أصل المال حظ من حظوظ الدنيا. إما يأتي كهبة من القدر على شكل إرث، وورثة المال هم المحظوظون بامتياز. والمال عندهم من البديهيات؛ وإما، وهذه حالة نقيض، يأتي المال عن طريق طاقة من الطاقات: القدرة الذاتية على السيطرة والقيادة وادارة الصراع؛ أي قوة الشكيمة المكتسبة. او قوة التبادل المالي، او قوة الخيال والموهبة. واقتران هذه الطاقات، او بعضها، بحظ متوسط او كبير يمنح صاحبها مكانة مالية، تتحول بدورها الى قوة تبادلية بامتياز. بل القوة التبادلية القصوى. فالمال هو للتبادل، إلا في حالات البخل المَرَضي. نعطيه مقابل خير من الخيرات، أو خدمة أو وصفة أو سرّ…
قبل اختراع المال كان التبادل (troc) بين البضاعة والبضاعة، او البضاعة والخدمة، أو البضاعة وما يوازيها. يعطي بيضا يأخذ حليبا؛ او يعطي ملحا ينال مقابله ممرا آمناً… كانت أنشطة القبائل البدائية تتمّ على هذا المنوال. وما زالت بعض الاتفاقيات بين الدول تعمل بمقتضاه.
المهم: بعدما يغطي صاحب المال حاجاته الاساسية، من مأكل ومشرب ومسكن، ويفيض منه المال، على ماذا ينفق امواله؟ ماذا يبادل بماله؟ بأقصى اللّذات: لذة الجنس ومصدرها النساء. الاثرياء لديهم العدد الأوفر من النساء والأجمل من بين النساء. وتراثنا زخرٌ من هذه الوقائع. أبعدها ذهابا «الحرَمْلكْ». حريم السلاطين؛ جيوش الجميلات في خدمة ملذّات مالك الزمان، السلطان والمال(…).
أما بخصوص مؤسسة البغاء النسائي، وقد اوجدت في كافة العصور البطريركية، فهي التعبير الأنضح عن العلاقة التاريخية القائمة بين المال والمرأة. بل ان زيادة اهمية المال في عصرنا، وتحوّل المال الى رقيب ومعيار ومنتج، أعطى مؤسسة البغاء «غير القانونية» امتدادا أخطبوتياً، عابرا للقارات. العبودية الجنسية، بغاء الاطفال، السياحة الجنسية… كلها من مظاهرها. فالبغاء مؤسسة كاشفة للعلاقة التبادلية القوية القائمة بين المال والمرأة. وقد يكون الانسان اخترعها في زمن سيطرة الرجل المطلقة على المرأة من اجل احتكار اللذة وتنظيمها بحيث تؤول الى الاقوى، الى القادر على شرائها، أو مبادلتها.
الآن تغيّر الزمن القديم، وإن كانت إرهاصاته القوية ما زالت قائمة. كانت النساء في ظل النظام القديم غير مالكات للمال. إلا الملِكات والاميرات، أو الوارثات ازواجهن وآبائهن الاثرياء. وكان بامكان هؤلاء النسوة التصرف بمصيرهن وقتذاك، بما تسمح به قوتهن الاستثنائية من بين بنات جنسهن(…).
في العهد الماضي كانت جموع النساء قد بنَين استراتيجيات للدفاع عن انفسهن وكيانهن المالي العاري. الخضوع، المكائد، التقية، الجمال، الاغراء، الرقّة، الثرثرة، قمع جموح النفس، جمع الذهب والحلى وادخار المال سراً في الغالب… وكلها السلاح البديل، سلاح الضعيف امام القوي.
كل هذا تغير ولم يتغير. لكن الذي تغير لعب دورا هاما في خلْخلة ما لم يتغير. الذي تغير هو المرأة، بتغير مكانها وادوارها. صارت في «الخارج»، وصارت تعمل فيه. وبات باستطاعتها ان تكون قادرة على كسب المال. اي ان تكون لها حصة في اللذة، أو رأي فيها؛ أي ان تعامَل بغير ما عوملت به في الزمن القديم. ان تختار، ان تبادر، هي ايضا. ان لا يهدر رأيها في الحق او الرفض او القبول او الاختيار أو تحديد من يكون شريكها؛ ولو بقي ذلك ضمن نطاق الضمني، او نصف الضمني… او نطاق الكمون.
هذه الوضعية الجديدة نالت من هوية الرجل الجنسية، والتي كان عمادها «القوامة» القائمة على «الإنفاق». وانعكس ذلك بطبيعة الحال على علاقته بالمرأة. فحصلت الازمة بين الجنسين. وقوام هذه الازمة ان المرأة في الخيال الجمعي السابق التي شبّ عليها الرجل وتكوّن، والتي وحدها تلبي متطلباته الايروتيكية، الجنسية ـ العاطفية… ان هذه المرأة اذن ليست هي نفسها المرأة الواقعية. فيما انتظارات هذه المرأة من الرجل يمتزج فيها القديم والجديد. فصورة الرجل المطابق لأوضاعها الجديدة هذه لم تتبلور تماما، لأن أوضاعها الجديدة هذه لم تتبلور هي ايضاً تماما. وما يزيد من التشوّش والاختلال ان هذه الامور ليست مطروحة على النقاش في هموم ثقافتنا الراهنة؛ وهي ثقافة مشغولة اكثر بالحلال والحرام؛ او التندّر على «إختفاء الرجال»، او «نقص الرجال»… من ازواج او عشاق او شركاء. ولذلك لا نملك حولها دراسات جدية كافية؛ بل توك شويات (talk shows) إعلامية عجولة، تفرْقع بالتسلية والاثارة.
فأزمة العلاقة بين الجنسين حاصلة، وأوضح مؤشراتها: النسب القياسية في معدلات الطلاق؛ أي فشل صيغة الزواج القديمة، أو عدم قدرتها على الصمود امام تقلّبات امزجة الجنسين المستجدة. أو استمرار الزيجات المرهقة. وبعد ذلك، النِسَب غير المسبوقة من العزوبية. المسماة، للبشاعة، «العنوسة»، للتسويق على ان العزوبية، المرغوبة او القصرية، هي من حصّة النساء فحسب…
ثم الانتشار، غير المسبوق ايضا، للمثْلية الجنسية؛ بين الشباب بداية، والآن شيئا فشيئا بين الشابات. والأهم من كل ذلك: بدء انتشار البغاء الرجالي، مترافقاً مع انتشار تقليد جديد مأخوذ عن النساء: وهو انتخاب ملك جمال الرجال. وكلها وقائع تهزّ النظام الماضي للعلاقة بين الجنسين؛ ولكن بفوضاها واضطرابها والعذابات الشخصية التي تحدثها، هي غير قادرة على إرساء نظام جديد بين الجنسين، يكون تبديلا فعليا عن القديم، ولا يخلّ بالتوازن النفسي للمعنيين به، رجالا كانوا ام نساء.
وموضوعنا معطوف على شق آخر، واشكالية اخرى: هي هجرة الشابات العازبات. ولا نعرف ان كان يمكن ان نسميها «ظاهرة»، طالما اننا لا نعرف نسبتها من بين المهاجرين اللبنانيين الباقين. فالاحصاءات التي تغطي الهجرة لا تلحظ هذه الفئة في حساباتها؛ علما بأنها يمكن ان تندرج في خانة «الطوائف» او «الشباب»؛ وهي الاكثر رواجا من بين الخانات الاخرى في الاحصاءات الخاصة بالهجرة.
ان فعل الهجرة لعازبة من اجل العمل، اي من اجل كسب المال والتقدم في المهنة، هو فعل استثنائي في تاريخنا الاجتماعي؛ قد تكون حصلت في حالات فردية، ولكن نادرا ما ذكرتها الحوَليات. باستثناء الحرب العالمية الاولى، وخصوصاً اثناء المجاعة الكبرى، عندما هاجر عدد من العاملات المتزوجات للعمل في مصانع الولايات المتحدة، تاركات خلفهن ازواجهن واولادهن. وكما في الثلاثينيات ايضا، عندما هاجرت شابة لبنانية الى فلسطين والعراق للتعليم في مدارسها بغية جمع المال المطلوب لمتابعة تعليمها.
عدا ذلك، فلا نعرف ما يشبه هذا الفعل عن هجرة النساء، إلا برفقة ازواجهن والتحاقا بهم، أو لمرافقة العائلة، الأب والأم. وهجرة العازبة من هذه الزاوية هو فعل إخلال آخر، يُضاف الى فعل كسب المال المستقل. انه فعل قطيعة، دائمة او مؤقتة، عن مكان التوازن القديم، الى مكان مجهولة توازناته، او غير مضبوطة وتيرته، او مهددة لهذا الاتجاه او الآخر من التوازن القديم؛ خاصة عندما تتم هذه الهجرة الى بلدان اقل ليبرالية، اجتماعيا، من المجتمع اللبناني؛ او الى بلدان اكثر ليبرالية… أي في الحالتين.
