في أوائل فترة الحكم الثانية للرئيس بوش وبالتحديد في عام 2005 قامت الإدارة الأمريكية بحملة ضغط على الحكومة المصرية من أجل السماح بهامش معقول من الديمقراطية والشفافية والحرية في مصر. وأتذكر قيام كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بإلقاء كلمة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عبرت فيها بقوة عن دعم هذا التوجه كما التقت عددا من المعارضين المصريين من ضمنهم أيمن نور رئيس حزب الغد وقتها وأحد ضيوف الرئيس مبارك الدائمين في سجن أبي زعبل حالياَ.
وبالطبع لم تكن نوايا الإدارة الأمريكية صافية تماماَ من وراء هذه المبادرة الإصلاحية التي كانت تهدف بالأساس إلى إلباس عملية الغزو الأمريكي للعراق ثوب الديمقراطية. وبالرغم من هذا فإن الضغوط الأمريكية شحذت همة المعارضة المصرية بشكل عجيب وبدأت مصر تشهد نوعاَ من الحيوية السياسية لأول مرة منذ انقلاب يوليو عام 1952 وبدأنا نشهد صحافة حرة تهاجم كل أشكال الفساد وتهاجم الآسرة الحاكمة نفسها (الرئيس الملك والسيدة زوجته وولي العهد المبارك) وبدأنا نشهد مظاهرات واعتصامات لم تشهدها مصر منذ قيام عبد الناصر بإلغاء كل مظاهر الديمقراطية في مصر بدءاَ من إلغاء الصحافة الحرة إلى إلغاء الأحزاب السياسية إلى مذبحة القضاء وإلغاء استقلال الجامعات…الخ. واعتقدنا جميعاَ أننا مقبلون على مرحلة إصلاح حقيقي ودعونا الله أن يستمر الضغط الأمريكي وأن يصحو المارد المصري ويقود المنطقة العربية إلى مرحلة جديدة من الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير وسيادة القانون على الجميع…الخ.
لكن فرحتنا لم تدم طويلا حيث بدأ النظام المصري في العمل بسرعة من أجل امتصاص حماس الإدارة الأمريكية في فرض الديمقراطية والإصلاح على مصر. فقام بعمل بعض التعديلات الدستورية الشكلية وقدم وعوداَ كثيرة بعدم حبس الصحفيين، كما وعد الرئيس بتقليص سلطاته الإلهية المطلقة وإعطاء بعض الصلاحيات لمجلس الشعب المشهور “بمجلس الموافقين” وبعض الصلاحيات الأخرى لسكرتيره الخاص الذي يطلق عليه رئيس وزراء مصر. كما نجح النظام في نصب فخ محكم للمعارضة المصرية تمثل في اتهام كل تيارات المعارضة التي تجاوبت مع دعوة الإدارة الأمريكية بضرورة تطبيق نوع من الديمقراطية في مصر بأنه عميل للخارج وخائن لإرادة الشعب المصري الذي لا يؤمن بالديمقراطية الأمريكية التي لا تأتي إلا على ظهور الدبابات. بل إن حركة الإخوان المسلمين في مصر دعمت دعاوي النظام المصري في ذلك وهاجمت كل أشكال المعارضة التي حاولت الاستفادة بشكل مخلص من الضغوط الأمريكية على النظام المصري بفرض نظام ديمقراطي شامل ينتشل مصر من حالة التردي المستمر التي تعيشها منذ انقلاب يوليو 1952 الذي أسس لنظام حكم فردي ديكتاتوري غير مسبوق في تاريخ مصر.
والإخوان المسلمين كحركة سياسية انتهازية كما هو معروف عنهم طوال تاريخهم كانوا يهدفون من وراء هذا الدعم إلى إخلاء الساحة من كل أشكال المعارضة سواهم حيث تصوروا أن بإمكانهم التخلص من نظام مبارك بعد هذا بسهولة.
وبالفعل فقد حقق الفخ مقصده وبدأ الجميع يدين التدخل السافر للحكومة الأمريكية في شؤون مصر الداخلية. وأيدت المعارضة المصرية – درءاَ للشبهات – مقولة إن التغيير لابد أن يأتي من الداخل ولا لسياسة الإستقواء بالخارج، وتلاشت الضغوط الأمريكية تدريجياَ ونجح نظام مبارك في إسكات معظم أصوات المعارضة ولم يعد أمامه سوى حركة الإخوان المسلمين. والحقيقة إن نزالهم لم يكن بالمهمة الصعبة على مبارك المدعوم بقوى الأمن والقوانين الاستثنائية والدعم الأمريكي الذي عاد من جديد بعد عدد من التصريحات الساذجة للمرشد العام ضد أمريكا وإسرائيل أقنعت الإدارة الأمريكية بأن نظام مبارك المنبطح لا زال هو الأفضل.
