في 3 حزيران/يونيو، سوف تحتفل إيران بالعيد السنوي العشرين لتعيين خامنئي مرشداً [أعلى] لإيران. وبينما ينصب الاهتمام الدولي على الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 12 حزيران/يونيو، إلا أن الفائز في هذا “السباق” سوف يظل تابعاً لخامنئي في السلطة والأهمية، رغم ابتعاد الأخير عن الأضواء. وبسبب افتقاره إلى الجاذبية والمؤهلات الدينية التي كان يتمتع بها سلفه، تمكن خامنئي من الحصول على منصبه القوي من خلال السيطرة على وكالات حكومية رئيسية وبناء بيروقراطية قوية تحت توجيهه. إن فهم دور خامنئي في النظام الحكومي الإيراني المعقد وكيفية إدارته لسلطته المُساء تقديرها سيكون مهماً جداً للولايات المتحدة التي تدشّن استراتيجية جديدة للتعامل مع طهران.
نقطة بداية ضعيفة
عندما تولى القيادة في عام 1989، واجه خامنئي ثلاث عقبات خطيرة أمام شرعيته: فقد كان يفتقر إلى المؤهلات الدينية التي تطلبها الدستور الأصلي، ولم يمارس سلطة سياسية كبيرة حينما كان رئيساً [للجمهورية]، كما أن عملية الاختيار المثيرة للجدل ألقت ظلالاً من الشك على شرعية تعيينه.
ووفقاً للنسخة الأصلية من الدستور، كان لا يفترض أن يكون المرشد [الأعلى] سلطة دينية (“مجتهد”) فحسب، بل أن يكون أيضاً مصدراً يُقتدى به (“مرجع” أو “مجتهد” له أتباعه الدينيون). وخامنئي، الذي حتى لم يعترف به قط كـ”مجتهد”، ناهيك عن كونه “مرجعاً”، والذي كانت معرفته الدينية محل شك، لم يبدُ أنه ترقى إلى هذا الشرط.
وعند تعيينه من قبل مجلس الخبراء، كان خامنئي يقضي العام الثامن له في رئاسة الجمهورية الإيرانية، وهو منصب رمزي إلى حد كبير منحه القليل من الصلاحيات. كما كانت هناك شخصيات أخرى بارزة في الجمهورية الإسلامية، مثل رئيس «مجلس الشورى» أكبر هاشمي رفسنجاني، ورئيس «السلطة القضائية» عبدالكريم موسوي اردبيلي، ورئيس الوزراء مير حسين موسوي، حظت بنفس الدرجة من السلطة، إن لم يكن أكثر. وعلاوة على ذلك، لم يكن خامنئي من المقربين للقائد السابق، روح الله خميني، إلا بعد الثورة. وكان رفسنجاني من بين المعينين بمنصبه الأصلي في المجلس الثوري والذين حظوا بثقة خميني، بينما لم ينضم خامنئي إلى ذلك المجلس إلا بعد أن قرر المجلس إضافة أعضاء جدد.
ومع ذلك، فقبل عدة أشهر من وفاته، قام خميني بفصل خليفته المعين رسمياً، آية الله حسين علي منتظري، وأمر بإجراء مراجعة دستورية. وقد كان الهدف من المراجعة هو إزالة مطلب “المرجع”، الذي من شأنه أن يسمح لـ”المجتهد” أن يصبح مرشداً. ولسوء الحظ بالنسبة لخامنئي، الذي لم يكن “مرجعاً” ولا “مجتهداً”، فقد توفي خميني وعين «مجلس الخبراء» خامنئي خلفاً له قبل التصديق على الدستور المعدل، مما جعل التعيين محل شك.
خلق جيل جديد من السياسيين
أتاحت جاذبية خميني وسلطته ممارسة النفوذ دون بيروقراطية راسخة، لكن خامنئي كان على دراية بأنه جاء في ظروف مختلفة وأنه سيمارس نوعاً مختلفاً من القيادة. ونظراً لأن الدستور المنقح منح الرئيس قدراً أكبر من السلطة تزيد كثيراً عما منحه الدستور الأصلي، فقد مارس رفسنجاني مزيداً من النفوذ بدرجة أكبر من سلفه، لكن رغم ذلك حاول خامنئي توسيع سلطته على حساب رفسنجاني. ومنذ البداية، خلق بيروقراطية ضخمة لكي يحتفظ من خلالها بالسلطة.
ومن بين الجوانب الهامة للجهود التي اضطلع بها، قيامه بالسيطرة على الوكالات القائمة. وقد تغلب على موقفه الضعيف بين مسؤولي الجمهورية الإسلامية المخضرمين وداخل المؤسسة الدينية من خلال استغلال صلاته في «وزارة الاستخبارات» و«فيلق الحرس الثوري الإسلامي» (IRGC). وأثناء الحرب الإيرانية العراقية التي دامت ثماني سنوات، طور خامنئي – الذي كان يشغل آنذاك منصب الرئيس – علاقات مع هاتين المؤسستين اللتين كانتا توسعان من سلطتهما إلى ما يتجاوز النطاق الأمني، وأصبحتا تشاركان في الأنشطة الاقتصادية أيضاً. وقد أدى انتهاء الحرب وعودة القادة إلى مدنهم إلى إتاحة المجال لخامنئي لإنشاء قاعدة للسلطة خارج المؤسسات السياسية التقليدية.
