الشفاف – خاص
عرفت الجزائر كبقية البلدان العربية والإسلامية نزعة دينية إصلاحية واكبت موضة التجديد الديني الوراثي وبروز الحركة الوطنية التحررية من الإستعمار، فتواجد “المشروع الإسلامي” في الجزائر منذ ثلاثينيات القرن الماضي حينما حاول الشيخ “عبد الحميد بن باديس” نشر الفكر الديني والمحافظة على اللغة العربية والتربية الإسلامية في أوساط الشعب الجزائري داخل قبة “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”(1931) متجنبا العمل السياسي المباشر وعدم الصدام مع السلطات الاستعمارية الفرنسية.
فعمل صاحب “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب” وصحبه على مقاومة “التجنيس” و”الاندماج” والدفاع على الهوية الجزائرية والدعوة إلى احترام تطبيق الشعائر الدينية. ذلك أنهم اعتقدوا أن ما يجب فعله في الوقت الراهن يتمثل في “المحافظة على الوطن المسلم فنحن في مرحلة حاسمة من الصراع من أجل الحياة” لتؤكد إستراتيجية جبهة التحرير الوطني وسياستها هذا الخيار في بيان أول نوفمبر 1954 بيان الثورة التحريرية “إقامة دولة جزائرية حديثة داخل الإطار العربي الإسلامي” فلم يتردد قادة ثورة التحرير من إستغلال بشكل مكثف الدعم الهائل الذي قدمته لهم المشاعر الدينية المنتشرة لدى الجزائريين والتى ساعدتهم على إحداث قطيعة سريعة مع القوة الاستعمارية “الصليبية” و”الكافرة” عدا بعض “الزوايا ” و”الطرق الصوفية ” التي صفقت للإستعمار الفرنسي بالأمس وتصفق كل مرة لمن يعتلي سدة الحكم في الجزائر بمكيافيلية عفوية غير مقصودة….!
بعد سبع سنوات من الكفاح المسلح ضد الإستعمار الفرنسي دفعت الجزائر مليون ونصف المليون شهيد ضريبة إستقلالها ينجح الرئيس “أحمد بن بلة” سنة 1962، بمساعدة جيش “هواري بومدين” في دخول الجزائر العاصمة ثم الاستيلاء على السلطة وإبعاد خصومه الجدد من دون رجعة و ابتدأ عهده بتطبيق ما سماه بـ”الاشتراكية الإسلامية”. بتجربة مخبرية حاول فيها تطويع الإسلام داخل قفص واحد مع الماركسية….!
السلطات الجزائرية منعت العودة إلى الأحزاب والجمعيات التي هجرها أصحابها غداة ثورة التحرير و كانت الحجة المحافظة على الوحدة الوطنية التي ذابت كلها في أتون الثورة تحت راية جبهة التحرير الوطني…حزب واحد لا شريك له، ولكن ذلك لم يمنع شق من “العلماء المسلمين” الذين انضموا إلى ثورة التحرير بعد سنتين من إندلاعها (1956) من التنديد بشكل صريح بالنهج الاشتراكي مخترقين بذلك القاعدة ومشكلين جمعية للدعوة سموها “جمعية القيم” بتاريخ 09/02/1963 برئاسة الشيخ الهاشمي التيجاني وعبد اللطيف سلطاني وأحمد سحنون وحوديق مصباح. وقد أسست هذه الجمعية تحت غطاء تربوي، ثقافي تهدف إلى إحياء القيم الإسلامية. فحاولت الجمعية منذ البداية تقديم خطاب أصولي معتدل، حيث ركزت جل نشاطاتها في المساجد مثل مسجد صلاح الدين الأيوبي بيلكور ومسجد سيدي رمضان بالقصبة، متخذة من نادي الترقي بالعاصمة الجزائرية مقرا للجمعية.
أصدرت الجمعية مجلة شهرية تسمى “التهذيب الإسلامي” تهتم بقضايا العرب والمسلمين ودراسة المشاكل الإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية حسب العقيدة الإسلامية.
و لم يلبث النزاع أن إنفجر بين الجمعية و السلطة، ذاك أن التوجه الإشتراكي الوارد في ميثاق الجزائر (1964) زاد من حدة التعارض بين الرئيس أحمد بن بلة وقادة الجمعية.
فلم يفلح “بن بلة” في الجمع بين النقيضين..
ففي سنة 1964 ولأسباب شخصية أقيل رئيس الجمعية الهاشمي تيجاني من منصبه المهني كأمين عام بجامعة الجزائر – القشة التي قسمت ظهر البعير- وهو الأمر الذي استدعى من شيوخ الجمعية لعقد تجمع شعبي، تضمنت مطالبهم فيه أولا إعادة النظر في يوم الجمعة باعتباره العيد الأسبوعي للمسلمين حيث تقام فيه الصلاة وجعله يوم عطلة بدلا لنظام السبت و الأحد الموروث من الإدارة الفرنسية و ثانيا الحرص على توظيف الجزائريين المسلمين في المناصب الإدارية وهو ما يخالف ما جاء في بنوذ إتفاقية إيفيان (1962) التي تنص على احترام الأقدام السوداء (الأوروبيين الذين كانوا يعيشون في الجزائر أثناء الوجود الإستعماري) والتي تحبذ البقاء في الجزائر.
وقد لعب المشارقة القادمون من مصر وبلاد الشام في إطار التعاون العلمي و التقني دورا بارزا في إقناع الشباب الجزائري بالتردد على المساجد والإلتفاف حول الدعوة بمصطلحات ومفاهيم إسلامية جديدة وغريبة عن الجزائريين فاستوعبوا بعضها وضاعوا في سوء فهم البعض الآخر…!
سنة و نصف بعد إنقلاب وزير الدفاع ” بوخروبة محمد” أو “هواري بومدين” على رئيسه بن بلة(19 جوان 1965) وبتاريخ 22 سبتمبر 1966 يتم حل “جمعية القيم” بعد أن قامت وبجرأة غير معتادة بإرسال برقية إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر تطالبه فيها بالإفراج عن “سيد قطب” وجميع المسجونين من قادة الإخوان المسلمين في مصر. وهذا نص البرقية:
” إلى فخامة السيد جمال عبد الناصر
رئيس الجمهورية المصرية
تحية واحتراما:
يسرنا نحنا جمعية القيم الإسلامية الجزائرية.. أن نتقدم بالترسل إلى حضرتكم أن تتفضلوا بالعفو عن السيد قطب ورفاقه المحكوم عليهم من قبل المحكمة العسكرية التابعة لنفوذكم بصفتكم رئيس محكمة الثورة والرئيس الأعلى لكافة المصالحة العسكرية بمصر أختنا الشقيقة الكبرى، فتحولوا الحكم عليهم بالإعدام إلى الحكم بالسجن.
ونحن إذ نتوجه إلى فخامتكم بهذا الرجاء، لا نعتبر أنفسنا أكثر من جمعية إسلامية ثقافية دينية، لا خوض لها في الشؤون السياسية لا المصرية ولا الجزائرية نفسها.
وإنما هي الثقافة من أجل علماء مسلمين إخوان لنا في الدين كبقية رعايا دولتكم الكبيرة التي نعتبرها جميعا أختنا الكبرى وزعيمة العالم العربي.
والله تعالى نسأل أن يسدد خطاكم ويسبغ عليكم أجر من أحسن عملا. وجزاكم عنا خير الجزاء.
الهاشمــي التيجانــي
ساحة الشهداء (في سبتمبر1966، جمادى الأولى، 1386)
وقد إتخذت الجمعية هذا الموقف بإيعاز خارجي من توفيق الشاوي أحد أبرز قادة الإخوان المسلمين في مصر الذي أصر على هذا الموقف لما يوليه الرئيس جمال عبد الناصر من إحترام للجزائريين واعتبرت السلطة الجزائرية هذا العمل تدخلا صريحا في الشؤون الداخلية لدولة دعمت الثورة الجزائرية خلال مرحلة الكفاح.
وبالموازاة مع ذلك كان المفكر مالك بن نبى من أبرز الوجوه تأثيرا في الواقع الفكري الثقافي من خلال الندوة الأسبوعية التي كان يعقدها لنخبة من المثقفين وهي محاولة جريئة في ذلك الوقت المتقدم.
فهذا المهندس الكهربائي الذي لخص مشكلات العالم الإسلامي في كلمة واحدة هي التخلف وحدد الحل في كلمة واحدة هي الأفكار… نجح في تكوين ثلة من الشباب تكوينا فكريا عاليا بعيدا عن أسلوب الإثارة العاطفية والتهريج الخطابي الذي كانت تسلكه بعض المناهج لتعبئة الجماهير و تثويرها في وجه الحكام لتكون الحصيلة دائما صداما غير متكافىء مع السلطة القائمة، فكانت مصر سباقة في الصدام الدموي بين السلطة والمعارضة الإسلامية
-المتبنية لمذهبا دخيلا عن مذاهب السنة الأربع- و ما لهذا الصراع من نتائج ليتمخض عنها ميلاد “الفكر التكفيري” تحت أقبية السجون فكان لهذا المولود شان خطير بعد خروجه من رحم الأحداث مشوها ليتحول إلى فكر يروج له أصحابه سرا ثم يجد أرضا خصبة ليمرع فيها و يصير عقيدة يروج لها أصحابها و يدافعون عنها و يجدون لها من المبررات الواقعية ما يقنعون به عناصر كثيرة تحت ضغط الواقع العربي المتردي فكانت ثمار هذا المولود الغير الشرعي للإسلام تحول مسار الدعوى من الحسنى إلى الخشنى…..
تتابعون في الحلقة القادمة…. على آثار الحركة الإسلامية في الجزائر…. الحركة بين مطرقة بومدين وسندان الإنشقاقات الداخلية ”
* إعلامي جزائري مهاجر