اليوم تبحث الشابات الباقيات في لبنان عن الشريك. لا يجدنه، فيسألن: «أين الرجال…؟». وغداً ربما سوف يسأل شبابها الباحثون عن شريكة: «أين النساء…؟». قد لا تصل الحالة تلك التي نسميها «ظاهرة» الى هذه الدرجة من التنامي؛ ولكن مجرّد المقارنة بين القائم وبين المحتمل تحيلك الى تصور الانسان الجديد، المقْبل على المستقبل وهو غائص في التقلّبات والتغيّرات.
ما أعنيه ان شق «المهاجرة العازبة» من موضوعنا ظاهرة ما زالت مبكرة. ولكنها تتموضع في خيوط دقيقة وشبه خفية من المستوى «المايكرو» سوسيولوجي (micro) من معرفتنا بموضوع العلاقة بين الجنسين وازمتها: مستوى الفرد وتبدّل معطياته وتصوراته وسلوكه؛ في مجمل مسار حياة هذا الفرد، او جزء من هذا المسار. وذلك مقابل «الماكرو» سوسيولوجي (macro)؛ والذي يغطّي العنوان الأشمل، الأزمة بين الجنسين، أو أزمة الهوية الجنسية. اي مجمل العلاقة بين الجماعتين التي تتشكّل منها انسانيتنا: النساء والرجال. ومقاربة كهذه تسمح لنا بفهم افضل لأسس هذه الازمة، وبالتقاط خيوطها الدقيقة النافذة الى هذه الاسس؛ أو التي تصبّ في مجراها.
ولكن طبعا: لا يكتمل جمع المبعثر من خيوط هذه الازمة إن لم نتناول «الشريك»، الآخر، اي الرجل. وكل ما نعرفه عن المهاجر الشاب العازب انه يغادر «من أجل بناء نفسه»، أو «بناء مستقبله». وانه عندما «يتوفّق»، سوف يعود في الاعياد والاجازات الى البلاد بحثاً عن زوجة. وان الصبايا يتجمّلن في هذه المواسم من اجله، من اجل «العريس» المهاجر، «اللقطة»، الذي سوف ينتشلهن من شبح العنوسة او العوز او الاحباط. وهذه صورة منمّطة، يغذيها الاعلام. وقد لا تكون مطابقة لواقع الشاب المهاجر.
يتناول موضوعنا اذن الأقصيَين من الحدود:
– الاستقلالية الاقتصادية للنساء، أي قدرتهن الجديدة على كسب المال.
– العازبات بهجرتهن من اوطانهن، من اجل تعزيز هذه القدرة.
وكما سبق وألمحنا، لا نعرف شيئا، ميدانيا او نظريا، عن شقّي هذا الموضوع، اللهم بضعة روايات وتحقيقات صحافية (عن لبنان وعن غيره من الدول العربية). ما يجعل هذه الدراسة من النوع الاستكشافي الاولي، دراسة تسمح ببلورة التساؤلات وطرح الفرضيات؛ تمهيدا لدراسة اكثر شمولا واكثر قابلية للتعميم.
وهذه دراسة تقوم على اسئلة بُعثت الكترونيا، موجّهة الى شابات عازبات لبنانيات، رسَينَ في تسعة بلدان، هي: كندا (شابتان)، بريطانيا (2)، فرنسا (واحدة)، قطر (1)، المملكة العربية السعودية (1)، الكويت (1)، الامارات (1)، قبرص (1). وهن يمارسن مهنا مختلفة تتطلّب مهارات معينة، ودراسة جامعية، وثقافة تسمح لهن بالاجابة كتابةً على الاسئلة. وهن ينتمين الى طوائف مختلفة من لبنان، ومناطق مختلفة من عاصمة ومدن وبلدات وقرى؛ وتتراوح اعمارهن بين الـ 56 سنة والـ25 سنة.
الاسئلة كانت مفتوحة مقنّنة. تمّت الاجابة عليها على دفعتين: الثانية للتدقيق حول الاولى. وقد اجبنَ باللغات الثلاث: عربي، انكليزي، فرنسي. وكان التجاوب مع الأسئلة في غاية البطء، لكثرة انشغال المبحوثات بأعمالهن، اوعدم اعتيادهن ربما هذا النمط من الأنشطة (الى درجة انني تصوّرت لبرهة بانني لن اكمل الدراسة). بعض الشابات آثرن التحفظ المهني. وهناك أسئلة لامست مناطق حميمة لدى بعضهن، كالأهل والشريك والذات. فكان الورع والاقتضاب طريقاً للتعامل مع الاسئلة والاجابات. والكثيرات طلبنَ عدم ذكر اسمائهن. فغيرتُ الاسماء.
اما المبحوثات فهن على التوالي:
مارتا. مخرجة افلام توثيقية. هاجرت الى الامارات.
فايزة. استاذة جامعية مساعدة. هاجرت الى كندا
يارا. كبيرة مدرّبين لموظفين في الطيران. هاجرت الى سلطنة عُمان.
رشا. مهندسة كمبيوتر. هاجرت الى كندا.
دنيا. صحافية، مديرة مكتب اعلامي. هاجرت الى السعودية.
ريموندا. موظفة رسمية في احدى الوزارات الفرنسية. هاجرت الى فرنسا.
فاديا. اعلامية واكاديمية. هاجرت الى انكلترا.
رندة. اعلامية ومذيعة. هاجرت الى انكلترا.
ليلى. متخصصة في «الغرافيك ديزاين» (graphic design). هاجرت الى الكويت.
حميدة. مسؤولة العلاقة العامة في احدى كبرى الشركات. هاجرت الى قطر.
بديعة. صحافية في وكالة اخبار. هاجرت الى قبرص.
فعل الهجرة. التمرّد.
كل هؤلاء الشابات تركنَ لبنان؛ لأن لبنان لم يكن ليقدم لهن الفرص المهنية التي يطمحن اليها. كلهن عملنَ بعد التخرّج في لبنان. وبعد سنوات من العمل، متفاوتة العدد بين الواحدة والاخرى، قررنَ القيام بما يقوم به الرجال عادة: رحلنَ بقصد العمل ذي المردود الأفضل، الأعلى. لم تفكر الواحدة منهن بأن عريسا قد ينْتشلها من ضيق العيش او خيبات الطموح المهني، أو ان اهلها قد يغطّون تكاليف حياتها، او يعوّضون هذا الاخفاق.
باستثناء فايزة التي حلمت طويلا بهجرتها ورصدت امكانياتها: «أردتُ مغادرة لبنان منذ زمن، حتى وانا تلميذة في المدرسة. غادرت عندما وجدت الفرصة المناسبة. غادرتُ لأن لبنان كان لديه القليل… القليل يعطيني اياه، أو بالأحرى لم يكن لديه شيء ليعطيه».
باستثناء فايزة اذن، الجميع تركَ لبنان بأسى وشوق. مارتا غادرت ثم عادت الى لبنان، ثم غادرت من جديد الى دبي. وتفسيرها الآن لسوكها: «كنت شابة. وكان باستطاعتي ان اكره دبي وأغيّر رأيي (بالهجرة الاولى)». اما رندة، فان كل ترحالها له مطاف واحد. تقول، واصفة مرحلتها المهنية التالية، بعد نجاح الاولى: « أفكر بالانتقال الى مدينة أوروبية أخرى أو الى الولايات المتحدة للعمل كمراسلة حرة (freelance) كي أتمكن بعد ذلك من العودة الى بيروت وهو الهدف الرئيسي».
يارا هاجرت في بداية الحرب الاهلية الاولى، (1975-1990): «لبنان كان في حرب (…) الحرب اضرتنا اقتصاديا، وابي كان قد تقاعد». عادت الى لبنان في فترات متقطعة من الهدنة والحرب. حاولت تأسيس عمل فيه. لكن كل مرة كان المشروع ينهار لسبب ما من الاسباب الامنية. آخر المشاريع توقف بسبب حرب تموز 2006. فعادت الى عُمان.
الغالبية عبّرت عن دواعي ازمة الوطن، وانعكاس هذه الازمة على اوضاعهن الشخصية والمهنية.
رشا تقول ان الاضطراب الدائم في لبنان والتهديدات الاسرائيلية المستمرة… كل ذلك :«كان يعني بالنسبة لي انني لا استطيع الانتظار على امل ان تتحسن الامور. وأعود وأبدأ من بعدها بناء حياتي من جديد، كما حصل وانتظرت انتهاء سنوات الحرب الاهلية الاولى (1975-1990)…. أعتقد أنني عندما قررت الهجرة، كنت مصابة بسندروم (syndrome) ما بعد الحرب: من انني لا استطيع ان اضع حياتي بين ايادي مجهولة. لم يكن بوسعي ان اجازف وانتظر… ثم استفيق يوما وأرى انني امضيتُ الحياة نفسها التي عاشها والدَي.(…) لم اكن اريد المجازفة بشبابي».
اما حميدة فتصف قرارها بالهجرة: «لم اكن اعاني وقتها من ازمة مالية بل من ازمة وطن (…) كانت هجرتي «هريبة» من وطن ومن حياة سياسية بعد سنوات عديدة من العمل و«بناء الاسم» كما يقولون في مهنتنا… وليس لأي دافع مادي لأنني لست مسؤولة الا عن نفسي».
فيما بديعة تقولها باختصار :«هدف هجرتي الاستقلالية المادية».
البيت والسفر، الحرية والاستقرار.
بعد تغطية كل الحاجات، الحياتية منها والاستهلاكية، يبقى قطبان يتنازعان ميزانية هؤلاء الشابات: قطب الاطمئنان والاستقرار المتجسَّد بامتلاك منزل؛ وقطب الحرية والمتجسَّد خصوصاً في حرية السفر.
باستثناء ريموندا وفايزة اللواتي لم يشترين منزلا، ولا فكرنَ بشراء منزل؛ لسبب من الاسباب، ربما حداثة عمر الاولى، او قطيعة الثانية مع بلادها… باستثناء هاتين الشابتين اذن، فان الجميع اشترى منزلا او بصدد شراء منزل او التفكير، مع بداية الطريق، بشراء منزل.
وحدها رشا من بينهن اشترت منزلا في كندا؛ تستقبل فيه والدَيها من شهرين الى ثلاثة اشهر في السنة. يارا ودنيا وفاديا وحميدة اشترين منزلا في لبنان. ورندة اشترت بيتا لأمها في لبنان. ومارتا بصدد التفكير بشراء منزل. فيما ليلى وبديعة هن من فئة اللواتي يفكرن بالبيت ويخطّطن للإدخار من اجله.
البند الثاني في الميزانية أي السفر، والى بلاد مجهولة، بالرغم من الحنين الى لبنان. ولفحة حرية تنضح بها الاجابات الخاصة ببند السفر. كلهن يعبرن عن هذه الحرية على طريقتهن. مارتا:«بصراحة، ان الشيء الوحيد الذي يسعدني الآن هو انني قادرة على ان اسافر اكثر… وهذا ما اعمل على تحقيقه في غالب الاحيان. أفضّل الآن رحلة الى الهند لمدة اسبوع على شراء شاشة 50 انشاً للتلفزيون».
هذه السعادة بحرية السفر هي ترجمة لشعور أعمق بأن وضعهن الراهن في الهجرة حقّق لهن حرية الارادة والاستقلال. فايزة «نعم» سعيدة الآن: « انا اكسب مالا اكثر الآن. وانا سعيدة به. امامي الآن خيارات اكبر، امكانيات اكثر وبامكاني تحقيق ما اريد.(…) انا اكثر استقلالا الآن من الناحية المادية».
نفس السعادة لدى يارا «بالتحرك بحرية بالمال (الذي املك)». بل تذهب ريموندا الى اعتبار ان حريتها هذه أعادت لها توازنها النفسي «أنا سعيدة (…) انتقلت الى قدرة مالية اكبر وقدرة شرائية اعلى، وانني اكثر حرية في التنقل والقرار والاختيار وطرق الصرف (…) الأهم هو الانتماء الى الذات، أي العيش وفقا لوجداني ومشاعري ومبادئي الخاصة ولا خشية لدي من التخلّي والرفض والذم».
والجميع يعتز بحرية القرار. وقرار حرية التنقل، مثل السفر من اقوى ترجماتها. قطبي الاستقرار والحرية، والمتجسّدين في شراء المنزل والسفر الى بلدان جديدة: قطعة من البازل الجديد لصورة المرأة القادمة. وهذه الصورة ليست بالبساطة المعروضة. فبين المنزل والسفر، بين الاستقرار والحرية، هناك قلق على المستقبل، تعبر عنه فاديا بالقول» «بالتأكيد قدرتي المادية زادت حريتي. ولكنني زدتُ قلقا ايضا».
الشريك الجديد.
مفهوم الشريك الندّ لدى الجميع يختلف عن ذاك الذي ما زالت فروعه وقواعده قوية حتى اليوم؛ أو بالاحرى هي عائدة بقوة.
فالشريك غائب تماما عن ذهن دنيا «حقيقة، لا افكر بالموضوع على الاطلاق»؛ ولا حاجة للإلحاح عليها.
اما يارا، فتسرد: «كَوني من منطقة الشرق الاوسط… لم يكن لدي رغبة بالالتزام بزواج كنت متأكدة انه سوف يؤثر على حريتي وعلى وتيرة تقدمي وتطوري. (ثم) كان لبنان في حرب، ولم يكن سليما وقتها تأسيس اسرة(…) لم يكن لدي رغبة بتحمّل المسؤولية بصفتي مواطنة من العالم المتخلف بمشكلاته المعقدة والمضطربة امنيا. اليوم في لائحة «سبب وجودي» («ma raison dêtre») لا مكان لزوج. لا تغريني اطلاقا فكرة الارتباط بعلاقة. (…) ان اهتمامي الآن يختلف، وصار معياري ان يكون لدي رفيق درب اتقاسم معه اهتماماتي الفكرية».
اما الباقيات فمنقسمات بين تصور للشريك منذ البداية لم تبدّلها الهجرة؛ وبين تصور تبلور وتغيّر معها. ولكن في جميع التصورات الشريك هو شريك آخر.
في الفئة الاولى اذن. مارتا: «اود الزواج من رجل له وظيفة ثابتة ويحبها، يكون شغوفا بها. وان يكون محبا للسفر. كانت هذه رغبتي قبل الهجرة وما زالت. اعتقد بأن الحياة تكون اسهل لو كانت متقاسَمة بين اثنين. (اريد شريكا موظفاً… لا رجلا ثرياً) لأنني مسؤولة عن نفسي ومن العدل ان اطلب من شريكي ان يكون مسؤولا عن نفسه (…) والحياة سوف تكون مليئة بالصراع وقلة الاحترام اذا لم يكن لشريكي وظيفة محترمة . وكلنا يعلم بالاساس كم يصعب إبقاء العلاقات بين البشر والمحافظة عليها».
اما فايزة، فتقول «لا أعتقد ان كندا غيرت تصوري للشريك. كنت اريده ذكيا جدا، طموحا وليبراليا وتكون له نفس عقليتي وقيمي (…). كل هذا لم يتغير. ولكن في كندا لم اقابل هذا الرجل. والأمر لا يهم حقيقة، لأن باستطاعة المرء في كندا ان تكون له «كاريير» (مهنة ذات قيمة. career) ناجحة ومرْضية. فيما هذا (النجاح) مستحيل في لبنان».
ليلى ايضا: «لم يتغير شيء عن تصوري السابق للشريك. ولكن اصبحتُ قادرة ان أساعد شريكي، اذا تزوجت. وبنفس الوقت ان اكون سيدة نفسي إن لم اجد الرجل المناسب(…). هدفي ان اكون متساوية مع شريكي».
فيما حميدة تقول: «لم يتبدل (تصوري) للشريك اذا وجد. فالطموح هو ان اجد من يؤمن بقدرتي على التصرف والكلام واخذ القرارات والمشاركة في الشأن العام. وغالبا ما كنت اعاني من ايجاد صديق لا يشعرني انه يغار مني او يريد ان يقمعني. (…) سرعان ما يبدأ بتسطير الممنوع والمسموح».
وتختصر بديعة: «ما زلت اتصور الشراكة تلك شبه كاملة، متكاملة، متوازية، ومتوازنة».
ورشا تشرح عن الشريك: «الشريك الآن هو الشريك في القرارات والمشاربع المستقبلية. كبرت في ثقافة تعدّ البنت للزواج… وبأن الزوج سوف يكون مسؤولا عنها وعن مستقبلها. كنت دائما ارفض هذه الفكرة في أعماقي. بعد هجرتي استطعت ان احدّد بالضبط ما أراه في الشريك وما استطيع ان اساوم عليه، وما لا استطيع (…) أبحث عن شريك يتقاسم معي القيم ورؤية الحياة (vision of life). عليه ان يكون مسلما بالاختيار، وبذلك يكون لنا اسلوب حياة مشترك. عليه ان يتمتع بالحد الادنى من التعليم والثقافة بما يمكّننا من التواصل. عليه ان يكون عقله منفتحا بمعنى ان يقبل بالاختلاف، ويكون بذلك قادرا على فهمي. وبهذا العمر الذي بلغته (36) عليه ان يكون صاحب «كاريير» ويعرف الى اين هو ذاهب، فلا اقع على «طفل مفقود جونيور»(lost child J.)». وإن وجدته، هذا الشريك، أو لم اجده… فأنا سعيدة. فهناك الكثير الكثير ما اعمله. والقليل القليل من الوقت».
ومن فئة اللواتي غيرت الهجرة تصورهن للشريك، ريموندا، التي تقول: «أشعر أكثر و أكثر بالرغبة بشريك أسلك معه سبيل حياتي، وقد تغيّرت تصوراتي في هذا الشأن. في مراهقتي كنت أحلم أن أعاشر فنّانا معروفاً أو مفكّرا بارعا، فأكون أنا مصدر إلهامه و أستطيع أن أستعين به للتعويض عن شعوري بالنقص ولإدارة قلقي وخوفي. فعاشرت الكثير من الفنّانين والمبدعين، وعانيت الكثير حتّى غيرت منهجيتي في التواصل مع الآخر والغرام. فاليوم انا لا ابحث عمن يريحني من شكوكي ومن يعيد ثقتي بذاتي بل أبحث عمن يشاركني في قيمي وأهدافي، فنعمل سوياً وننظر سوياً في نفس الإتّجاه بدل أن نتفرج على بعضنا البعض».
اما فاديا ورندة فالزواج وتحديداً الانجاب.
تصف فاديا تصورها: «لم اعد افكر بطريقة رومانسية في الشريك بل اصبح المهم (عندي) التفاهم والشراكة في امور الحياة والاستمتاع؛ وانجاب طفل… وهذا امر مهم جدا. اذن صورة الرجل تغيرت تماما عما كانت عليه سابقا ولم أعد أفتش عن المغامرات او عن الرومانسية بل عن الاحترام والشراكة (…) كنت اعتقد (سابقاً) انني سألتقي بأحد يكون الحب من اول نظرة او انه سيكون عظيما وان العلاقة لن تشوبها اية شائبة، واليوم بتّ عملانية اكثر، اي انني افكر بالتناسب».
اما رندة فتقول «زادت الهجرة من حاجتي الى وجود شخص أو شريك في حياتي. وبعد ان كانت فكرة الزواج تثير فيّ نفورا وهزءا أصبحت الآن أقرب الى مزاجي وأكثر قبولا. أما تصوري لهذا الشريك فلم يتغير قبل الهجرة أو بعدها ولا تزال معايير اختياره هي نفسها. قد تكون هذه المعايير قد أصبحت أكثر وضوحا الآن إذ يصعب عليّ الارتباط بشخص يثقل على حرية تنقلي في حال قررت الانتقال الى مدينة أخرى. (…) بالنسبة الى الشريك المحتمل (…) فقط ان لا يثقل عليّ في قرار الانتقال من مكان الى آخر. اعتقد ان العنصر الثاني الأهم بعد ذلك ان يرغب في الإنجاب لان الهدف الاساسي للزواج في هذه المرحلة بالنسبة لي هو الإنجاب. (أما) المال فأعتقد انه عنصر مهم جدا في إنجاح علاقة من النوع الذي أطمح اليه».
من هذا المشهد الجزئي الى الفرضيات التي تخلص اليها هذه الدراسة:
ان الفعل الذي قامت به الشابات صاحبات الدور في هذا المشهد هو فعل من صميم الفردية. فعل نادر، يفتح دروبا غير مسلوكة. لا بد ان خلف قرار الهجرة حافز ذاتي ومسؤولية خاصة تجاه النفس. والشابات لم يرحلن، كما يرحل نظراؤهن الشباب (على ما نعرفه حتى الآن) من اجل المسؤوليتين الفردية والعائلية؛ من اجل العودة واختيار العروس المناسبة. بل من اجل انفسهن فحسب.
هجرتهن بلورت تصورات موجودة في مجتمعهن الاصلي اللبناني. اعطت دفعا تعبيريا جديدا، دفعا سلوكيا جديدا؛ فإقترن عندهن القول بالفعل. فلا ننسى انهن بنات زمانهن، حيث صورة الشريك القديمة تتعايش مع الجديدة، وبطريقة غريبة: تارة بالصراع وطورا بالتجاهل أو التدبّر او التلاعب بالالفاظ او التناقض الصارخ بين القول والفعل. وهذا اطار تاريخي للافكار والمفاهيم يحتاج الى ما يشبه فعل الهجرة لتأخذ التصورات مجالها وتذهب نحو تجارب غير معهودة. وإن كان هناك استعداد للـ«تسوية» او «المساومة»، كما عبرت رشا ورندة.
الشابات المهاجرات استطعن تحقيق انفسهن في مجال العمل، او في قسط وافر منه. هن ناضجات، راضيات، مستقلات، سعيدات بحريتهن. ولكن ايضا غير مستغنيات عن اللذة والعائلة. شراء البيت والبحث عن شريك عبر رسم ملامحه علاماتان لا تخطئان. السعي الى إستقرار في نهاية المطاف وتكوين عائلة.
لكن الصيغة التي يتمنّونها للعلاقة مع هذا الشريك ترسم نموذجا لرجل، هو على نقيض نماذج النظام القديم، واوضح من النظام «المختلط»، بين القديم والجديد، اذا جاز التعبير. بادئ ذي بدء، تتلا سمات هذا النقيض. في الحق الذي اصبح شبه مكتسب، او على الأقل مطروحا، برسم ملامح الشريك المطلوب. المساواة والندية؛ وأبلغ صيغتهما ما عبرت عنه مارتا: «انا مسؤولة عن نفسي ومن العدل ان اطلب من شريكي ان يكون مسؤولا عن نفسه». وتتبع هاتين الصفتين،اي المساواة والندّية، المشاركة في اتخاذ القرار؛ وجميع الراغبات بشريك شدّدن عليها. ويليها «التناغم» في منظومة القيم ؛ الذهنية المشتركة، الافكار المتشابهة. ولا واحدة منهن اشارت الى جنسية الشريك العتيد او دينه. اللهم حنان التي اشترطت ان يكون «مسلما» مثلها، اي بـ«الإختيار»؛ فيكون منفتحا ومتسامحا مثلها. مؤقتا يمكن القول بان المال المتكسب من قبل المهاجرات واستقلالية قراراتهن قَلَبا المفهوم التبادلي السابق للمال؛ النساء مقابل المال. وخلقا وظيفة اخرى للمال، قائمة على التساوي في اللذة، التساوي في حظوظ السعي اليها، مع التساوي او التقارب في القدرات المالية.
وهن بذلك رائدات في صياغة علاقة مع الشريك لا تتوافق مع الصيغة الدينية التقليدية للعلاقة بين الجنسين. وقد اتينا على وصفها آنفاً. انها، على نقيضها، علاقة ندّية، قائمة على المسؤولية والشراكة والتساوي في الحقوق العاطفية والجنسية. فيؤكد بتجربتهن هذه على نسبية الانوثة والذكورة وعلى الفحوى الثقافي الذي يغلّفهما.
الخلاصات غير قابلة للتعميم، كما أشرنا، بسبب قلة عدد المبحوثات. ولكن تتولّد من هذه الخلاصات الحاجة الى معرفة اوساطا اخرى من المهاجرات العازبات، إن وجدن، اللواتي لبسنَ الحجاب وتمسكن بفلسفة الهوية الدينية. هل التمسّك هذا لجمَ تصوراتهن للشريك والحرية؟ ام صهرها في بوتقة معقدة، تحتاج الى تفكيك؟
والحاجة ايضا الى معرفة أين ستجد شاباتنا هذا الشريك. وهذا يتطلب معرفة المهاجرين العازبين الشباب وعلاقتهم بالمال والشريكة. واللبنانيين، ثم اللبنانيين المقيمين. ثم الآخرين… اذ لا نستبعد ان تجد شاباتنا سعادتهن لدى شباب من جنسيات اخرى، وأديان اخرى. وهذا كسر اضافي لرتابة النظام القديم على يد بنات العصر الراهن.
وكل هذا فرضيات تحتاج الى المزيد.
خلال أيام يصدر الكتاب السنوي الثالث عشر من «باحثات» متمحورة ابحاثه حول موضوع «المرأة والمال» شاركت في كتابتها باحثات لبنانيات وعربيات.
للزميلة دلال البزري، بحث في المجلة الكتاب ننشره هنا
dalal.elbizri@gmail.com