وقد نجح خامنئي في تجنيد سياسيين شباب موالين له، من خلال جذب القادة العسكريين والوكلاء الاستخباراتيين إلى الساحة السياسية. ومن بين الشخصيات التي برزت من دائرة خامنئي، علي لاريجاني، رئيس «مجلس الشورى»، وسعيد جليلي، سكرتير «المجلس الأعلى للأمن القومي»، ومحمود أحمدي نجاد، الرئيس، وعزت الله ضرغامي، رئيس «هيئة الإذاعة والتليفزيون القومية»، ومحمد فوروزانديه، رئيس «مؤسسة [المعوقين] والمستضعفين». وقد حولت هذه التعيينات بصفة جوهرية مؤسسات مثل «فيلق الحرس الوطني الإسلامي» إلى تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية واستخباراتية مسؤولة أمام المرشد [الأعلى] فقط.
ومن خلال جلب جيل جديد من السياسيين والتهميش التدريجي لمسؤولي الجمهورية الإسلامية المخضرمين الذين الذين لم يكونوا على استعداد للعمل تحت قيادته، ركز خامنئي النفوذ تحت سلطته. وقد أصبح رئيس جميع الفروع الثلاثة للحكومة فضلاً عن الإعلام الرسمي للدولة، إلى جانب كونه القائد الأعلى لجميع القوات المسلحة، بما في ذلك الشرطة والجيش و«فيلق الحرس الثوري الإسلامي». وفي غضون ذلك، حول المؤسسة الدينية من مركز ديني تقليدي إلى جهاز عقائدي ووكيل للحكومة. وبصفته مرشداً [أعلى]، يسيطر [القائد] أيضاً على المؤسسات الأكثر ربحية في البلاد، مثل «ضريح الإمام الرضا» و«مؤسسة [المعوقين] والمستضعفين». ويستخدم الأموال التي تجلبها لتدعيم أجندته السياسية داخل إيران وخارجها، حيث شيد عشرات المراكز والمؤسسات والبنوك الإسلامية ذات المهام السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
منزل المرشد
بالإضافة إلى سيطرته على الوكالات الحالية، بدأ خامنئي أيضاً بناء مكتبه أو “منزله” الشخصي. وقد جرت العادة على أن يكون رئيس مكتب المرجعية الدينية إما نجل [المرشد الأعلى] أو أحد رجال الدين البارزين؛ فعلى سبيل المثال، عمل خميني من منزله، حيث كان يتلقى المعلومات ويصدر القرارات بصفة أساسية عن طريق نجله أحمد. وفي المقابل، أنشأ خامنئي بيروقراطية واسعة وحول “منزل المرشد” إلى مؤسسة شاسعة ومتطورة، تضم آلاف الموظفين الذين يعملون في إدارات مختلفة.
ونظراً لحداثة سن أبنائه وعدم رغبة علماء الدين البارزين في شغل هذا المنصب، اختار خامنئي عالم دين منخفض المستوى، محمد (غلام حسين) محمدي جولبايجاني، لقيادة مكتبه. وليس من الغريب أن لدى جولبايجاني أيضاً خلفية استخباراتية قوية. فقد كان أحد مؤسسي جهاز الاستخبارات الإيراني وشغل، من بين مناصب أخرى، منصب نائب وزير الاستخبارات للشؤون البرلمانية تحت قيادة خميني.
كما أن خامنئي تواصل أيضاً مع الأجهزة الاستخباراتية لتعيين شخصيات هامة أخرى داخل منزل المرشد. فعلى سبيل المثال، اختار أصغر مير حجازي، وهو مؤسس آخر لجهاز الاستخبارات، رئيساً لإدارة الاستخبارات لديه. وقد بدأ مير حجازي حياته المهنية كقائد في لجنة الثورة الإسلامية (مؤسسة عسكرية أقيمت بعد الثورة موازية للشرطة وتم تفكيكها لاحقاً)، وعمل نائباً في مكتب الشؤون الدولية لوزارة الاستخبارات قبل الانتقال إلى مكتب خامنئي. لقد كان تعيين جولبايجاني ومير حجازي ذو مغزى كبير، لأنه رغم كونهما عالمي دين منخفضي المستوى، إلا أن أياً منهما لم يأتي مباشرة من المدرسة الدينية، ويعد ذلك خروجاً عن ممارسات خميني.
لقد حول خامنئي منزل المرشد إلى بؤرة مركزية للسلطة. فهو ليس فقط المقر الفعلي للقوات المسلحة الإيرانية، لكنه أيضاً المقر الفعلي لوزارة الاستخبارات، ومنسق الفروع الثلاثة للحكومة، ومدير الشؤون الاقتصادية، وخصوصاً لمؤسسات المرشد الأعلى. كما أنه يشرف على «جيش القائد» («سيباه ولي أمر»)، وهي وحدة عسكرية خاصة تضم 21,000 جندي تحت قيادة «فيلق الحرس الثوري الإسلامي»، مسؤولة عن تأمين منزل المرشد.
مؤسسات السياسة الخارجية
لقد أنشأ خامنئي لجان وكيانات جديدة خاضعة لسيطرته لكي تقوم بتوجيه السياسة الخارجية الإيرانية، وتم تخفيض مسؤولية وزارة الخارجية بحيث أصبحت تركز على القضايا الإدارية في أغلب الأحيان. وقد اعتمدت هذه “المكاتب” على علاقات خامنئي العسكرية. فعلى سبيل المثال، يتألف «مركز المستشارين العسكريين» من قادة سابقين رفيعي المستوى في «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» والجيش، مثل القائد الأعلى الأسبق لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الجنرال رحيم يحيى صفوي، والقائد الأعلى الأسبق للقوات المسلحة الجنرال علي شهبازي، وقائد قوات الشرطة الأسبق هدايات لطفيان. كما أن «المجلس الأعلى للدفاع الوطني» (SCND) يلعب دوراً هاماً. يشار إلى أن سكرتير «المجلس الأعلى للدفاع الوطني» معين رسمياً من قبل الرئيس، لكن يتم اختياره في الواقع من قبل المرشد [الأعلى]. كما أن لخامنئي مستشارين آخرين محل ثقة، مثل علي أكبر ولاياتي، الذي شغل منصب وزير الشؤون الخارجية لمدة ستة عشر عاماً. لقد كان اختيار ولاياتي هو [تفضيل] خامنئي الأول لمنصب رئيس الوزراء عام 1982، لكن ولاياتي فشل في الحصول على موافقة البرلمان وأصبح بدلاً من ذلك وزيراً للخارجية [في الحكومة التي ترأسها] حسين موسوي (مرشح في انتخابات الرئاسة المقبلة).
لا يتمتع بسلطة مطلقة، لكنه الأكثر قوة
في النظام الاستبدادي الملكي التقليدي الذي كان قائماً في إيران [قبل عام 1979]، لم يكن الشاه أو الملك يتمتع بسلطة مطلقة؛ فقد أُرغم على موازنة سلطته مع هيئات اجتماعية أخرى، مثل علماء الدين وأصحاب الأراضي ورؤساء القبائل. وقد لجأ هؤلاء الحكام إلى الديوان الملكي لترسيخ تفوقهم والحفاظ عليه في جميع نواحي الحكم. وعقب ابتعاد ثورة خميني عن هذا التقليد، أعاد خامنئي إنشاء هذا الهيكل البطريركي الذي كان قائماً قبل اندلاع الثورة والمتعلق بالقيادة السياسية.
وخلال فترة العشرين عاماً منذ توليه السلطة، تمكن خامنئي من التغلب على العقبات الأولية التي واجهته وتحويل المنزل التقليدي للسلطة الدينية إلى منزل قوي للبيروقراطية. ونتيجة ذلك، لم تعد عملية صنع القرارات في إيران تعتمد على مشاركة [أجهزة مختلفة داخل الحكومة]، كما كانت في السنوات الأخيرة من حياة خميني، وخاصة فيما يتعلق بالحرب. إن منزل المرشد هو الذي يتخذ اليوم القرارات الرئيسية، سواء كانت سياسية أو عسكرية، أو إذا كانت تتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية، وخامنئي هو صانع السياسات الرئيسي. وعند اتخاذه قرارات هامة، يعتمد خامنئي على رجاله الذين اختارهم بعناية أكثر من اعتماده على أعضاء الحكومة المنتخبين. ويعترف خامنئي بأن له القول الفصل في قضايا السياسة الخارجية.[ وفي هذا الصدد]، كتب مستشاره علي أكبر ولاياتي في العام الماضي قائلاً، “سألني أوروبي مؤخراً ’من الذي يحكم إيران؟‘ الإجابة واضحة. إذا كان شيء ما يتعلق بقضايا استراتيجية وجوهرية، فوفقاً للدستور الذي تمت الموافقة عليه في استفتاء، يكون للمرشد القول الفصل”.
يتعين على الولايات المتحدة أن تضع في اعتبارها سلطة المرشد بينما تبدأ نهجاً جديداً للتعامل مع النظام الإيراني. وفي الوقت الذي يمثل فيه الرئيس محمود أحمدي نجاد الوجه العام لإيران، تكمن السلطة الحقيقية مع خامنئي، وهو مشغل ماهر من خلف الكواليس. إن إيجاد طريقة للتعاطي مباشرة مع خامنئي، مع عدم السماح له بالاختفاء وراء الرئيس الأكثر ظهوراً، سيكون تحدياً كبيراً لواشنطن في الشهور المقبلة.
مهدي خلجي هو زميل أقدم في معهد واشنطن يركز على السياسة الداخلية لإيران إلى جانب سياسات الجماعات الشيعية في الشرق الأوسط.
ينشر “الشفّاف” هذه الدراسة بالإتفاق مع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى