أستاذ جامعي نقل لـ”الشفّاف” قبل أشهر قصّة مسؤول الأمن في الحزب الإلهي الذي كان “يقدّم إمتحانه” في صف فارغ من الطلاب.. ومن المراقبين! وقد أثار الموضوع أزمة في الكلية المعنية لأن بعض الأساتذة استهجن هذا “الإمتحان” الفريد من نوعه، حتى لو كان “التلميذ” إلهياً ومسلّحاً.. ما نخشاه هو أن يصبح هذا “التلميذ” أستاذاً في يوم من الأيام، إلا إذا اكتفى بلقب “دكتور” مثل خريج جامعة موسكو، الدكتور رفعت الأسد!
*
العنوان الأصلي لهذا المقال هو: “
ما الذي دفعني إلى الاستقالة من الجامعة اللبنانية؟
”
بعد ثلاثة أشهر على صدور مرسوم جمهوري بإنهاء خدماتي، بناء على طلبي، وذلك قبل بلوغي السن القانونية، صار في إمكاني أن أكتب في أسباب استقالتي نصا يتجاوز الصيغة القانونية المعتمدة لطلب “إنهاء الخدمات”.
تخرجت منها باعتزاز كبير، يوم كنا نتباهى بها جامعة تضاهي أحسن جامعات العالم، ومنها تخرج باحثون وعلماء وفنانون وشعراء وفلاسفة وقادة سياسيون الخ. بعد عقدين من التدريس في التعليم الثانوي الرسمي عدت إليها، باعتزاز كبير أيضا، أستاذا محاضرا ثم معيدا ثم أستاذا. وها أنا اليوم أخلع ثوب الاعتزاز وأرتدي ثوب الخجل، وأستقيل (تنفيذا لرغبة أعلنت عنها في صيف 2008 في مقالتي عن “عودة الأستاذ الشيعي إلى رشده المذهبي”)، غير آسف، من جامعة كانت مفخرة ومبعث أمل لي ولأبناء جيلي من اللبنانيين، وينبغي أن نعيدها كما كانت، ونرفع عنها تسلط الميليشيات وصغار المتكسبين.
جامعة بطرس ديب وإدمون نعيم و فؤاد إفرام البستاني وحسن مشرفية والشيخ صبحي الصالح، الخ، ماتت. لم تعد محلا لإنتاج المعرفة وتحصيلها وتعميمها. بل صارت مثل كل المؤسسات الرسمية، الأساتذة فيها(معظمهم) موظفون، مجرد موظفين، وطلابها (إلا المغلوب على أمرهم) جمهور احتياطي للأحزاب الطائفية والمشاريع المذهبية، وإداريوها ( الجدد خاصة) متنفعون عند أولياء النعمة، وبات المثال الأعلى لمن يعمل فيها طاعة الزعيم و كتابة التقارير.
يزعم الزاعمون أن الأستاذ الجامعي ينتمي إلى فئة المثقفين أو الأنتليجنسيا، أي أولئك الذين، كما سماهم جان بول سارتر، يتدخلون في ما لا يعنيهم. والمقصود بذلك تدخلهم في ما يتعدى همومهم الأكاديمية إلى هموم وطنية، أو أنه مثقف تقني فحسب. ومن موقعه هذا، يجد المثقف نفسه في صراع حتمي مع السياسي، لأن بينهما تناقضا في منهج العمل. السياسي يستعجل الإجابة فيما يكثر المثقف من الأسئلة؛ والسياسي يستعجل إقفال باب النقاش والذهاب بسرعة نحو اتخاذ القرار فيما المثقف يميل إلى النقاش وإعادة النقاش؛ والسياسي ينطلق من زعمه امتلاك الحقيقة بينما ينطلق المثقف من البحث الدؤوب الدائم عن الحقيقة؛ الخ. هذا شأن المثقف من الأنتليجنسيا، فكيف بالمثقف التقني، أي الذي يحصر همه في النشاط الأكاديمي والبحثي؟؟؟ من هذه الزاوية بالذات كان كل دبشليم في التاريخ بحاجة إلى بيدبا، ومن هنا أيضا حاجة السياسي الدائمة إلى المثقف (إلى الوقوف على بابه) ليتأنى في اتخاذ قراره.
أما أن تنقلب القاعدة فيقف أساتذة الجامعة على أبواب الساسة، فهو لعمري، من “علامات الظهور” (ظهور صاحب العصر والزمان باللغة الشيعية)، أو من علامات يوم القيامة، حيث تصبح الحاجة ماسة لظهور المهدي برفقة المسيح كي يملأ الأرض عدلا!!! آه لو يظهر؟! ليخلصنا من آفة التسكع والتزلف التي يقترفها “المثقف الدجال” على باب السلطان!!!
لا أقول ذلك لأشتم زملاء لي بينهم أصدقاء كثر شم الأنوف ومشهود لهم بالعلم والمعرفة والحفاظ على الكرامة والدفاع عن حرمة الجامعة، بل لأصف حالة مهيمنة باتت الغلبة فيها، في صفوف المسلمين، لمن يفضل لقب الحج على لقب الدكتور، عملا بمفعول القول الطقوسي”لا جدال في الحج” فيمنع الجدال، أي النقاش، في الجامعة، ويصبح منهج التعليم الجامعي خاضعا لحديث منسوب إلى الرسول، مفاده: أول العلم الصمت (الإصغاء) ثم الحفظ ثم العمل بموجبه، الخ. وهكذا يقفل باب الأسئلة ويسعى السائل عن الحقيقة، لا في طريق البحث العلمي عنها، بل في الفتاوى التي يطلقها من عنانها معممون جهلة من خريجي الحوزات، أو على حد قول أحد العلماء الأجلاء، “من خريجي دورات الفك والتركيب”، وهذه عبارة شاعت في بداية الحرب الأهلية يوم كان الكل يتدرب تدريبا أوليا على فك السلاح وإعادة تركيبه.
لم تعد الجامعة إذن محلا لتحصيل العلم، لأن تواطؤا حصل بين الأساتذة والطلاب تخلى بموجبه الأساتذة عن شرط الكفاءة الأكاديمية وأباحوا لطلابهم انتهاك مستويات التحصيل العلمي ومناهجه وأدواته ليحصلوا عما تيسر منه في الثقافة الشعبية الشائعة أو في المعلومات الرائجة لدى الرأي العام؛ والرأي عموما، على ما يقول باشلار، هو عدو العلم والبحث العلمي، فكيف بالرأي العام؟
إنه تواطؤ مبرر ومفهوم، بين طالب يريد الحصول على “شهادة” بأيسر السبل، وأستاذ كسول لا يحس بالحاجة إلى أن يقرأ كتابا جديدا بعد دخوله جنة الجامعة. أما أن يكون هذا التواطؤ مرعيا فهو ما يثير الريبة ويرفع مستوى الاتهام من التواطؤ بين طالب وأستاذ، إلى نية مقصودة لدى القيّمين على الجامعة، ولا سيما المسؤولين السياسيين، بتخريب هذا الصرح العلمي، لمصلحة خطة للتجهيل مرسومة عن سابق تصور وتصميم، تجهيل ليس مآله إلا إعادة بلاد العلم والنور، لبنان، الذي كان جامعة الشرق ومستشفاه ودور نشره ومكتباته، الخ. إعادته إلى ما قبل عصر التنوير، إلى مرحلة ما قبل العقل الحديث وأصول البحث العلمي ومناهجه الحديثة.
المارونية السياسية تذرعت بأوضاع البلاد الأمنية فقسمت الجامعة بين شرقية وغربية، والشيعية السياسية أمعنت في انتهاك حرمة استقلاليتها وتذرعت بالشعار اليساري، اليساري للأسف!!! “ديموقراطية التعليم “لتطالب بحصة عادلة، وهي ليست حصة الطائفة بل حصة تيار سياسي مذهبي شيعي استهواه مشروع المارونية السياسية التدميري فتوسل شعارا يساريا آخر، هو رفع الغبن عن الشيعة، ومن هذين البابين ومن سواهما دخلت الشيعية السياسية في ورشة التخريب الممنهج، فراحت تطالب بـ”حصتها” في كل مؤسسات الدولة، وانتدبت من يمثلها في الجامعة اللبنانية، ولم يكن انتدابها، في غالب الأحيان، موفقا، لأن المعيار الذي اعتمدته لم يكن الكفاءة العلمية والتعليمية بل كفاءة التسكع الذليل على باب السلطان، ولا الكفاءة في كتابة الأبحاث بل المهارة في
كتابة التقارير الأمنية، ولا الكفاءة الوطنية دفاعا عن الوطن وعن دولة القانون، بل الانحدار نحو الدفاع عن مشروع مذهبي طائفي ليس استاذ الجامعة مثقفه أو المبشر به أو مؤدلجه، بل نماذج أخرى تربت على التشبيح الميليشيوي ومارسته في الحرب بمهارة عالية ثم راحت تستخدمه في حقل الثقافة، هذا الحقل الذي إذا مورس التشبيح عليه قتله.
لا نعني في ما قلناه أخذ الصالح بجريرة الطالح، فبين الأساتذة الشيعة من تعتز الجامعة بهم ويفخر الوطن بمستواهم العلمي والتعليمي والبحثي، غير أن طغيان العامل السياسي على الثقافي والعلمي دفع بالكفاءات الجامعية إلى الأماكن الخلفية أو إلى الهجرة، ووضع في الواجهة من يجسد، في صورة أفضل، مشروع التفتيت الطائفي والمذهبي الذي رعاه نظام الترويكا ودولة الوصاية، وكانت حصة الشيعة من التفتيت أكثر من حصة سواهم لأن الشيعية السياسية كانت الركن الأساسي في حماية دولة الوصاية، وإن لم يظهر ذلك جليا في بدايات تطبيق الطائف، فهو ظهر في أبهى صوره بعد اغتيال الرئيس الحريري.
الكلام على مسؤولية الشيعية السياسية ليس تبرئة لسواها بل لأنها هي التي حملت، بعد اتفاق الطائف، راية التخلف الوطني في سباق البدل الطائفي المذهبي، وأمعنت، أكثر من سواها، في تحطيم مرتكزات الدولة الحديثة الطرية العود، فقدمت إلى الواجهة في مؤسسات الدولة، وزراء ونوابا ومدراء عامين، الخ، وأساتذة وموظفين في الجامعة رسب معظمهم على محك التجربة وانتهى بعضهم مدانا أمام مجالس التأديب أو في المحاكم المدنية، أو أنها على الأقل، قدمت باسم الطائفة من “لم يبيضوا وجه الطائفة” بل إن بعضهم لطخ تاريخها النقي بجهله وسوء سلوكه.
ولا نسوق الكلام على الشيعية السياسية كأننا لا نرى مساوئ سواها، بل لأننا عانينا منها أكثر من سواها، بحكم انتمائنا الطبيعي إلى الطائفة الشيعية التي نعتز بالانتماء إليها مثل اعتزازنا بكل الطوائف التي تشكل تاريخنا الوطني المشترك (إننا نميز جيدا بين الانتماء الطبيعي إلى الطائفة وتحويل الطائفة، بقوة التسلط، إلى مشروع سياسي طائفي ومذهبي)، وبحكم وجودنا في فرع من كلية الآداب، حيث تعاقب على المسؤولية فيهما (الكلية والفرع) رجال علم من كل الطوائف اللبنانية، ورأينا كيف راحت الجامعة تدفع من رصيدها الكبير عاما بعد عام، ورأينا كيف صار يتجرأ الأستاذ الجامعي على القيام مثلا بوظيفة مخبر صغير لدى أي جهاز من أجهزة المخابرات الحزبية أو الرسمية، وكيف صارت الجامعة اللبنانية تحتفل بتخريج المحجبات، وكيف صار الحرم الجامعي مكانا للدعاية الحزبية أولا، ثم ساحة لممارسة القهر، حيث تسود غالبية مذهبية على أخرى، وكيف صارت اللوحات الإعلانية والجدران والباحات مزدانة بأعلام الأحزاب وألوانها، وكيف صارت تعطل الدروس، فيهب من يهب من الأساتذة والطلاب، داخل حرم الجامعة، لالتهام صحن الهريسة وكأس اللبن عن روح الحسين في عاشوراء…وربما لتكريم قديس، عملا بقاعدة 6 و6 مكرر.
قبل ذلك وبعده، كانت تتدهور حالة البحث العلمي بعد أن صارت ميزانية الأبحاث، في معظمها، توزع على المحاسيب من كتبة التقارير، لا على الباحثين الحقيقيين، كما راح يتدهور مستوى التحصيل العلمي بعد أن فرضت الحرب الأهلية على الجامعة تقاليد “التشبيح” ( ومعناه الاستيلاء عن غير حق)، فصار التشبيح الثقافي والعلمي يقضي بأن يسرق الطالب شهادة أو أن يشتريها بالمال أو بكل الوسائل غير المشروعة، ففاحت رائحة التزوير وبيع الشهادات في بعض الكليات، وكوفئ بالترقية بعض من زوروا أو تاجروا بالشهادة الجامعية.
إذا كانت الجامعة مركزا للبحث العلمي عن الحقيقة، فإن أسوأ ما يسيء إلى البحث والعلم والحقيقة فيها هو نظام المحاصصة الذي قد يصح على الاقتصاد، لكنه جريمة بحق الجامعة، اذ لا يمكن لعقل طبيعي أن يتصور تقاسما للحقيقة على طريقة التقاسم الذي ساد منذ الاستقلال في شأن كتابة التاريخ الوطني. فلن يكتب تاريخ وطني في ظل المحاصصة ولن تبقى جامعة على قيد الحياة في ظل المحاصصة. فهذه الآفة لم تصب الملاك البشري وحده بل اصابت حتى جوهر فكرة الجامعة من أساسها، لأن تحاصص الأساتذة والعمداء والمدراء والموظفين عمم كل أنواع المحاصصة و أرسى تقليدا مدمرا في الحياة الجامعية صار التدخل في شؤونها، بما في ذلك الأكاديمي منها، من جانب السلطة السياسية، أمرا طبيعيا، فألغيت المجالس التمثيلية، وتعطل عملها كمؤسسة، أسوة بسائر مؤسسات الدولة التي تنازعتها مصالح السياسيين فعينوا وكلاء عنهم معظمهم من غير أهل الكفاءة، إن لم نقل إنهم من أهل الفساد والإفساد، لأنهم لم يروا فيها غير الجانب الإداري المتعلق بالتوظيفات والاستثمارات المالية والمحسوبيات. حتى الجانب الأكاديمي حولوه إلى همّ إداري إنفاقي، وما فضيحة التعديلات السنوية على البرامج إلا الدليل الكافي على أن الوجه “الجذاب” من أي نشاط أكاديمي، بما في ذلك تعديل البرامج، هو الوجه المالي.
حتى العمل النقابي لم يبقَ في منأى عن التخريب، الذي كانت الشيعية السياسية سبّاقة إليه. ففي أول انتخابات نقابية بعد الطائف، فاز في عضوية الرابطة ثمانية أعضاء شيعة من بين خمسة عشر هم أعضاء اللجنة التنفيذية، وكان من الطبيعي أن تحاول الشيعية السياسية توظيف هذا العدد في مشروعها التخريبي المذهبي، غير أن الرابطة نجت بإعجوبة على دورتين متواليتين لتسقط في الثالثة بالنقاط وفي الرابعة في ضربة المحاصصة القاضية. في فترة النجاة ناضلت وأنجزت، وبعد ذلك لم تعد تمثل الجسم التعليمي بقدر ما صارت تمثل بالمحاصصة القوى السياسية والأجهزة الحاكمة.
الرابطة نجت لدورتين، ونجا معها حتى الآن أكثر من كلية وأكثر من فرع، ونأمل أن يبقى مستوى الصمود في هذه الفرق الناجية” كبيرا، لعلنا نستطيع أن ننقذ جامعتنا مما هي فيه”.
إننا نعتقد أن حل الأزمات المتعددة،الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وكذلك أزمات الماء والكهرباء والصحة،الخ، هو حل سياسي، وحل أزمة الجامعة مدخله رفع يد القوى السياسية عن شؤونها واحترام حرمتها، وإعادة هيكلتها في سياق إعادة بناء الدولة، على أساس الوحدة الوطنية، دولة مدنية هي دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الديموقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية. على هذا الأساس ليست الاستقالة هربا أو تهربا، بل على العكس تماما، إنها بحث عن الحل حيث يتوافر الحل. فبعد أن غدا الحل مستحيلا من الباب الأكاديمي بات من الضروري ولوجه من الباب السياسي، اي النضال من أجل إعادة بناء الوحدة الوطنية اللبنانية ودولة المؤسسات.إنه إذن باب النضال في مواجهة دويلات المحاصصة المذهبية، من أجل قيام دولة الحق والقانون.