ما عدا نقابة المحامين، ومنظمة تعنى بحقوق الإنسان، لم يصدر عن العاملين في الحقل السياسي والثقافي الفلسطيني ما يوحي بردة فعل خاصة إزاء قرار حكومة حماس في غزة القاضي بفرض غطاء الرأس على المحاميات في قاعات المحاكم.
للوهلة الأولى يبدو الأمر قليل الأهمية مقارنة بانسداد الأفق السياسي، وانهيار الحركة الوطنية، والانقلاب، وتعثر مفاوضات المصالحة، إلى جانب الحصار، والفقر، وتمزّق النسيج الاجتماعي، والحضور اليومي للاحتلال في ملايين التفاصيل الصغيرة والكبيرة.
ومع ذلك في صياغة الأولويات بهذه الطريقة ما ينم عن فشل مزدوج في إدراك العلاقة الموضوعية بين مكوّناتها أولا، والفشل في إدراك مخاطر طرح أولوية على حساب أخرى ثانيا.
مثلا، في أزمنة الانقلابات العسكرية في العالم العربي تبنى الكثير من المثقفين العرب قناعة مفادها أن التنمية أولوية تفوق في أهميتها المساواة، أو الديمقراطية، وحقوق الإنسان. نظر اليساريون من بينهم بعين الشك إلى مفاهيم من نوع المواطنة وحقوق الإنسان باعتبارها مفاهيم برجوازية، بينما رفع القوميون مسألة الوحدة فوق كل اعتبار آخر.
ولكن لا التنمية تحققت، ولا كانت الوحدة ما ينتظر الحالمين من ضوء في نهاية النفق. وما تحقق تمثل في إنشاء دكتاتوريات عسكرية، وتمكين نخب جديدة من الاستيلاء على السلطة والثروة باسم شعارات نبيلة لكنها بعيدة المنال.
وما سبق ينطبق على قضايا التحرر الوطني، أيضا. المساواة والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من قضايا التحرر الوطني. ففي حضورها في خطاب الاستقلاليين والمقاومين ما يدل على صورة المجتمع القادم. وبالقدر نفسه في غيابها ما يلقي بظلال كثيرة من الشك حول إمكانية نجاح المشروع الوطني نفسه.
وليس في الكلام على معادلة كهذه ما يشبه اكتشاف البارود. فقد كان هذا خطاب اليساريين الفلسطينيين في وقت مضى. والمفارقة أن مفردات هذا الخطاب تغيّرت إلى حد يصعب معه العثور على ما يميّز اليسار عمّا سواه.
سمعنا في الآونة الأخيرة كلاما عن تفعيل دور اليسار في فلسطين، بل وعُقدت مؤتمرات لهذا الغرض. ومع ذلك لم يفكر أحد من المشاركين في التفعيل بالتعليق على قرار حكومة حماس، رغم أن التعليق شرط من شروط التفعيل، أو من علاماته.
فلنفكر بطريقة مغايرة. بعد الانتخابات الأخيرة قال أحد الناطقين باسم حماس إن جماعات اليسار في فلسطين لا تزيد عن حمولة باص واحد. هذا الكلام مهين، لكنه مُصاغ بطريقة مجازية لا تخرجه من دائرة المنطق. ففي انتخابات المجلس التشريعي حصل اليسار على ما يستحق، وتجلت فيما حصده من أصوات حقيقة فشله في التعبير عن، وتمثيل، شرائح اجتماعية مختلفة من بينها، وربما على رأسها، النساء.
لدى النساء، إضافة إلى الحصار والحوار والجدار والاحتلال والنضال، قضايا تتعلّق بالزواج والطلاق والدراسة والعمل والميراث والحب والحرية. إذا لم تكن هذه القضايا على جدول أعمال، بل وفي طليعة اهتمامات، الجبهات الشعبية والديمقراطية والنضال والفلسطينية وحزب الشعب وفدا، فما هي القضايا التي يهتم بها ويتبناها هؤلاء؟ وإذا لم يكن هؤلاء في وارد البحث عن فئات اجتماعية تمنحهم أصواتها مقابل دفاعهم عنها وتبنيهم لمصالحها، فمن الذي سيجازف بمنح صوته لجماعة بلا برنامج ولا هوية؟
أخيرا، ينطوي قرار حكومة حماس الأخير على دلالتين هما:
أولا، في كل محاولة للهندسة الاجتماعية والثقافية من جانب جماعة سائدة، ممارسة للعنف غالبا ما تستهدف الشرائح الاجتماعية الأضعف. والنساء في جميع الأحول ضحية مثالية، إذ يمثلن الأضعف بين الشرائح الاجتماعية. جبن اليسار في فلسطين، وبلاغته الفارغة، وضياع بوصلته السياسية، يتجلى في خيانة قضايا النساء، وفي المساومة عليها، وتجاهلها، أو وضعها في أسفل القائمة، مقابل ثلاثين ثانية على الفضائيات يدين فيها المحاصصة ولا ينسى الحوار والحصار والجدار.
ثانيا، ممارسة العنف تتخذ أشكالا مختلفة لعل الأكثر بدائية من بينها وسم جسد المحكومين بوشم السلطة. وغالبا ما تكون الأجساد الأكثر ضعفا مرشحة أكثر من غيرها لتوليد معنى ومظهر وهيبة السلطة. مطلق سلطة. وبما أن عملية توليد معنى ومظهر وهيبة السلطة لا تتوقف بل تُمارس بطريقة يومية، وعبر ما لا يحصى من التفاصيل، فإن المظهر الخارجي للجسد، والمقصود هنا أجساد النساء، يقوم مقام وسيلة الإيضاح.
ثمة مظاهر أخرى لتوليد معنى ومظهر وهيبة السلطة من بينها الحكم بالإعدام. وغالبا ما تمارس السلطة السائدة حق الحكم بالإعدام وتنفيذه بطريقة استعراضية، إذ يتحوّل جسد المحكوم بالإعدام إلى وسيلة إيضاح لمعنى احتكار السلطة لحق الحياة والموت.
إلى ذلك تُضاف وسائل إيضاح أكثر تعقيدا من بينها امتلاك الحق في احتكار عقول المحكومين من خلال الحكم على أفكار معيّنة بالهرطقة، وتحويل أفكار أخرى إلى دليل على حسن المواطنة والانتماء، مع كل ما يلازم هذه وتلك، طبعا، من فنون وآداب وبلاغة وطقوس.
إذا كانت مسألة احتكار العنف وتوليد معنى ومظهر وهيبة السلطة الانقلابية، وما تنطوي عليه من دلالات، بعيدة عن هموم ومشاكل ومشاغل وتفاعيل وأفاعيل اليسار، وكان الحوار والحصار والجدار شغلهم الشاغل وهمهم المقيم، فمبروك عليهم عمى البصر والبصيرة قبل التفعيل وبعده، ومبروك عليهم حمولة الباص.
Khaderhas1@hotmail.com
• كاتب فلسطيني- برلين
جريدة الأيام