الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية لا تلتقيان لأن كلتيهما تصدر عن منطق على طرف نقيض. فالأولى مطلقة، متعالية ونهائية، لا تقبل المراجعة أو النقد، والثانية نسبية، مؤقتة، دنيوية، ومرشحة دائما للمراجعة والنقد. هذا لا يعني أننا لن نعثر على متدينين بين العلماء، بل يعني أن المطلع على فلسفة العلوم، وتاريخ الأفكار، لن يغامر بتعريض حقيقة الإيمان للاختبار استنادا إلى أدوات ومفاهيم تنتمي إلى منطق على طرف نقيض. علاوة على ذلك، فإن استنباط براهين علمية لإثبات حقائق دينية مسألة تنتمي إلى مرحلة متأخرة من مراحل العلاقة الإشكالية بين العالم العربي والحداثة الغربية.
لهذا السبب لن نعثر لدى المنوّرين العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على محاولات جادة للتدليل على الحقيقة الدينية بأدوات العلم الحديث، فهذا ما سيحدث في وقت لاحق، بعد الاستقلال، وإنشاء الجامعة الوطنية، ومناهج التعليم الجديدة. فأبعد ما ذهب إليه المنوّرون العرب، وعدد كبير منهم من رجال الدين، كان محاولة التدليل على أن الغرب تقدّم بفضل استعارته لمناهج التفكير العقلي، التي ابتكرها المسلمون في عهود مضت.
لكن خريجي الجامعات الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية ذهبوا أبعد من ذلك بكثير. لم تعد المسألة في نظرهم مناهج التفكير العقلي، بل انصرفوا إلى الخلاصات، فكل ما أنجزه العلم الحديث في علوم الطبيعة يمكن التدليل على تطابقه مع الحقيقة الدينية عن طريق التأويل.
لم تكن مقاربة كهذه مستساغة حتى لدى الفقهاء في مؤسسات تقليدية عريقة، أخذت على عاتقها حماية، وتوليد، ونشر المعرفة الدينية كالأزهر والزيتونة، وما يزال الأمر كذلك لدى الغالبية العظمى من الفقهاء، الذين حصلوا على رأس مالهم النظري عن طريق التخصص في معاهد دينية عريقة ومرموقة.
لكن النصف الثاني من القرن العشرين شهد تحوّلات جديدة يصعب عزلها عن التطوّرات التي شهدها العالم العربي، وعن دور الدولة في مراقبة وإنشاء الديانة المدنية (أو الثقافة السائدة، إذا شئت) عن طريق نظام التعليم وأجهزة الإعلام، كما لا يصعب عزلها عن تطوّر وسائل الاتصال. وقد أسهمت تلك الأمور مجتمعة في توليد ظاهرة الدعاة الجدد، الذين جاءوا من تخصصات مختلفة، ولم تنل الغالبية العظمى منهم مؤهلات دينية تؤهلها للإفتاء في قضايا الدنيا والدين.
كان مصطفى محمود، الطبيب والداعية المصري، الذي رحل قبل أيام، الأب الروحي لكل هؤلاء. ورغم ما يُقال عن عشرات الكتب التي نشرها، فإن إنجازه الأهم والأبعد تأثيرا كان برنامج “العلم والإيمان”، الذي انتشر على نطاق واسع في سبعينيات القرن الماضي.
ولعل في هذا الانتشار نفسه ما يبرر وضع الظاهرة في سياقها التاريخي، وما يسهم في تفسير سرها المكنون. فقد جاء برنامج “العلم والإيمان” في سياق لحظة اجتمعت عندها تحوّلات تحكمت، وما تزال، بما آل إليه الوضع في العالم العربي في عقود لاحقة.
أولا، نهاية العهد الناصري (وهزيمة الناصرية) وظهور السادات، الذي أطلق على نظامه الجديد، دولة “العلم والإيمان”، وتحالف مع الإسلاميين لمجابهة المعارضة اليسارية.
ثانيا، ظهور التلفزيون باعتباره الوسيلة الأكثر نفوذا في التاريخ. في السبعينيات دخل التلفزيون بيوت الطبقة الوسطى في العالم العربي، وأصبح في فترة قياسية بحكم الإنتاج الكثيف وتدني الأسعار متوفرا لدى شرائح اجتماعية أوسع مع نهايات ذلك العقد، ويكاد يكون في متناول الجميع في الوقت الحاضر.
ثالثا، صعود القوّة المالية الهائلة لدول النفط، وأغلبها مجتمعات محافظة، تهيمن عليها أعراف وتقاليد قبلية متقشفة. والأهم أن ترجمة القوّة المالية إلى نفوذ بالمعنى السياسي والأيديولوجي في بقية العالم العربي غالبا ما تجلت كردة فعل محسوبة إزاء التحدي الناصري والقومي واليساري. ناهيك، بطبيعة الحال، عمّا أثارته الفوارق الحضرية والحضارية من جروح نرجسية حرّضت المجروحين، وقد أصبحوا بالنفط أقوياء، على تصفية الحساب مع الحواضر وسكّانها. وهي عملية ما تزال مستمرة حتى يوم الناس هذا.
أسهمت خصوصية تلك اللحظة التاريخية، وما تجلى فيها من تحوّلات، في تمكين الداعية الأوّل من التقدّم إلى مسرح أصبح جاهزا. فهناك دولة اسمها دولة العلم والإيمان، وهناك أداة دعائية جديدة اسمها التلفزيون، وهناك موارد مالية هائلة تحكم الإنتاج والتوزيع، وفئات اجتماعية ناشئة تتوق إلى استهلاك منتجات ثقافية تُوفّر الإمتاع والمؤانسة، وتنسجم مع خصوصية وثقافة ومزاج الأغنياء الجدد.
على هذه النار نضجت ظاهرة مصطفى محمود: على جبهة العلم لم يكن محتاجا إلى أكثر من معلومات طالب في كلية الطب، وعلى جبهة المعرفة الدينية لم يكن مضطرا إلى قراءات كثيرة، لكن خلطها مع نتف من أفكار ماركسية ووجودية شائعة في عقد الستينيات، أضفى عليه صفة المثقف الكبير. وهي ذات غواية خاصة لدى جمهور التلفزيون، الذي فتنته بشكل خاص البدلة وربطة العنق، والرطانة العلمية، والأفلام الوثائقية المُستخدمة كوسيلة إيضاح.
لم يُقنع فقهاء الأزهر، فهم أكثر منه معرفة وتخصصا في علوم الدين، واشتبكوا معه، ولم يُثر انتباه علماء الطبيعة، إذ بدا أقرب إلى الحواة منه إلى صاحب الاختصاص، ولم ير فيه كبار المثقفين القوميين واليساريين ندا، لكن الأغنياء الجدد في زمن الثروة النفطية ودول رجال الأعمال وجدوا فيه ضالتهم.
كان رائدا ثقافيا من روّاد عالم خلقته الثروة النفطية. ولو عدنا إلى نشأة مئات الدعاة التلفزيونيين في الوقت الحاضر، سنجد أنهم تسمروا في وقت ما من سنوات الطفولة أو المراهقة أمام برنامج مصطفى محمود، الذي تحوّل بدوره إلى برنامج رائد تحاكيه اليوم ربما مئات البرامج، في فضائيات العرب، التي يطل منها خليط غير متجانس من الحواة على جمهور مفتون.
أخيرا، ثمة مفارقة تستحق الذكر. قبل سنوات قليلة نشرت صحافية مصرية مقالة عن مصطفى محمود ذكرت فيها إنه علّق على خبر وفاة إحسان عبد القدوس، الذي أصيب بجلطة في الدماغ بالقول: إن الله يصيب الذين يحاولون خداعه في أدمغتهم. وبعدها بسنوات أصيب مصطفى محمود في دماغه، وعاش سنواته الأخيرة فاقد الذاكرة. فهل كان العقاب من ذات العمل؟
Khaderhas1@hotmail.com
• صحفي فلسطيني- برلين
جريدة الأيام