أمضيت عطلة أعياد الميلاد في مصر، وقد هالني ما انتهت إليه أوضاع المعارضة المصرية وصحافتها. فقد اختفت حركة كفاية التي ألهبت مشاعرنا وأحيت أمالنا القديمة. أما أحزاب المعارضة فإنها مشغولة في قضايا ونزاعات داخلية تخص مجرد بقائها كواجهة ولا أكثر من ذلك.
أما صحف المعارضة الشهيرة فقد أصبحت باهتة للغاية وتناقش قضايا تافهة. وقد اتضح لي آن بعضها يتمتع بمزايا خاصة في التوزيع مقابل لعب دور المعارضة الشكلية. وهذا يعني أن النظام نجح في شراء ذمم أصحابها. وعلى سبيل المثال فقد لاحظت وجود جريدة الأسبوع التي يصدرها المعارض السابق مصطفى بكري على متن كل الطائرات المصرية التي طرت عليها، كما لاحظت ميل الصحيفة للدفاع عن نظام الرئيس المصري فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة وهو موقف مخز بكل المعايير. وحتى تكتمل المسرحية فلا مانع أن يقوم أحد المحررين في نفس الصحيفة بالهجوم على وزير مسكين لأنه أخفق في وقف ارتفاع أسعار المواد التموينية الموجهة للفقراء. وهكذا تبدو الصحيفة وكأنها تعارض النظام الذي أضاع مكانة مصر وأهدر كرامة كل المصريين.
لاحظت أيضاَ أن كافة الصحف سواء القومية أو المحسوبة على المعارضة تتناول الأزمة المالية العالمية بشئ من السطحية ويقولون إن مصر لم تتأثر كثيرا بهذه الأزمة دون كل دول العالم ؟!! هذا بالرغم من هبوط المؤشر العام للبورصة المصرية بما يصل إلى 65% وهذه النسبة تعادل ضعف نسبة هبوط مؤشر داو جونز الأمريكي.
ومن يعرف ألف باء الاقتصاد يعلم أن هبوط القيمة الرأسمالية للشركات بهذه النسبة الكبيرة يؤثر بشكل بالغ على قدرتها في التوسع،بل ويدفع بها إلى الانكماش. وبالتالي فإن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من المرجح أن يتدهور بشكل كبير في خلال عام 2009 وهو ما يؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة وانخفاض مستوى المعيشة التي نعاني منها في مصر.
وعودة إلى موضوع التغيير الذي يرجى له أن يأتي من الداخل، وبكل أسف أقول أنه لا أمل أن يأتي أي تغيير من الداخل في ظل سيطرة مبارك على كل قوى الأمن التي أصبحت في غاية الشراسة،هذا بالإضافة إلى سيطرته على الإعلام والقضاء ومجلس الشعب ومجلس الوزراء وشيخ الأزهر…..الخ.
والأغلبية الساحقة تعاني في صمت من الفقر والفساد والخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والأمن تتدهور يوماَ بعد يوم حتى أصبحت وكأنها غير مخصصة للفقراء، فمثلاَ لو جرب فقير أن يذهب إلى قسم الشرطة للشكوى ضد ضابط أهانه فإنه في الغالب سيتم حجزه وضربه حتى لا يفكر في الذهاب إلى هدا المكان مرة أخرى، وكذلك لو ذهب المواطن الفقير إلى مستشفى حكومي لإجراء عملية جراحية فإنه في الغالب لن يعود إلى بيته مرة أخرى.
والخلاصة أن الداخل أصبح ممزقاَ تماماَ والهم الأكبر لـ80% من المصريين أصبح تأمين رغيف العيش وقد استقالوا تماماَ من الحياة السياسية.
وفي كل زيارة إلى مصر، ألاحظ ازدياد حالة اللامبالاة والعجز واليأس والإحباط بين كافة فئات الشعب، لامبالاة الأغنياء بحال الفقراء، وعجز المعارضة المخلصة عن فعل أي شيء بعد سقوطها في فخ النظام المصري الذي تحدثنا عنه وموت حالة الحراك السياسي التي عاشتها مصر لفترة قصيرة جداَ بنهاية الضغط الأمريكي ويأس وإحباط الغالبية الفقيرة من الجميع، والكل يتصرف كمن لا حيلة له.
ويتحدثون عن التغيير الذي سيأتي من الداخل….عجبي!!
مستشار اقتصادي مصري
mahmoudyoussef@hotmail.com
هل يمكن أن يأتي الإصلاح في مصر من الداخل؟
شكرا أستاذ محمود على هذه الرؤية الثاقبة والتقييم الموضوعي لحال الحريات والمعارضة، وبما أني أحد زوار مصر ومهتم بإلتقاط صور إجتماعية، ومراقبة (إيماءات الجسد) فقد دهشت لكثرة الوجوه المتعبة والمحتقنة (بسبب الهموم والإجهاد وعوادم السيارات)والأهم سيطرة ملامح كآبة على وجوه الناس عموما وهذا شيئ جديد على شعب يحب المرح والدعابة والأريحية .وشكرا