العدالة الدولية هي الفزاعة التي تقض مضاجع الحكام المستبدين وخاصة من تلطخت أيديهم بدماء مواطنيهم أو مواطني الدول المجاورة، فقد أنشأت محاكم دولية، أو وطنية بدعم دولي، لملاحقتهم وتقديمهم لمحاكمات لنيل قصاصهم العادل جراء ما اقترفوه من جرائم ضد الإنسانية. فأعمالهم لم تعد شأناً داخلياً كما يدعون، بل شأناً إنسانياً عالمياً تتخطى مفاعيله حدود الدول لتصل إلى كل إنسان مهما كانت قوميته أو دينه لتأمين حقه في الحياة الكريمة ضد منتهكيها، وحقوقه الأخرى التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية الملحقة.
الحكام المستبدون لم ينقرضوا بعد، فما زالوا يتربعون على كراسي الحكم في عدد من دول العالم المتخلف، لكنهم يتحسسون رقابهم وهم يشاهدون زملاء لهم كانوا في أوج سلطانهم يساقون إلى القضاء الدولي دونما مراعاة لمناصبهم الحالية أو السابقة. وهم الآن يحسبون ألف حساب قبل الإقدام على ارتكاب جرائم جديدة ضد شعوبهم، كما يحاولون طمس وإخفاء جرائمهم السابقة والتنصل منها. ويظن بعضهم أنهم محصنون وأن جيوشهم وأجهزتهم الأمنية تحميهم من العدالة الدولية.
لقد شهد العالم محاكمة سلوبودان ميلوسوفيتش الذي ارتكب مجازر مروعة ضد البوسنيين، ومحاكمة صدام حسين الذي استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه وفي حربه العبثية ضد إيران، وارتكب مجازر في حملة الأنفال ضد أكراد العراق وخلال قمع انتفاضة الجنوب. كما صدر قرار من المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس البشير لدوره في جرائم الإبادة الجماعية لما يزيد عن مائة ألف من سكان دارفور والتسبب في فرار مليونين من مناطق سكنهم بعد تدمير قراهم ونهب بيوتهم واغتصاب نسائهم من قبل ميليشيات الجنجويد المدارة من الحكومة السودانية. كما نشهد إقامة المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رفيق الحريري وأعداد من النخبة السياسية والثقافية والإعلامية اللبنانية، التي تستعد الآن لإصدار قرارها الاتهامي لمن ستوجه أصابع الاتهام بارتكاب جرائم العصر هذه. كما تدور محاكمة قادة الحزب الشيوعي الكمبودي – “الخمير روج”- الذين تسببوا منذ ثلاثين عاماً أثناء حكمهم الذي دام خمس سنوات بمقتل ما لا يقل عن مليون ونصف من الكمبوديين.
آخر المحاكمات استؤنفت هذا الشهر حيث مثل شارلز تايلور الرئيس الليبيري السابق أمام محكمة خاصة سيراليونية مدعومة بقضاة دوليين معينين من الأمم المتحدة، ولأسباب أمنية عقدت جلساتها في لاهاي بهولندا وليس بسيراليون. وكانت المحاكمة قد تأخرت إلى أن وافقت إحدى الدول وهي بريطانيا على “استضافة” تايلور في أحد سجونها في حال إدانته.
تايلور هو الرئيس الإفريقي الاول الذي يحاكم لاتهامه بالمسؤولية عن إدارته لأشرس الحروب الاهلية الإفريقية في سيراليون المجاورة لليبيريا، حيث ارتكبت جرائم بشعة ضد المدنيين من قتل وقطع رؤوس وبتر أطراف وآذان وأنوف وتمثيل بالجثث وسلب ونهب واغتصاب وإحراق قرى بكاملها مما يذكر بالسفاح الزرقاوي وجرائمه لترهيب الشعب العراقي. وقد أضاف تايلور وأنصاره تقليداً بربرياً قديماً وهو أكل لحوم البشر الإعداء، وتجنيد الأطفال للحرب مع استعمال المخدرات لضمان تنفيذهم للأوامر بارتكاب الأعمال الوحشية. وقد أدت أعمال العنف ما بين عامي 1996 و 2002 لمقتل ما لا يقل عن مائتي ألف ولمئات آلاف الجرحى والمعاقين والمشوهين والمهجرين. وستستمع المحكمة لحوالي مائتي شاهد بعضهم أتى للمحكمة بأطراف مبتورة، ومنهم أعداد من مساعدي تايلور المقربين جاؤوا ليؤكدوا علاقته المباشرة بعصابات سيراليون.
أدى تايلور أدواراً عديدة فقبل رئاسته كان موظفاً اتهم باختلاس 900 ألف دولار من الخزينة العامة، ثم أمير حرب وقائد متمردين لقلب نظام الحكم الليبيري، ثم طاغية وتاجر، حيث كان من أهداف الحرب التي شنها في سيراليون السيطرة على تجارة الماس والأسلحة. وقد أجبر على التخلي عن السلطة في العام 2003 إثر حركة سياسية مسلحة مناهضة لحكمه الفاسد، وتم نفيه إلى نيجيريا. وقد صدرت بحقه في نفس العام مذكرة توقيف دولية من محكمة سيراليونية. لكن لجوئه لنيحيريا لم يستمر طويلاً إذ اضطرت لتسليمه بعد ضغوط دولية، ليقتاد إلى لاهاي وتبدأ محاكمته في العام 2007.
من الطريف في حينها أن “ملك” افريقيا العقيد القذافي احتج بشدة على تسليمه رغم أنه يحظى بحصانة من الاتحاد الإفريقي كرئيس سابق، واعتبر التسليم إذلال لإفريقيا بأجمعها! وللعلم فقد سبق لتايلور أن استفاد من تسهيلات “الثورة العالمية للكتاب الأخضر” لإقامة معسكر تدريب لأنصاره على الأراضي الليبية قبل بدء أعماله المسلحة في العام 1989 للاستيلاء على السلطة في ليبيريا.
ليس غريباًً دفاع زملاء الطاغية عنه، ولكن العجيب اعتقاد بعضهم أن الاتحادات التي يشكلونها يمكن أن تحصنهم في وجه العدالة، بعد محاولة البعض تحويل الاتحادات المختلفة إلى نقابات للرؤساء للدفاع عن منتسبيها في وجه العدالة الدولية. والسؤال الآن إلى أي مدى ستظل حصانة نقابة الرؤساء سارية المفعول بالنسبة للرئيس السوداني المطلوب للقضاء الدولي؟
مسيرة العدالة بطيئة ولكنها تصل في النهاية لأهدافها، وهي تقول للحكام الديكتاتوريين المتمادين في استبدادهم:
جرائمكم من ورائكم والمحاكم الدولية من أمامكم.. فإلى أين المفر؟
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا