، ومعها جوقاتها الاعلامية والنخبوية الرسمية، فلا يرفع إلا بوجه «الاخوان المسلمين»؛ لا عندما يقصون المسيحي او المرأة عن الرئاسة التي يتخيلونها في برامجهم السياسية، بل عندما تظهر شعبية هؤلاء «الاخوان» وسط الشارع. والحال، ان الاخوانية اصبحت بالنسبة لهذا الشارع من الماضي غير المشرق، وعلى أنقاضه يزدهر الأكثر تطرّفا من «الاخوان»، أي السلفيين. اما في سوريا، فالوضع أشبه بوضع مصر في بداية معالجتها للمدّ الديني: أي متأخر عنه عشرين عاما، مع الاستفادة الجمّة. فالأسلمة التي تقودها الدولة السورية الآن، التي تأسست كدولة «عروبية علمانية»، لا تختلف كثيرا عن المصرية إلا بالهامش الزمني.
فلسطين والعراق: الوضع أقل تعقيدا. لا حاجة الى مناكدات ولا تحرّشات ولا حملات تلفزيونية من شيوخ القتل والحقد و«مفكريهم». فقط القتل أو التهديد به: إن لم… «حماس» وجماعة مقتدى الصدر وغيرهم من «المجاهدين» المغازلين للتيارات الاصولية، كلها أحزاب وميليشيات مسلّحة تطارد السافرات من المسيحيات وتقتصّ من مسيحيين وتفجّر الكنائس او تحرقها أو تهدمها أو تفرّغها تدريجيا، من دون ضجيج… في فلسطين كما في اسرائيل المسيحيون يرحَّلون بما توفّر لديهم من وسائل الرحيل القسري.
في لبنان الاصوليتان السنية والشيعية لم تقصّرا. الهجوم على حي الاشرفية المسيحي بالنار والحجارة وجماهير الغوغاء احتجاجا على رسومات ضد الرسول (صلعم) صدرت في الصحافة الدانماركية. تصور كم أعدّت وعبأت قيادات الغوغاء هذه الجمهرة «الغاضبة» ضد المسيحيين اللبنانيين لكي يهجم افرادها بهذه الحماسة الشرسة على البيوت والكنائس المسيحية. هذه من أفعال سلفية سنية منتشرة وسط السنة اللبنانيين، تعادي المسيحيين كما تعادي الشيعة. وهؤلاء الاخيرون الممثّلون الآن بـ«حزب الله» فلا تسأل: آخرها تحذيرات على لسان امينه العام، حسن نصرلله، الى المسيحيين، وفوقية وتبخيس بالعقيدة المسيحية، والوقوف موقف فارض «الجزية» و«الذمة» على أهل كتاب يطلبون الحماية. أمثلة بسيطة ضمن العشرات بين المعيوش اليومي والاعلام والثقافة … المسكوت عنه والمعلن؛ قد تحفظها ذاكرات وتنساها اخرى ، لكنها قطع صغيرة من بصمات يحملها المسيحي المطرود من أرضه بنوع من اللباقة، ومن دون الوسائل الاسرائيلية الفظّة والصريحة التي طُرد بها مسلمو ومسيحيو فلسطين عن أرضهم.
هل هذا هو الثأر المسلم من قهر مسيحي غربي؟ أن تصدّر الى الغرب الاسلامية الاصولية وضحاياها من المسيحيين الى أرض الغرب؟ أم انها حركة منطقية في سياق «حرب الحضارات» التي ما زالت مستعرة، والقاضية بتنظيف المعسكرات من عناصرها الاقلوية بحيث لا يبقى في العالم العربي مسيحي واحد… ولا يبقى في اسرائيل مسيحي ومسلم واحد … فتكون الكرة ساعتئذ في ملعب الغرب المسيحي، حيث عليه التدبّر بمسلميه الأصوليين ومسيحييه المطرودين من جنتهم؟ دورة من دورات هذه الحرب؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل
تناقص مسيحيينا دورة من دورات «حرب الحضارات»؟
سيفقد الشرق العربي ومصر كثيرا من خصوصيتها لو تفرغت مصر من مسيحييها
وستكون القصه اشبه بمن ترك بيته لاخر يمسك له عصا إماان يعيش علي هوي صاحب العصا او يهرب كما يريد صاحب العصا
وربما من يمسك العصا الآن كان ابنا لصاحب البيت لكنه انضم لاصحاب العصا
هل نترك بيتنا ووطننا ……….. ولكن الي أين وانا لااعرف لي وطناَ غير وطني الزي حاربت من أجل حريته وكرامة أهله وانا واحد منهم
الاستاز هيكل تطرق للموضوع
عفوا لايوجد لدي حرف الزال واستعين بالزين بدلا منه ولا تخفي علي فطنه القاريء العزيز
تناقص مسيحيينا دورة من دورات «حرب الحضارات»؟
ما رأيك سيدة دلال بالتفاهم الموقع بين التيار الوطني الحر وحزب الله، ألا ترين أنه يشكل ضمانة لحماية المسيحيين واستقرارهم في لبنان والشرق؟ أعني عندما تتحالف حركة أصولية كحزب الله مع تيار علماني ذو أغلبية مسيحية أليس هذا ضمانة للمستقبل؟