من المعلوم أنّ المسجد الأقصى
لم يكن موجودًا في الفترة التي حصل فيها حدث الإسراء والمعراج. من الناحية الزمنية فقد حصل الإسراء وكما ذكرنا من قبل في المرحلة الإسلامية الأولى، أي عندما كانت القدس وبلاد الشام خارج حدود الإسلام. كما أنّ افتتاح مدينة القدس في سنة 638م، بينما توفّي الرسول في سنة 632م. أمّا حدث الإسراء فقد حصل حوالي سنة 620م، أي قبل ثمانية عشر عامًا من دخول الجيوش الإسلامية المدينة في خلافة عمر بن الخطاب.
لقد بني مسجد قبّة الصخرة إبّان خلافة عبد الملك بن مروان في الفترة الأموية، والصخرة هي البناء الأوّل الذي قام به المسلمون في المدينة في سنة 691م. لقد قام عبد الملك ببناء المسجد بسبب تذمّر النّاس من منعهم عن أداء فريضة الحجّ إلى مكّة، لأنّ ابن الزبير كان يأخذ البيعة له من الحجّاج الوافدين إلى الحجاز. لقد حدا هذا التّذمُّر بعبد الملك إلى بناء الصخرة وتحويل النّاس للحجّ إليها بدل مكّة كما يذكر ابن خلكان:
“وبنى ابنُ الزبير الكعبة وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين مع الأرض يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وخلّق داخل الكعبة وخارجها فكان أول من خلّقها وكساها القباطي. وولّى أخاه عبيدة بن الزبير المدينة، وأخرجَ مروانَ بن الحكم وبنيه منها فصار إلى الشام. ولم يزل يقيم للنّاس الحجّ من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين. فلما ولي عبد الملك منعَ أهلَ الشام من الحجّ من أجل أنّ ابن الزبير كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجّوا. فضجّ الناسُ لما منعوا الحج، فبنى عبد الملك في بيت المقدس الصخرة، فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها. ويقال إن ذلك سبب التعريف من مسجد بيت المقدس ومساجد الأمصار.” (وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 3، 71-72).
مدينة إيلياء:
تجدر الإشارة إلى أنّه حتّى عندما دخل عمر بن الخطاب المدينة سنة 638 للميلاد لم تكن المدينة تحمل اسم “بيت المقدس” وإنّما كان اسمها إيلياء. وبهذا الاسم تظهر في نصّ الوثيقة، المعروفة بـ”العهدة العمرية”، الّتي حرّرها عمر بن الخطاب لأهلها عندما احتلها الجيش الإسلامي: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان… لا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحدٌ منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهلُ المدائن. وعليهم أن يُخرجوا منها الرّومَ واللُّصُوتَ…” (تاريخ الطبري: 2، 449؛ أنظر أيضًا: البداية والنهاية لابن كثير:ج 7، 65؛ الثقات لابن حبان: ج 2، 213). كما أنّ المسجد الذي تذكر المصادر الإسلاميّة وجوده في المدينة قبل فتح بلاد الشام والاحتلال الإسلامي للمدينة، فإنّه يُذكر باسم “مسجد إيلياء”. كما أنّ حدث الإسراء الذي يُروى أنّه حصل قبل حوالي عقدين من الزّمان من احتلال المدينة قد حصل في إيلياء: “عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلعم ليلة أسري به بإيلياء…” (صحيح البخاري: 4، 1743؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: 3، 225 ؛ نظم الدرر للبقاعي: ج 5 ص 17). ومن بين الأحاديث الشهيرة التي تذكر الموقع، يُشار إلى الحديث الذي يذكر “المسجد” مضافًا إلى إيلياء، كأحد ثلاثة مساجد تُزار، كما روى أبو هريرة عن الرسول أنّه قال: “إنّما يُسافَر إلى ثلاثة مساجد، مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء” (صحيح مسلم، 2، 1014؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد بن حنبل: ج 6، 7؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ جامع الأصول لابن الأثير: 9، 6894؛ شعب الإيمان للبيهقي:ج 3، 91 ؛ صحيح ابن حبان: 7، 7).
حريّ بنا أيضًا أن نُذَكّر في هذا السياق بأنّ التوجّه بالصّلاة قبل تحويل القبلة إلى الكعبة كان يتمّ نحو مسجد إيلياء، كما روت نويلة بنت مسلم عن مجريات لحظة التّحويل، فقالت: “صلّينا الظهر -أو العصر -في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلعم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.” (ابن كثير، تفسير، 1، 460؛ انظر أيضًا: مجمع الزوائد للهيثمي: ج 1، 240-241؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 25، 43؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 3، 421؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 2، 264؛ السيوطي، الدر المنثور 1، 65).
معنى المصطلح مسجد:
قبل المضيّ قدمًا في بحث ماهية هذا المسجد الأقصى الذي ورد في افتتاح سورة الإسراء، ولأنّ المساجد لا تنوجد بذاتها في أرضٍ ما بانعدام وجود مسلمين فيها، فما علينا إلاّ أنّ نحاول البحث عمّا يعنيه هذا المصطلح في التّراث العربي والإسلامي. ومن أجل الوصول إلى إجابات وافية في هذه المسألة، حريّ بنا أوّلا أن ننظر في ما يعنيه المصطلح “مسجد” في مرحلة نشوء الإسلام في جريرة العرب.
فمن الناحية اللّغوية، المسجد هو مكان السّجود. فالفعل “سجد” يعني خضع (الصحاح للجوهري؛ القاموس المحيط للفيروزآبادي)، كما أنّ الفعل “سجد” يدلّ على التذلُّل، فـ”كلّ ما ذلّ فقد سجد” (مقاييس اللّغة لابن فارس). ومن هنا فإنّ المصطلح “مسجد” يعني مكان العبادة على العموم، مكان السجود والتّذلُّل، وبكلمات أخرى فإنّ المسجد هو: “الذي يسجد فيه، وقال الزجاج: كلّ موضع يُتَعَبّدُ فيه فهو مسجد.” (لسان العرب لابن منظور). أمّا “الأقصى” فتعني الأبعد، وذلك “لأنه أبعد المساجد التي تزار، ويُبتغى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام.” (تفسير الطبري: ج 17، 333؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 5، 56؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 493؛ تفسير الألوسي: ج 10، 359؛ تفسير النيسابوري: ج 5، 80). وهذا التّصوّر، القائل بأنّ المسجد، كمكان عبادة عام، يشمل أيضًا اليهود والنّصارى ولا يقتصر على المسلمين، يظهر فيما نُسب إلى محمّد ذاته من أقوال. فها هي عائشة تروي عن الرسول قولاً يعني، بين ما يعنيه، أنّ المسجد بنظره يحمل دلالة الكنيسة النصرانية أيضًا. لقد روت عائشة عن نساء الرسول، أم سلمة وأم حبيبة وعمّا رأتاه من جمال في كنيسة مارية بأرض الحبشة، فقالت: “ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها مارية، … فذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوّروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله.” (صحيح البخاري: ج 5، 252؛ صحيح ابن حبان: ج 7، 454؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 10، 79؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 119؛ عمدة الأحكام للمقدسي الجماعيلي: ج 1، 59؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 15، 488)، وهذا حديث “متّفق على صحته”، كما يذكر البغوي (شرح السنّة للبغوي: ج 1، 383). كما أنّا نعثر على تعزيز لهذا التصوُّر في ما ورد من حديث صحيح روي عن الرسول الذي قال: لعن الله، أو قاتل الله، اليهود والنصارى لأنّهم: “اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.” (صحيح البخاري: ج 2، 253؛ صحيح مسلم: ج 3، 448؛ مسند أحمد: ج 17، 76؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 12، 221؛ جامع الأصول من أحاديث الرّسول لابن الأثير: ج1، 3741). وها هو أبو سفيان أيضًا ينسب المصطلح مسجد إلى أهل الكتاب. فعندما سأله قيصر عن النبيّ ورغب أبو سفيان في إقناع قيصر أنّ محمّدًا كاذب بما روى من قصّة الإسراء، فقد قال أبو سفيان لقيصر: “زعم لنا أنّه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم هذا، مسجد إيلياء…” (تفسير ابن كثير، 5 ، 45 ؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 225؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 287؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 325؛ الاكتفاء للكلاعي الأندلسي: ج 2, 307-308).
ولو ذهبنا إلى القرآن
لننظر في ما يحمله المصطلح “مسجد” من دلالات، فماذا نحن واجدون؟ ما من شكّ في أنّ دلالة المصطلح مسجد لا تقتصر على مكان عبادة المسلمين، وإنّما هي دلالة عامّة، وتسري أيضًا على مكان العبادة لدى أهل الكتاب. فها هي الآية الثامنة عشرة من سورة الجن تنصّ: “وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا”. فما معنى مصطلح المساجد الذي يظهر في هذه الآية؟
تروي أسباب النّزول أنّ سبب نزول هذه الآية هو قول الجنّ للنّبي: “كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت.” (الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 395؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 8، 242؛ ). أي أنّ هؤلاء الجنّ من المسلمين يسألون الرسول سؤالاً وجيهًا بشأن حضور الصلاة في المسجد بينما هم موجودون في أماكن نائية جدًّا لا وجود للمساجد فيها، فنزلت الآية إجابة على سؤال الجنّ. أمّا ابن عبّاس عندما يتطرّق إلى هذه الآية، يقول: “لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجدٌ إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا – بيت المقدس.” (تفسير ابن كثير: ج 8، 244؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 306؛ فتح القدير للشوكاني: ج 5، 437). وكما هو متوقّع فقد شغلت هذه المسألة بال المفسّرين منذ القدم، فهنالك من ذهب إلى التّعميم وهنالك من رجّح التّخصيص: “وقال الحسن المراد كلّ موضع سُجد فيه من الأرض سواء أُعدّ لذلك أم لا، إذ الارض كلّها مسجد لهذه الأمة، وكأنّه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح: جُعلت لي الأرض مسجدًا و طهورًا.” (تفسير الألوسي: ج 21، 350؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 395؛ تفسير البغوي: ج 8، 242؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 8، 382-383؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 6، 436؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 10، 359). وها هو ابن العربي يتطرّق للموضوع شارحًا ذلك بقوله إنّ الأرض كلّها للّه على العموم، وأنّ الله جعل الأرضَ كلّها مسجدًا، ويورد الحديث النبوي: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا. غير أنّه يُضيف إلى هذا التّعميم القول بأنّه: “اصطفى منها مواضع ثلاثة بصفة المسجدية، وهي: المسجد الأقصى وهو مسجد إيلياء، ومسجد النبي صلعم، والمسجد الحرام.” (إبن العربي، أحكام القرآن، 7، 445)، وفي هذا القول إشارة إلى الحديث النبوي الآنف الذكر بشأن المساجد الثلاثة التي يُسافر إليها. إلاّ أنّ التّصوّر الأقدم يذهب إلى ترجيح التّعميم، وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح المساجد في الآية “يعنى الكنائس والبيع والمساجد” (تفسير مقاتل: ج 4، 146). أو كما يذكر أبو حيان: “والظاهر أنّ المساجد هي البيوت المُعدّة للصّلاة والعبادة في كل ملّة.” (تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 10، 359).
بوسعنا أن نعثر على تعزيز لهذا التّصوّر
في مكان آخر في القرآن. ففي معرض الحديث عن بني إسرائيل وما جرى لهم مع فرعون في مصر تذكر الآية القرآنية: “وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ” (سورة يونس: 87). فها هو المصطلح مسجد يُنسب إلى مكان عبادة بني إسرائيل كما يذكر المفسّرون: “قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة فلما أُرسل موسى أمرَ فرعون بمساجد بني إسرائيل فخُرّبت كُلّها ومُنعوا من الصلاة…” (تفسير القرطبي: ج 8، 330؛ أنظر أيضًا: زاد المسير لابن الجوزي: ج 4، 54؛ تفسير الرازي: ج 8، 335؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 9، 32). وها هو المصطلح “مساجد الله”، كما يرد في سورة البقرة في سياق خراب بيت المقدس: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا.” (سورة البقرة: 114). تروي أسباب النّزول أنّ الآية نزلت في شأن طيطوس الرّومي وغزوه لبيت المقدس ومحاصرة أهله وقتلهم وإحراق التوراة: “حيث خرّب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة، فكان خرابًا إلى زمن عمر بن الخطاب.” (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 102؛ أنظر أيضًا: تفسير الألوسي: ج 1، 475؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 264؛تفسير الرازي: ج 2، 293؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: ج 1، 305؛ معاني القرآن للفراء: 67؛ تفسير النسفي: ج 1، 65؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 385؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 4، 331؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 1، 134). أمّا مصطلح “مساجد الله” الذي يظهر في الآية فهو كما يذكر المفسّرون: “يعنى بيت المقدس ومحاريبه.” (تفسير البغوي: ج 1، 145؛ أنظر أيضًا: تفسير مقاتل: 1، 80؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 218؛ تفسير القرطبي: 2، 76). وهكذا نرى أنّ المصطلح مسجد هو تعبير عامّ لمكان العبادة، ولا يقتصر على مكان عبادة المسلمين فحسب.
***
في المقالة القادمة سنرى كيف ينظر التّراث الإسلامي إلى المسجد الأقصى وإلى الصخرة وقدسيّتها.
والعقل ولي التوفيق.
*
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: “هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟”
المقالة الثانية: “لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟”
المقالة الثالثة: “لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟”
المقالة الرابعة: “من هو النّبي الأمّي؟”
المقالة الخامسة: “لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟”
المقالة السادسة: “المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب”
المقالة السابعة: إكسودوس بني النضير
المقالة الثامنة: “محرقة بني قريظة 1”
المقالة التاسعة: محرقة بني قريظة(2)
المقالة العاشرة: ماذا جرى مع يهود خيبر؟