انتابني شعور عميق بالحُزن في الأسبوع الماضي لدى سماع خبر وفاة الطفل محمد علاء حُسني مُبارك. وصاحب هذا الحزن شعور إنساني بالتوحد مع والديه وجدته وجده، والذين عرفتهم جميعاً، بدرجات مُختلفة. كما أن الطفل الفقيد كان زميلاً وصديقاً، هو وشقيقه عُمر لحفيديّ لارا وسيف الله نبيل إبراهيم في المدرسة الإنجليزية الحديثة إلى عام مضى. وكثيراً ما قابلت الطفلين ووالديهما في حفلات تلك المدرسة.
وقد تزامن وصول خبر وفاة الطفل مع اجتماع لرؤساء المنظمات المصرية في أمريكا الشمالية، للتخطيط لمُظاهرة احتجاجية، أمام البيت الأبيض في واشنطن، ضد الرئيس محمد حُسني مُبارك، لدى لقائه بالرئيس باراك أوباما، المُقرر له 26 مايو 2009. وكانت تلك المنظمات قد اجتمعت في 28 فبراير، وصاغت خمسة مطالب، أرسلتها للرئيس مُبارك، لكي يبدأ في تنفيذها مُنفردة أو مُجتمعة، وإلا فإنهم سيتظاهرون ضده. ولم تخرج تلك المطالب عن تلك التي تُجمع عليها الحركة الوطنية المصرية، منذ عدة سنوات. وفي مُقدمتها إلغاء قوانين الطوارئ، وحُكم القانون واستعادة القضاء لاستقلاله، والإفراج عن المُعتقلين والسُجناء السياسيين، والكف عن مُطاردة المُعارضين من أصحاب الرأي والضمير، وإقرار مشروع القانون الموحد لبناء دور العبادة، والذي يُعامل المسيحيين والبهائيين والشيعة أسوة باخوانهم من المُسلمين. وحيث أن النظام لم يكن قد تحرّك لتلبية أي من هذه المطالب، رغم مرور ثلاثة شهور، فقد كان رؤساء المًنظمات المصرية في أمريكا، في حالة قصوى من التعبئة والتحفز للمُظاهرة الاحتجاجية الموعودة. وبدأ كل منهم يستعرض تفصيلات الحشود والتجمعات التي ستسهم من جانب مُنظمته في تلك المُظاهرة، التي حصلوا على تصريح بها من شرطة العاصمة واشنطن، لعدة ساعات من يوم 26/5، والذي حدد مكان التظاهر، ضوابطه، بحيث لا تعوق المُظاهرة سير الحياة الطبيعية لبقية المواطنين الأمريكيين في المدينة.
ولكن لدى إعلان خبر الوفاة، أصيب المجتمعون بالوجوم. بعد لحظات اقترح أحدنا إرسال برقية عزاء ومواساة لأسرة الرئيس، ثم تأجيل الاستمرار في مُناقشة المُظاهرة ليوم أو يومين، لمعرفة ما إذا كان الرئيس مُبارك سيأتي أم سيؤجل الزيارة لواشنطن، مُكتفياً بلقاء الرئيس أوباما في القاهرة، يوم 4 يونيه 2009.
وبصرف النظر عما سيُقرره رؤساء مُنظمات المصريين ـ الأمريكيين، بالتظاهر من عدمه، إلا أنني أكبرت المظهر الحضاري النبيل لهم تجاه رئيس وطنهم الأم وأسرته، رغم غضبهم الشديد من مُعظم سياساته ومُمارسات أجهزته. وقد استوقفني ضابط الشرطة المصري السابق عُمر عفيفي والمُحامي اللاحق، واللاجئ السياسي الحالي، وسألني كيف تجاوزت أو نسيت ما فعله نظام الرئيس مُبارك معي في تلك اللحظات؟
ولم أجد رداً لسؤاله غير استحضار أحد مزامير النبي داوود، التي يقول فيها:
نعم، هناك وقت لكل شيء.
هناك وقت للأحزان، وهناك وقت للأفراح.
هناك وقت للغضب، وهناك وقت للصفح.
هناك وقت للحرب، وهناك وقت للسلام.
هناك وقت للحب، وهناك وقت للبغض.
وهكذا فهناك الوقت لكل شيء، والأزمان دائماً تتغير!.
إن هذا المزمار الجميل من مزامير النبي داوود، هو تعبير مُفصل عن القول العربي المأثور، “إن دوام الحال من المُحال”. أو ما يُقال لمن يتمسكون بالسُلطة، “لو دامت لغيرك، ما أتت لك”، فهي كما يقول الكتاب الحكيم، “أنها دول نتداولها بين الناس”.
ولا أظن أن تجاوزي شعورياً في لحظة وفاة الطفل عما فعله الجد بي، من سجن ومُلاحقة وتشريد، كان شيئاً فردياً. بل إن التجاوب الآني لرؤساء المُنظمات المصرية ـ الأمريكية بتأجيل مُناقشة المُظاهرة الاحتجاجية، يعني أن هناك تقليداً عميقاً غرسه فينا أجدادنا المصريون، يجعل للموت هيبة وخشوعاً. وفي ذلك لا فرق بين مُسلم وقبطي أو شيعي وبهّائي. كذلك تختفي أو تتلاشى في لحظات الموت أي مشاعر بالشماتة أو التشفي، وقد عمّق الدين فينا مشاعر الخشوع تلك، بتذكيرنا أن الموت علينا حق.
وإذا كان ذلك هو حال المصريين وثقافتهم الجنائزية منذ الفراعنة، وعمّقتها فيهم المسيحية، ثم الإسلام، نحو الموت عموماً، فإن الأمر يكتسب معنى أكبر وأعمق حينما يأتي هذا الموت قبل “الأوان”. وربما نتساءل هل للموت “أوان”؟، ألم يذكر لنا كتابنا الحكيم أن الموت هو أحد أمور الغيب التي لا يعلم أوانها أو مكانها إلا رب العزة والإكرام؟. نعم، ولكن درجنا جميعاً على توقع أن البشر يولدون، ويشبّون، أطفالاً، ثم صبية وبناتاً، ثم رجالاً ونساءاً، ويتزاوجون، ويُنجبون، ويكبرون، ثم في نهاية هذه الدورة ينتقلون إلى جوار ربهم.
فإذا ما أصابت المنيّة إنساناً في طفولته أو شبابه، أو حتى في مُقتبل رجولته، أي قبل اكتمال دورة حياته، فإننا نقول أنه “توفى قبل الأوان”. وتكون اللوعة عليه في هذه الحالة أكبر، والحزن عليه أعمق، والتعاطف مع أهله وأقربائه وأصدقائه أشمل. وهذا هو الحال مع الصبي محمد علا حُسني مُبارك، الذي لم يكن قد تجاوز الثالثة عشر من عُمره، وكان مُعافياً وسيماً، مليئاً بالنشاط والحيوية وحُب الحياة.
لقد تذكرت أنني تحدثت عن حفيديّ الرئيس ـ محمد وعُمر علاء مُبارك في مُناسبتين سابقتين في مقالين لي في هذه الصحيفة. كانت الأولى بعنوان “حديث الأحفاد على شواطئ البسفور” (11/8/2007)، والثانية في مُقابلة مع الصحفية النابهة أميرة عبد الرحمن (6/5/2009)، سألتني فيها عن الرسالة التي أرغب في توجيهها للرئيس مُبارك في عيد ميلاده الحادي والثمانين. وكانت الرسالة هي “تمنياتي للرئيس مُبارك بطول البقاء، ولكن خارج السُلطة، حتى يستمتع بأحفاده”. فليعوضه الله عن فقد أكبر هؤلاء الأحفاد والذي كان الأكثر ارتباطاً به، وليجد الرئيس في الاستمتاع بحفيده عُمر تعويضاً ولو جزئياً عن رحيل شقيقه محمد علاء مُبارك قبل الأوان.
وأقول لحفيديّ لارا وسيف، عزاء من القلب لفقد صديقهما محمد. وليُدركا أن هناك “جنّة” يدّخرها الله عز وجل لمن ينتقلون إلى جواره وهم في طفولتهم وصباهم، وهي “جنّة الأعراف”. فليدخلها صديقهما محمد، آمناً، بنفس مُطمئنة، وليلهمهما مع شقيقه عُمر، ووالديه وجديه، الصبر والسلوان.
آمين
المصري اليوم