“الشفّاف” – بيروت
الاتهامات التي وجهها القضاء المصري ضد حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصرالله بالتخطيط لـ”أعمال عدائية” في مصر تفيد أن الأزمة التي بدأت سياسية تحولت إلى أمنية. وهو مؤشر إضافي ومتقدم إلى عمق الأزمة المفتوحة بين الجانبين والتي بدأت إبان مغامرة حزب الله التموزية في العام 2006 حين وجهت القاهرة انتقادات إلى حزب الله متهمة إياه بالتهور ومحملة إياه بشكل غير مباشر مسؤولية اندلاع الحرب. وتم احتواء الموضوع وجرت لاحقا اتصالات بين السفارة المصرية في بيروت ومسؤولين في حزب الله، إلى أن وقعت “حرب غزة” نهاية العام الماضي وانفجرت العلاقة بين مصر وحزب الله على أثر هجوم غير مسبوق للسيد حسن نصرالله على القيادة المصرية التي اتهمها بـ”التواطؤ مع العدو”، لأنها لم تفتح معبر رفح بشروط حماس: “إن لم تفتحوا معبر رفح وتنجدوا الفلسطينيين فأنتم شركاء في الجريمة والقتل والحصار”. وطالب الشعب المصري بفتح “المعبر بصدوركم”.
فما أراده السيد نصرالله في هذا المجال هو فتح المعبر بقرار مصري منفرد والتعامل مع حماس باعتبارها حكومة دولة ذات سيادة، والتسليم لها بحق الإمرة والجباية عند المعبر، وبحقها في طرد المراقبين الأوروبيين والشرطة الفلسطينية التابعة لرئاسة السلطة متى شاءت، علاوة على قيام الدولة المصرية بتسهيل مرور المال والسلاح والبضائع المختلفة من وإلى “دولة غزة” عبر معبر رفح ومجموعة الانفاق… فإن لم تفعل القيادة المصرية ذلك كله أصبحت خائنة وعميلة ومتواطئة.
بينما في الحقيقة أن معبر رفح يشتغل وفقا لاتفاقية دولية ابرمت عام 2005 بين أطراف أربعة، هي الرئاسة الفلسطينية ومصر والاتحاد الأوروبي وإسرائيل. وتنص الاتفاقية على إشراف الاتحاد الأوروبي على المعبر، بمشاركة السلطة الفلسطينية التابعة لرئاسة محمود عباس والتي تمتلك حق الجباية (الجمرك)، مع الإقرار بسيادة الدولة المصرية على الجانب المصري من المعبر، وبسيادة إسرائيل على الجانب الفلسطيني منه، باعتبارها أي إسرائيل، دولة احتلال. إذ ليس للسلطة الوطنية الفلسطينية أي سيادة حتى الآن على الحدود البرية والبحرية والجوية. أي إخلال بشروط اشتغال المعبر، على النحو المذكور، تعطل اشتغاله تلقائيا.
وعلى هذا الأساس أصبح المعبر معطلا رسميا منذ استولت عليه حماس بالقوة في أيار 2007 وطردت الشرطة الفلسطينية. وعلى هذا أيضا، فإن فتح المعبر، بقرار مصري أحادي، يعتبر اعترافا بإمارة حماس في القطاع، وقبولا مصريا بولاية إيران على مساحة فلسطينية هي في صلب الأمن الوطني المصري، ومع ذلك سهلت مصر، قبل وأثناء معركة غزة، عبور المساعدات الانسانية من وإلى غزة مرات عديدة.
ولم يكتف السيد نصرالله إبان “حرب غزة” باتهام مصر بالتواطؤ مع إسرائيل إنما دعا الجيش المصري إلى التمرد على السلطة السياسية (29 كانون الأول 2008)، مخاطبا “ضباط وجنود القوات المسلحة المصرية الذين نعرف أنهم ما زالوا على أصالتهم العربية وعداوتهم للصهاينة رغم مرور عشرات السنين على اتفاقية كامب ديفيد. وأنا لا أدعو لانقلاب في مصر، لكنني مع أن يأتي الضباط إلى القيادة المصرية ويقولوا لها أن شرف بزاتنا العسكرية والنجوم التي على أكتافنا تأبى أن نكون حرسا لحدود إسرائيل فيما يقتل الفلسطينيون في غزة”…
لقد حاول حزب الله عبر هذه المواقف التحريضية التغطية على عدم دخول إيران في المواجهة العسكرية لمؤازرة حماس باستخدام صواريخها العابرة للقارات وعلى عدم استعماله منظومته الصاروخية التي تفوق الأربعين ألف صاروخا، وما نفع هذه الصواريخ إذا لم يتم استعمالها في مثل هذه الحشرة، حاول الحزب فتح معركة موازية وشن حملة على النظام العربي لإسقاط الأنظمة العربية. ويدرج في هذا الإطار تحريض السيد نصرالله على إسقاط النظام المصري، وقد خاطب الشارع المصري “حسينيا” و”كربلائيا” أي من منطلق مذهبي.
ولكن حملته فشلت في مهدها لأنها أدت إلى تضامن الشارع المصري مع القيادة المصرية، خصوصا أن هذا الشارع المتعاطف مع القضية الفلسطينية يدرك أن البعد الأساسي للحرب الغزاوية إيراني وغير عربي، مما أدى إلى تحريك العامل القومي والوطني وتصليب الموقف العربي في مواجهة المشروع الإيراني. إن الرهان على أن تؤدي الحرب على غزة إلى تغييرات في الوضع العربي هو وهم في غير مكانه. فالنظام العربي أقوى مما يظن البعض، على رغم ما تعرض ويتعرض له من ضغوط وضربات. فلا “الجبهات” ستفتح ولا الأنظمة ستسقط. وقد ضاعفت حملة نصرالله على الأنظمة العربية المناخ المناهض لحزب الله الذي بدأ بالتنامي منذ أحداث السابع من أيار العام الفائت.
لا شك أن الحدة في مواقف حزب الله عائدة إلى أن حرب غزة، بنظر الحزب، مصيرية، ليس لمستقبل حماس فقط، بل ولمستقبل مجمل المقاومات في المنطقة، وبالتالي هي معركة ذات أثر مصيري على النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، القائم على دعم تلك المقاومات وتعميم نهجها. لأن تراجع التأثير الإيراني المباشر على الموضوع الفلسطيني، من خلال حماس، لا يعوض عنه النفوذ الإيراني القائم في العراق ولبنان وبعض دول الخليج. ذلك أن فلسطين تمثل “المدخل الايديولوجي الضروري لفكرة المقاومة المسلحة، بحسب الأطروحة الإيرانية.
مصر التي اعتبرت موقف نصرالله تدخلا فاضحا في شؤونها الداخلية وفيه تحريض على الثورة والانقلاب ضد النظام، جاء ردها قاسيا عبر مصدر مسؤول: “نصرالله الذي لم يقدم إلى غزة سوى خطابات رنانة يطلق من مخبئه سهاما مسمومة في اتجاه مصر لا تصدر إلا عن حاقد أو مأجور… ومصر لا تلتفت أبدا إلى عداوات الحاقدين الجهلة الذين ورطوا بلادهم في حروب خاسرة ثم ندموا بعد ذلك”… وأعرب المصدر عن أسفه لأن يعلن أمين عام حزب الله صراحة عداءه لمصر بشكل فج يكرس عمالته الواضحة للدولة الإسلامية الثورية التي تسعى إلى التأثير على بلده من خلاله…
هذا التوتر ترجم على أرض بيروت تظاهرات قام بها أنصار حزب الله دعما لغزة وتنديدا بمصر، وصلت إلى السفارة المصرية التي لجأت إلى إجراءات أمنية غير مسبوقة طلبا للحماية وسط محيط غير آمن… وبعد انتهاء الحرب واستئناف الحوار الفلسطيني في القاهرة وظهور مناخ مصالحات عربية، هدأت الأجواء الإعلامية بين مصر وحزب الله إلا أن القاهرة لم تسقط من حساباتها تهديدات السيد حسن نصرالله الذي قال في لهجة تحذيرية: “أقول لكم صراحة، نحن لم نخاصم ولم نعاد من تواطأ علينا من العرب في حرب تموز ومن اتهمنا وأساء إلينا وشارك في دمائنا… ولكننا سنخاصم ونعادي من يتواطأ على غزة وأهلها ومقاومتها وعلى من يشارك في سفك دمائها ويسد عليها أبواب الحياة والخلاص”.
انطلاقا مما تقدم، الاتهامات التي وجهها القضاء المصري استنادا إلى تحريات مباحث أمن الدولة المصرية إلى أمين عام حزب الله حسن نصرالله بتكليف مسؤول وحدة عمليات دول الطوق بالحزب، سامي شهاب، للإعداد لتنفيذ عمليات عدائية في الأراضي المصرية لم تأت من فراغ، ولا شيء يدفع إلى الاعتقاد أنها مفبركة حتى إثبات العكس. وقد جاء في بيان الاتهام: إن التحريات أشارت إلى أن ذلك يتم بهدف الإخلال بالأمن العام في البلاد وإعداد برنامج حركي وتنظيمي لإعداد عناصر التنظيم بالداخل لتنفيذ ما يكلفون به من مهام تنظيمية على النحو التالي:
– تلقين العناصر التي يتم استقطابها للإجراءات الأمنية خلال لقاءاتهم واتصالاتهم.
– تأسيس مشروعات تجارية بأسماء العناصر المستقطبة لاتخاذها ساترا لتنفيذ المهام المكلفين بها.
– رفع القرى والمدن الواقعة على الحدود المصرية الفلسطينية (على خرائط مساحية) وإرسال النتائج إلى كوادر الحزب في لبنان.
– استئجار بعض العقارات المطلة على المجرى الملاحي لقناة السويس لرصد السفن التي تعبر القناة.
-رصد المنشآت والقرى السياحية في محافظتي شمال وجنوب سيناء.
– توفير كميات من العبوات وإعدادها.
-ارتباط قيادات الحزب ببعض العناصر الجنائية لتزوير جوازات السفر وبطاقات تحقيق الشخصية لعناصر التنظيم تمهيدا لتسفيرهم لتلقي التدريبات العسكرية في الخارج وإعادة دفعهم للبلاد للقيام ببعض العمليات العدائية ولاستخدامها في استئجار الشقق والسيارات اللازمة لتحرك عناصر التنظيم.
-استئجار شقق مفروشة في بعض الأحياء الراقية واستخدامها للقاء عناصر حزب الله وعقد الدورات التدريبية لبعض عناصر التنظيم الموجودين في البلاد.
– نشر الفكر الشيعي داخل البلاد.
وأشار البيان الاتهامي إلى توقيف 49 متهما من جنسيات لبنانية وفلسطينية ومصرية على صلة بحزب الله، وخصوصا في مجال تهريب السلاح (من السودان عبر مصر) إلى حماس في غزة.
ما حصل هو دليل على أن حزب الله لم يتجاوز مرحلة الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها التي أظهرت وجود تناقضا فعليا ليس بين “مقاومين” و”مستسلمين”، بل بين مقاومين تؤدي مقاوماتهم إلى مزيد من التفتيت وضياع الأرض، وبين اعتدال وعقلانية يؤديان إلى “تحرير” فعلي. وقد رمت خطة قوى الممانعة (إيران، سوريا، قطر) التي جرى تظهيرها في قمة الدوحة التشاورية، بحضور الرئيس الإيراني وقيادة “حماس”، إلى معالجة قضية غزة في معزل من مشروع الدولة الفلسطينية، وإلى تسييد إيران على القرار العربي بإسقاط الحكومة المصرية “تحت ضغط الشارع العربي والإسلامي”، كما رشح من مداخلة خالد مشعل في الجلسة المغلقة لقمة الدوحة (الأهرام المصرية 20-1-2009) وكما تبين أيضا من خلال الشعارات المعلنة لتلك القمة: “إسقاط مبادرة السلام العربية”، “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، “حماس بدلا من منظمة التحرير”، “طهران بدلا من القاهرة والرياض”… هذا بالإضافة إلى تخوين الحكومات المصرية والسعودية والفلسطينية واتهامها بـ”التواطؤ مع العدو”. غير أن استقرار الدول القائمة بات يمثل مصلحة عليا للناس لا تعلو عليها أية مصلحة أخرى حتى لو كانت “إلهية”.
لا يمكن إغفال أن التوتر المتواصل بين مصر وحزب الله يعكس أزمة مستحكمة بين مصر وإيران (خصوصا وأن هناك مصادر مصرية تتحدث عن دور إيراني في القضية “من خلال تورط اثنين من الموظفين في إحدى القنوات الفضائية الإيرانية في القاهرة في هذا المخطط الإرهابي) التي تعاظم نفوذها وتأثيرها في غزة ولدى حماس وعلى الحوار الفلسطيني وتلعب في مجال حساس يتعلق بمصر وأمنها القومي…
إن الربط بين مناخ المصالحات العربية وأجواء الانفتاح الإيجابية وما سمي “الهجوم المصري على حزب الله” ليس في مكانه، لأن هذا “الهجوم” ليس من خلفية سياسية، وقد رد النظام المصري على افتراءات حزب الله في حينها وبالطريقة المناسبة، ولكن ما هو حاصل اليوم جاء نتيجة الكشف عن شبكة تستهدف الأمن القومي المصري.
ومن ثم لا علاقة بين هذه الاتهامات وبين الانتخابات النيابية في لبنان بما “يهدف إلى تشويه وضرب صورة الحزب في هذه الانتخابات والتأثير على مجرياتها”، لأن صورة الحزب مشوهة أصلا لدى شريحة واسعة من اللبنانيين باتت متيقنة من خطورة بقاء سلاح حزب الله، خصوصا بعد استخدام هذا الحزب لسلاحه في الداخل، وجره الويلات على لبنان والتي كان أخرها في حرب تموز 2006. إضافة إلى أن لبنان لم يشهد في تاريخه انقساما سياسيا بوضوح الانقسام الراهن وحدته، كما لم تشهد أي انتخابات نيابية تموضعا واصطفافا وطغيانا للمعيار السياسي-الوطني على المعيار المحلي مثل الانتخابات التي نحن بصددها. وهذا الانقسام الحاد هو بين مشروعين: دولة ودويلة، وثقافتين: ثقافة سلام وحياة وثقافة حرب وموت.
ولا يجدر أيضا الربط بين “هجوم” القاهرة على حزب الله وانفتاح لندن على سبيل المثال على الحزب، لأن انفتاح الأخيرة جاء على قاعدة التمييز الواضح والصريح بين الجناح العسكري للحزب والجناح السياسي. ولكن إذا سلمنا جدلا أن التمييز أمرا ممكنا وقائما، علما أن هذا التمييز في غير محله، فإن الجناح العسكري نفسه هو موضوع المشكلة اليوم في مصر.
من الثابت أن مشروع حزب الله هو الاستيلاء بشكل مباشر وغير مباشر على كامل السلطة في لبنان وتدمير حيوية مجتمعه بغية إلحاقه بمحور غزة-دمشق-طهران. ولكن الحزب بات يتجنب، في حال حاز على الغالبية النيابية، إستنساخ تجربة غزة في لبنان لأن بيئته الشيعية، وليس إجماع الشعب اللبناني، لا تتقبل أي مغامرة جديدة يمكن أن يقدم عليها، إنما يريد بأي ثمن أن “يستمر في حماية المقاومة بالدولة”، عبر إشراك الخصم في الحكومة طالما أن ميزان القوى العسكري-الأمني خارج إطار المؤسسات الدولتية يميل بشكل واضح لصالحه ويسمح له بالتالي بالتحكم باللعبة السياسية.
إن دل الاتهام المصري الموجه ضد حزب الله على شيء فعلى أن فوز حزب الله بالغالبية النيابية لن تقتصر تداعياته على حدوث حرب مدمرة على لبنان وإنهيار إقتصادي ومالي واجتماعي، إنما ستمتد إلى عزله عن محيطه العربي انطلاقا من الخطة الإيرانية الهادفة إلى دفع الواقع العربي نحو الانهيار، مما يحتم فوز 14 آذار في الانتخابات النيابية المقبلة والحؤول دون تحويل الدولة في لبنان إلى دويلة حزب الله بالكامل، وساحة لتصفية الحسابات الإيرانية-السورية مع عرب الاعتدال من أجل ضرب الخيار أو “المشروع العربي” القائم على التمسك بمشروع السلام، مع مواصلة الجهد لسد المنافذ أمام التدخل الإيراني في المنطقة العربية…
charlesjabbour@hotmail.com
الأزمݙ بيݶ مصݡ وحزࡘ اللݷ بدأ࡚ سياسيݙ وتحولݚ أمنيݙ
I hope all the aounists read this so they realize the mistake they did with their alliance with nasrallah and the cover they provided him with.so sad. d