أكثر ما يذهل في الوقت قدرته على التحوّل وعلى البقاء هو نفسه: وقتاً، زمناً، ساعات او سنوات. فكلما احتجنا الى الوقت، نقصَ هذا الوقت وعشنا معه لاهثين متوترين مضغوطين. وكلما كانت الحاجة الى هذا الوقت نفسه قليلة، فاضَ هذا الوقت وطال… يكاد لا ينتهي في نظرنا. هكذا يوقعنا في الضجر وأحيانا يعذّبنا بالضجر.
سيولة الوقت هذه، عدم قابليته للتعريف، يثيران الحيرة. هل الوقت مجرد وهم؟ سراب من صنع العقل البشري وسط صحرائه؟ اختراع انساني؟ او شيء موجود في الطبيعة… يمر بين شروق وغروب وقمر في تعدد حالاته، ولا نستطيع بإزائه غير تناوله بالواسطة، بالتنظيم والترتيب والتحديد؟ فإن عشنا في أوقات مفروزة، رسا الوقت بذلك كإطار من اطر حياتنا؟
فيكون، هكذا، لدى شبابنا «مستقبل امامهم»، ولدى شيوخنا يصير الوقت «خلف ظهرهم». ويحلم الذين لذعَهم الوقت بأوقات مضاعفة، مثل السكن في كوكب المريخ، مثلا، حيث السنة 24 شهراً. ويتساءلون عن الوقت الذي ولدا فيه، عن معناه، عن معاناة كانوا تلافوها لو ولدوا في أوقات اخرى: حيث لا حروب، او كوارث، او عذابات… ويخترعون أوقاتا موازية متلازمة مع وقتهم التعِس البائس أو المنفجر حروباً. كمْ من الروايات الغرامية حصلت تحت القنابل والخرائب او الملاجىء؟ هل نكتفي بتفسيرها فرويدياً فلا يتملكنا الاستغراب من تعايش هذه الاوقات المتوزية، المتلازمة؟
الوقت له محاكاة أغرب في حيوات الافراد الذين تبدّلوا جذريا عما كانوه من غير ان ينتبهوا… يقولون انهم تغيروا بدوافع خاصة، «شخصية». لا يرون من حولهم انهم صاروا مثل الجميع. يستغربون السؤال: كيف كنت كذا؟ وتلحّ بالسؤال، على النساء خصوصا: كيف كنت ترتدين كذا وكيت؟ وتفكرين كذا وكيت؟ والآن أنت العكس تماما؟ فيجبنَ: كان ذاك «وقت»، وهذا «وقت آخر». جواب ذكي، غير واعٍ؛ لا يريد البحث في كيفية تبدّل الوقت الماضي، نحو ما صار عليه في الوقت الراهن. وتخونكَ العبارات، هنا…
مرّ وقتٌ على الكثيرين من بيننا، كانوا يعتقدون فيه ان الوقت جالبٌ للأفضل، الأحسن. وكان هؤلاء الافراد متصالحين مع وقتهم حيث كانت الفكرة التقدمية و»تجلياتها» هي المهيمنة على العقول والقلوب. الفكرة الأكثر جماهيرية بين النخب والجماهير. الآن: انقلب الامر: الذين كانوا «تقدميين» لا يرون في الوقت الراهن غير تراجع وانهيار. وكل يوم آتٍ بنظرهم يحمل معه قسطاً إضافياً من الانحطاط والانهيار. فيما اصحاب الوقت الراهن، الذين يتقاسمون مع الغالبية الاسلامية فكرة الاصولية الدينية، «المقاوِمة» خصوصاً، فهؤلاء لا ينظرون الى الوقت الا بوصفه انتصارا. انهم منتصرون لأن الوقت وقتهم. انهم منتصرون؛ أية حركة، أية إيماءة، هي مفخرة، مأثرة. وهذا يشبه ما يقوله، مثلا، بعض الشيوعيين المخضرمين، من ان الناصرية كانت «ديموقراطية»، فقط لأنهم كان لهم دور ما في عهدها، خصوصا في المعارضة اولا، ثم في مواقع إدارية عليا ثانياً.
إنتصار اصحاب الوقت الراهن لا حدود له؛ وممتدّ، من ابسط العقول الى ارفعها، «التقدمي» منها خصوصاً. والحلف الذي خلّقته الانتصارات، بين اسلامية صاحبة انتصارات، وبين تقدمية مهزومة منضوية تحت كنفها، أمرٌ يستوقف الناظر اليه؛ بل يفترض قيام الجناح «التقدمي» من الحلف الاسلامي إعادة النظر بمفهومه للوقت: هل الوقت حامل للتقدم او التأخر؟ اذا كان الجواب «تقدما»، فما الذي تقدّم؟ او بالاحرى من الذي تقدّم؟ واذا كان تأخراً، فهل هم مشاركون متواطؤن في صناعته؟ اي في الوقوف ضد انفسهم؟ ام انهم توقفوا عن التفكير بالتقدم وفقدوا بذلك صفتهم «التقدمية»؟ السؤال عن الانتصارات الاسلامية في ذروة وقتها يدفع الى السؤال عن الانجازات الحقيقية لأزمنة التقدم السالفة. فهل كان التقدم وهم أوقات؟ أو على الاقل: هل كان التقدم هو نفسه الذي كان يتوسّله «التقدميون»؟
الوقت والذاكرة التاريخية. الذاكرة إختراع. عندما يقولون بـ»العودة الى عصور الاسلام الذهبية»، فأي عصر يقصدون؟ وهل حقا كان عصرا ذهبيا؟ تأتي اوقات يتم فيها إختراع التاريخ، اي اقامة الوقت غير التاريخي. والوقت غير التاريخي ليس فقط الوقت الذي نفتقد فيه الى المبادرة التاريخية، بل هو ايضا الوقت الذي يتحوّل فيه التاريخ الى موضوع تلاعب حرّ بالاوقات. تلاعب تشجّعه كل ظروف الوقت الراهن. هزيمة الدولة المتقدمة، أو مشروعها، والفراغ الثقافي، والعدوانية الحضارية… كلها جاءت في وقتها لتعزّز الوثْبة الدينية الناسفة للوقت السابق.
بين الوقت والحنين علاقة حميمة. الوقت نفسه، بمجرّد مروره، يشوّقنا للذي مضى منه. واذا كان الوقت «تقدما» نحو المستقبل، يكون الحنين أضعف. اما وأن الوقت هو في حالة تقهقرية واضحة موضوعيا، وفي حالة «إنتصار» ذاتياً، فهذا ما يؤجّج الحنين، ولا يخمده. وفعل الزمن في هذه الحالة مضاعف ومعمّم. فمن الطبيعي ان نحنّ الى ايام زمان، ومن الاكثر طبيعية أن نحنّ عندما تكون تلك الايام هي الافضل، والآتية منها لا نتوقع منها غير مزيد من السوء. ويسهل تحويل الدمار الى إنتصار، وإستبدال فكرة التقدم بفكرة الانتصار بصفتها محرّكا للتاريخ. فالتناقض الداخلي الحاصل بين العودة عن التقدم والتلاعب بالحنين الى عصور مضتْ، يفضي طبيعيا الى الغوص في التأخر والخراب والسعي الحثيث اليهما، تعزيزا لمزيد من الحنين الذي يحتاجه الفرد البسيط او الطبيعي، للإستجابة لنداء «الانتصارات الالهية».
الوقت والكلمات. تداعيات الوقت على الكلمات. يصعب تداركها في الاوقات العصيبة. يحتاج قياسها الدقيق الى سقوط المدافع، ومعه سقوط الدعوات الى الموت.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة