في العالم القديم، القديم جدا ربما، عاشت الانسانية من غير مرايا. وحدهم المحظوظون بالطبيعة، المقيمون حول بحيرة او بركة مياه، كان يتنسى لهم ان يروا وجوههم تعكسها المياه الصافية. ربما كان لبعضهم اهتمام خاص بمتابعة وجوههم عبر النظر الموسمي اليها في ايام الصفاء. واسطورة نرسيس الذي صار نرسيساً منذ ان «إكتشف» وجهه على سطح بركة مياه، كانت كالإعلان عن عصر المرآة. متى اخترعنا المرآة وصار بوسع الانسان ان يرى وجهه امام لوحة مدهونة من الخلف بطلاء سميك؟ لا نعلم على وجه الدقة. والأرجح انه عندما أتيح للانسان فرصة مراقبة وجهه باعجاب او بقرف، باطمئنان او قلق، بحكمة او جنون… صارت له حكايات وقصص تحرّكها مرآة ظاهرة او مختبئة. وأوضح هذه الحكايات، قصة «بياض الثلج واصدقاؤها الاقزام العشرة». وبدايتها مرآةٌ أسرّت الى صاحبتها الملكة الشريرة بأنه بات يوجد في المملكة من هي اجمل منها، وان «بياض الثلج»، ابنة زوجها، هي التي تنافسها. هكذا طردتها من قصر ابيها بحيلة جهنمية وكانت المغامرات.
هــل كـــان لكل هذه القصة ان تُتَخيّل لو لـــم يخترع الانســـان المــــرآة؟ شيء اساسي تغيّر في البشر منذ اختراعها، وخرج من هذا التغير الافراد الافذاذ واصحاب الحكايات الغريبة الاباطرة…
هذه المرحلة ولّت. مع الذيوع الجارف للصورة الحية اليومية، وفي حميمية غرف المنازل، انتقلت الوجوه الى عصر المرايا المتقابلة حيث تفحص الوجوه والتدقيق بها ومتابعتها. حتى الوجوه المعروضـة على الشـاشة صارت لها ذاكرة صاحبها.
أميركا، الأكثر إفراطاً بين البلدان على هذا التدليل، يعدّ مراقبوها ومحللوها عدد الشعرات البيضاء المتكاثرة في رأس رئيسها اوباما. لتقول مـاذا؟ أنه وقد وعد ناخبيه بـ«نعم… نستطيع!»، عليـه اثبات ذلك. وهو الآن في حالة من التفاعل المرهق والضاغط بين ما جعله رئيسا وما يواجهه من مهمات كل واحدة منها مستعصية. فماذا نرى على وجهه الآن؟ وماذا سنرى بعدما يتجاوز الامتحان، سلبا او إيجاباً؟ سنـرى قـصة هذا الامتحان ومآله.
بهذا المعنى الوجه صاحب ذاكرة. ذاكرة صاحبه. والأمر نفسه تلاحظه في السينما، ولدى السياسيين والزعماء، وكذلك اعلاميي المرئي. فالمهيمنون من اصحاب الوجوه، المخضرمون من نجوم الشاشة العربية مثلا، تستطيع متابعة ملامحهم منذ المراهقة، احياناً، وحتى الكهولة احيانا اخرى. ولأن السينما العربية «خصّصت» إجمالا ادواراً بعينها لنجوم بعينهم، بوسعكَ ان تتابع وجه الشرير منهم او البريء او الضحية او الرومنطيقي الخ. واذا رافقت هذه الوجوه بعينها فسوف تلاحظ ان الشرير اخذت قسمات وجهه هذا المنحى، او أن قسمات البريء اخذت تلك. وقد يكون الأشرار طيبين في حياتهم الواقعية، والابرياء العكس. لكن تاريخ قناعهم كأشرار او طيبين انبسط على وجههم، وصار من ذاكرتهم الافتراضية او الدرامية. اما الذين يحاولون تجسير الهوة بين اعمارهم الحقيقية ومتطلبات نجوميتهم الخاصة، ويلجأون الى الحقن أوالجراحات، فلا «تصغر» وجوههم، بل يبدون في عمرهم الطبيعي وقد تعاملت معه تلك العلاجات. فلو عدت الى مشاهدتهم وهم في اعمار الشباب، تبيّن لك الفرق بين كونهم شباناً اصليين يشعّون براءة، وامتلاكهم شباباً مُستعاراً ينضح «خبرة» وتكريسا. وهم بذلك اصحاب وجوه امّحت عنها الذاكرة، و»نُظّفت» من فعل الزمن؛ وفقدت مع إستعارة شيء من شبابها قدراتها التعبيرية، وصار التمثيل عندها ضربا من التمسك بعرش غير مُستحَق.
وبين الوجوه المسلوبة ايضا، وجوه الاعلاميين المرئيين وعلاقتهم بوجوههم وبالوجوه الاخرى. خلف الكواليس لهم وجه، وامام الشاشة وجه آخر. في البداية ترى الفرق بين المكانَين، خارج الاستديو وداخله. لكن مع الوقت تلتبس الامور، فتراهم بوجوه الاستديو وهم خارجه. «إحترق هذا الوجه او ذاك»، يرددون بعدما يملّون… احترقت الوجوه لكثرة ظهورها على الشاشة. ومع ذلك، فان لوجوه الاعلاميين ايضا ذاكرة- ذاكرة فلسفة نجاحهم الخاص، لحظة الفوز التي انطلقوا منها ليخترقوا الشاشة بوجوههم.
الفئة الثالثة من الوجوه المصادَرة لا تختلف عن الثانية كثيرا، الا بنسبية قدَمِها. وجوه القادة والسياسيين والزعماء تحمل ايضا فلسفة نجاح اصحابها واختراقهم السوق السياسي. فالآتي بالقوة دام غروره بمعجزته. والآتي بالحسابات وقف وجهه عند الشقاوة والتذاكي. ومن لم يفعل غير الخطب كان وجهه جهورا قويا الخ. لذلك تختلف وجوه القادة والسياسيين الذين، بالضرورة، «صعدوا»، لكنها تجتمع على إلغاء ذاكرتها، ما عدا ذاكرة «الانتصارات» المتوالية و«الانجازات»: وبما ان هذه الأنظمة نادرا ما تتبدّل في ربوعنا، فوجوه اصحابها تختلف عن وجوه سياسيين ورؤساء يأتون ويرحلون بإرادة الناخبين. وجوه سياسيينا وزعمائنا قناعها سميك، تجمّدت ملامحها. فيما سياسيو التداول السياسي، وجوههم متحرّكة قلقة مثقلة بإثبات الجدارة.
وجوه سياسية اخرى تجتمع مع الاخيرة. ولكن من غير عناء السعي ولحظات النيل. انها وجوه الورَثة نيابة عن الآباء الراحلين، وبعد «مشوار» قضوه في الدلال.
ماذا يعني كل هذا الكلام للمواطن الطبيعي الذي ما زال ممسكاً بوجهه، ولم تسْلبه منه الشاشة؟ وهو في فعل التماهي مع كل هؤلاء الحاضرين في بيته طوال النهار من ساسة وفنانين واعلاميين، ونجوم واقل نجومية؟ ماذا يفعل غير مراقبة المجايلين له وغير المجايلين ليلاحظ فعل النجاح على وجوههم ومضمون ذاكرتهم، او اختصار قصتها؟ ليس بوسعه الافلات من المقارنة بين وجهه وبين وجوه محبوبة، او مكروهة، من بين هذه الوجوه الحاضرة بين جدرانه الاربعة. فتحصل كيمياء التشبّه. ودائرة الكيمياء هذه لا تستكمل من غير ان يأخذ اصحاب الوجوه المهيمنة بدورهم شيئا من وجه المواطن الطبيعي. والا فُقدت إلفة الجدران. انها دائرة مغلقة ومكثفة بين الحاكمين والمحكومين. فهم، مع كل خلافاتهم واختلافاتهم، يشبهون بعضهم. فـ «كما تكونون يولّى عليكم»، وبالتالي: «كما يولّى عليكم تكونون».
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة