أحب الافلام العربية القديمة، بالابيض والاسود. حتى لو كانت بحبكة واخراج ضعيفَين. ما يهمّ فيها، ما يسحبك نحو عالم الاحلام، هو تلك المساحة الرحبة الممنوحة لشخصياتها ولأمكنة عيشهم. فقيرة كانت ام غنية، تراها تنعم ببيوت ذات حيطان ونوافذ مرتفعة. واحيانا شُرفات. والمنازل بدواخلها فيها الغرف الشاسعة، المنوّرة، وكنباتها غير ملتصقة ببعضها. وحين تخرج الكاميرا الى الشارع، يزداد عندك الشعور بالرحابة: سيارات نادرة واشجار وجنائن صغيرة او كبيرة، ورجال ونساء لا يعرفون مدى نسبية همومهم. راحة الجسد في فضائه الطبيعي… «حرية الجسد» أكاد اقول. تستشعرها في انفلاش الاجسام عبر مشاهد الرقص، الشرقي والغربي.
أَحبّ ما في هذه الافلام انها تبعدك عن تعب القاهرة اليوم. تعب من نوع خاص. ذاك النابع من تناقص الفضاء، وضيق المساحة المُتاحة للبشر… بل ازدياد هذا الضيق بدأب. وذلك بالرغم من توسّع القاهرة، وتمدّدها نحو الصحراء المحيطة بها. القاهرة تضيق بأهلها الآن بأوسع ما يمكن ان يكون عليه الضيق. البيوت والعمارات والسيارات ابتلعت اشجارها وخضرتها ومساحاتها. وتكفّلت بالباقي العشوائيات الضاغطة على اطرافها. وغرف البيوت ضاقت بدورها. والتصقت الكنبات ببعضها، وتكورت الاجساد على نفسها، كأنها تستأذن وجودها لشدة ما احتكّت بأكتاف اخرى. لشدّة الزحمة المعاشة او المتخيّلة. تقلصت مساحات البيوت ونقص الهواء الذي يتنشّقه قاطنوها (آخر نكتة: الحريق الذي شبّ في حي مجلس الشورى؛ أحال احد المسؤولين مسؤولية التباطؤ في إخماده الى «تزاحم المواطنين في مكان الحريق». فكان رد احد المواطنين بأن «الحكومة لم تخطرنا بإشعال الحريق قبلها بيومين علشان (كي) نقعد في بيوتنا!»).
كان عهد وفرة المساحة اذاً. وصار عهد ضيق المساحة الناجم بدوره عن التكاثر المتعاظم للمصريين، الذين سيصبحون 90 مليوناً بعد ثلاث سنوات… جلهم في القاهرة طبعا.
ومشكلة غالبيتهم العظمى لن تكون في الحلم برحابة امكنتهم، بل في تأمين سقف واربعة حيطان. وتكاثر الطلب على هذا القليل المتوفر الناجم عن التكاثر السكاني يقلل من حظ الجميع في الأفق والهواء. كلٌ بحسب طبقته: المتمكّنون من خيرات هذه الدنيا والاقل تمكناً. والمساحة من الخيرات المقتسمة. وهم في خضم هذا الاقتسام، يبدون غير منتبهين الى أفقه «الواعد»: فالمساحة بالأصل مهدّدة بالتقلص الطبيعي بسبب الفيضانات المتوقعة على اراض في ضفاف الدلتا بعد اقل من عشرة اعوام. وهي فيضانات ناجمة عن ارتفاع مستوى منسوب البحار. واقل نتائجها هجرة ابناء الدلتا الى القاهرة بحثا عما يستر العيش… وتكدسهم الاضافي في العشوائيات.
وعندما تسمع اليوم اغنية المطرب الشعبي احمد عدوية «زحمة يا دنيا زحمة!»، والتي ذاعت في السبعينات من القرن الماضي، يأخذك السؤال: يا ترى هل كان يتصور مؤلف الاغنية زحمة أشدّ؟ كتلك التي نكادبها يوميا. والسؤال الذي يليه: هل نتصور نحن الزحمة بعد عشر سنوات؟ كيف يمكن ان تكون اشدّ؟ هل نصل الى اليوم الذي لا تتجمد فيه السيارات فحسب على ارضها بل المشاة، أيضا، يتسمّرون، ويصبرون على دورهم في المشي على الرصيف؟
هناك علاقة طردية بين التكاثر السكاني وضيق المساحات المتاحة لنا. كما ان هناك علاقة طردية بين التكاثر السكاني وتناقص خيرات الارض واختلال توازنها الطبيعي السابق. والحل؟ ماذا يفعل الناس امام تناقص كهذا؟ الحل بالهجرة. الداخلية اولا. الانتقال من ضفاف النيل الى الصحراء الواسعة. حيث بُنيت مجمّعات سكنية ضخمة، بل مدن بكاملها، ولكل الطقبات. للأغنى طبعا المساحات الوافرة من الخضار المزروع والمروي بجهود فائقة. والبيوت المستقلة (فيلل) والمحاطة بالجنائن والاشجار، وللأفقر أيضاً، حيث البنايات الشاهقة المتلاصقة ذات النوافد النادرة والصغيرة؛ ومساحة في الداخل لا تتجاوز حدود غرفة من الغرف الثرية. وشوارع وأعمدة انارة معطلة احياناً، ومن بعيد كتلة اسمنتية ضخمة كأنها مهجورة. اما الهجرة الأخرى، الخارجية، فمأسوية. انها تلك الهجرة المتوحشة التي يغامر بها شباب يائس من الريف عبر مركب «غير شرعي». ومصائب الغرق او العودة بالقوة او الضياع… بعد بيع البيت والذهب لتأمين «تكاليف» هذه الهجرة.
وفيما نحن في هذا الوادي، يأتيك من هو في واد آخر، ويصرخ «مؤامرة!». مؤامرة «من الاقباط الذين يقدرون بحوالى 10 في المئة من السكان يشجعون تحديد النسل لإحداث توازن مع المسلمين الذين تقدر نسبتهم بـ90 في المئة…». وما واجهة المؤامرة هذه؟ من هي صاحبتها؟ وزيرة الاسرة والسكان الجديدة، مشيرة الخطاب، التي تبنّت اثر تعيينها خطة تهدف الى تحديد النسل بواقع طفلين لكل اسرة. وقد وافقت عليها المؤسستان الدينيتان الرسميتان، الازهر والكنيسة. لكن صرخة «المؤامرة» المدوية اتت من «جبهة علماء الازهر» لأنها وجدت ان الوزيرة، بخطتها هذه، «خالفت مبادىء الاسلام… (و) أحكام الشريعة الاسلامية». وكما يحصل في احوال مماثلة، صوت «جبهة العلماء» اقوى، اكثر التصاقاً بالتيار الديني المتعصب والجماهيري، والذي يستسهل الاثارة الدينية، المرفقة بعداء للسلطة الحاكمة، والوزيرة ناطقة باسم السلطة. وبالتالي ليس من المنتظر ان تنجح الخطة اذا كان النقاش مع رماة اتهام «المؤامرة» اذا كان الرد على مزايدتهم الدينية بالمزيد من المزايدة الدينية. والا الانكفاء والاكتفاء ببعض الحملات الاعلامية، الشبيهة بحملة «انفلونزا الطيور»… المعروفة النتائج. موضوع الانفجار السكاني المصري القادم وعجز الدولة والمجتمع عن اللحاق بالكوارث الناجمة عنه، وتهديده للاوكسيجين الذي نتنشّقه… موضوع يستأهل اكثر من «اللمْلمة» على استحياء…
dalal.elbizri@gmail.com
• كاتبة لبنانية- القاهرة
القاهرة وفضاءاتها المتناقصة!
ياسيدتى المصيبه الحقيقية تكمن فى هؤلاء المتأسلمين الذين يكرهون الحياة والتطور . والذين يريدون العوده بمصر الحبيبة الى زمن الجاهلية معتمديين على غوغائية شوارعيزمية هى الناتج الطبيعى لفوضى التناسل الذى يزكيه قادة الانغلاق الدينى الذين لا يكفون عن اطلاق الفتاوى الظلامية ويرجعون فشلهم الى حبك المؤامرات سواء من جانب المسيحيين او الخارج ، فالمهم لديهم هو ابراء الذات عمايرتكبون من جرائم فى حق مصر ، والتى قال عنها المتأسلم الاكبر “طظ فى مصر واهل مصر “؟فليحفظك الله من شرهم يا ام الدنيا
القاهرة وفضاءاتها المتناقصة!
انا اول مرة اشارك فى الموقع بس انا يشرفنى ان تسمحو لى بالمشاركة وانا طالب جامعى ادرس فى معهد السياحة قسم سياحة
انابجداحترم الرأى دةلان بيعبر عن نفس راى
القاهرة وفضاءاتها المتناقصة!Gouverner c’est prévoir كلمة منسوبة للسياسي الفرنسي الكبير كليمانصو أترجمها بتصرف بقولي: (على من يحكم أن يستشف المستقبل)… وعليه فإن الدكتاتور والضباط الأشرار هم أول من أخطأ في حق أرض الكنانة لانعدام رؤيتهم للانفجار السكاني الفظيع الذي تسببوا فيه وأوصلنا للخراب والافلاس.. أدت السياسة السخيفة المسماة اشتراكية إلى خلق جيل من المصريين غير مسئول يطلب كل شيء من الحكومة..من تعليم وعلاج ووظائف إلى الخبز والزيت وحتى الشاي لزوم المزاج ….وفي المدارس الأقلام والقراطيس والكتب والزيّ والغذاء… تعليم جامعي مجاني للكل والويل لكل أستاذ جامعي يرفض نجاح كل الدفعة رغم انحطاط المستوى…فماذا عسانا نفعل بكل هؤلاء!؟ رشاوى للجماهير قدمها… قراءة المزيد ..