” الحق يحتاج إلى رجلين.. رجل ينطق به ورجل يفهمه “.
(جبران خليل جبران)
*
أيها الأصدقاء
اكتب لكم “رسالتي” هذه، ليس ردّا سياسيا على أحد، بل لتوضيح موقف من التاريخ.. رسالة تتضمن بعض ملاحظات تعالج بعض ما دار من ردود فعل على المقال الذي نشرته قبل أسبوعين بعنوان “سحل بالحبال أو قذف بالأحذية” *، ولكي لا أتلقى اتهامات باطلة من أناس ليس لهم إلا إصدار الأحكام السريعة، دون الاعتراف بالحقائق، والتمجيد بواقع ضنين أنتجته تواريخ صعبة على امتداد نصف قرن من الزمن المرير، بكل ما دار فيه من صراعات سياسية، وحمامات دم، وإعدامات بالجملة، وتعذيب في السجون، وموجات من الاغتيالات، وفوضى مليشيات حزبية، وانقلابات، ومؤامرات، وتهجير، وملاحقات، وهروب جماعي.. وتمردات، وحروب داخلية وخارجية، وحصار، وموت، وانهزامات، وانسحاق مؤسسات! أقول:
1/ لا ادري لماذا يغمض بعض الأخوة اليساريين العراقيين أعينهم عن تاريخ مضى، وهم لا يتذكرون إلا البطولات والأمجاد! ولا ادري لماذا يهتاج بعض الأخوة عندما تذكر كلمة (الحبال)، وكأنهم أصحابها، علما بأنني لم اقصدهم بالذات، وحتى إن قصدت بعضهم، فهم ليسوا بمعصومين عن الأخطاء. وتنبؤنا جملة اعترافات ومذكرات قياديين عراقيين سابقين بحدوث تجاوزات وأخطاء لدى الجميع. ولكن ليعلم كل اليسار العراقي، أنني نشرت منذ سنوات طوال، بأن الشيوعيين العراقيين، لهم تاريخ عريق، وكانوا في مقدمة الذين دفعوا ثمنا باهظا من دمائهم ومعاناتهم، وتكفيهم مجازر 1963 وتراجيديا قطار الموت.. إنني لست ضدهم، أو ضد أحد من العراقيين، إلا إن كان متمردا على العراق، وقاتلا للعراقيين!
2/ أتمنى أن ما يأخذونه ضدي هو مجرد ظنون، ففي حين لا اصفق لأي حدث، أو أي زعيم، أو أي حزب، فأنني لا انحاز أبدا عن مجريات التاريخ، علما بأنني لم اتهم أشخاصا بالأسماء، ولم اذكر حزبا بعينه، أو مجموعة بذاتها.. ولكن على كل العراقيين أن يدركوا، ولو لمرة واحدة، أنهم ليسوا ملائكة بررة، أو أولياء صالحين.. وان الزمن يتغير ويتبّدل فثمّة مناضلين وثوريين في العالم، كانوا ضد المستعمرين والامبرياليين، ولكنهم غدوا اليوم ضمن سياقات الأمريكيين! وان بعض من كان تقدميا وطليعيا وتحرريا، غدا اليوم طائفيا، أو انقساميا، أو شوفينيا!
3/ إن من ينتقد ظواهر عراقية مقيتة وسيئة، لن يتبرأ من شعبه! وإن من يتبرأ من شعبه لن ينزف ألما عليه ولا ينسحق أبدا، إلا من اجل انسجام شعبه كبقية شعوب الدنيا.. إن من يصر على معالجة المسائل الاجتماعية المعقدة، ويدرك كم عانى هذا (المجتمع) لا يمكنه أن يكون إلا من هذا الشعب.. والمجتمع مرّ بظروف شاذة وصعبة قد تنتج التوحش، وتنتج بشرا يقطع الرؤوس بسهولة ويعرضها تلفزيونيا.. إن من الحكمة، نقد الظواهر الاجتماعية المتوحشة لا التغطية عليها، أو التعمية من دونها.. وان على من يخالف، مقارعته الحجة بالحجة، وان يحترم مواقف الآخرين، بعيدا عن التجريح والطعن وتشويه السمعة، وما أسهل ذلك عند بعضهم!
4/ لست خصما للشيوعيين أو اليساريين العراقيين، بل أتمنى على من يفكر مثل هذا التفكير، أن يراجع ما نشرته عن تاريخهم النضالي في ” الأزمنة المرعبة “، وما تعرضوا له من اضطهاد، وما كتبته عن مأساة قطار الموت، فضلا عن معالجتي لدور اليسار العراقي الرائع في الثقافة العراقية في كتابي “انتلجيسنيا العراق”، ولكنني لم ولن اصفق لاستخدام الحبال في سحل وقتل الناس في ظرف تاريخي عراقي معين، ولا يمكنني التغاضي عن أخطاء لا تغتفر، بل ولا يمكن السكوت عن خطايا اقترفها آخرون في عهود أخرى، وما أنتجت من رعب، أو ما كان في العراق من مجازر اقترفها عراقيون، ولم يقترفها أناس استوردناهم من مكان آخر!!
5/ وعندما نعالج اليوم معاصرتنا لا يمكن أن ننكر على ما اقترف من أخطاء وجنايات وخصوصا في الصراعات السياسية التي دامت طويلا.. إنني بالوقت الذي اعترف بحركة التحرر الوطني ونضالات اليسار العراقي في تاريخ العراق المعاصر، ولكنني أدين النص السيئ القائل: (وطن تشيده الجماجم والدم.. تتهدم الدنيا ولا يتهدّم)، وأدين أيضا النص السيئ الآخر الذي دار على الألسن: (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)! إنني إن انتقدت ذلك، فليس معناه أنني أدين اليسار العراقي، أو أن أصبح عميلا، أو ضد حركة التحرر الوطني، أو كارها للشعب العراقي، أو أغدو خصما لليسار!!! أتمنى على بعض الأخوة العراقيين، أن يدركوا أن نقد المثالب السياسية، وإدانتها اجتماعيا، هو الذي سيخلص الأجيال منها ومن آثارها السيئة..
6/ ازعم، أن قراءتي للعراق واضحة ومسئولة، ولكنها غير متخندقة.. وأدرك تماما أن التعبير بقذف الحذاء ليس حالة استثناء، بل نموذج لتعبير جمعي اجتماعي.. ولقد تناصف المجتمع بين تأييده ومعارضته.. ولكنه تعبير لا يساوي شيئا أمام سحل إنسان، أو قطع رقبة إنسان سواء كان عراقيا، أم غير عراقي!! إننا لو جعلنا السحل عقابا لكل عميل عراقي ـ كما يبرر البعض ـ، فكم يا ترى من عراقيين سيسحلون على امتداد مائة سنة مضت؟ خصوصا وان معنى العمالة هو أحّط وصف يطلق على التعامل السياسي مع أي جهة أجنبية، ضد المبادئ الوطنية! يا ترى كم من العراقيين قد تعامل مع جهات أجنبية متنوعة، سواء على أيام الحرب الباردة، ومع أطرافها؟ أم على أيام الصراع العربي الصهيوني، ومع إسرائيل بالذات؟ أم مع الدول الإقليمية المعروفة؟ إن قراءتي للتاريخ، تتعامل مع حقائق وليس مع دعايات، وعلى من يقرأ العراق، الإحاطة، بكل زواياه وأحداثه وشخوصه بلا أي تغطية أو تعمية. فهناك تاريخ عراقي مغيّب من المؤامرات الخارجية، والارتباطات الخفية، والاغتيالات السياسية، والهجرات الجماعية، وممارسات المليشيات الحزبية، وضرب الحكومات المتعاقبة كلها للتمردات الداخلية عسكريا..الخ
7/ ينبغي على الإنسان، الاعتراف بأخطائه حتى تتعلم منه الأجيال دون مكابرة، ودون أي عزة بالإثم! ولعل من فواجع العراقيين أنهم سريعا ما يتهمون من يخالفهم سياسيا، أو تاريخيا، أو اجتماعيا، بوطنيته، أو بانتمائه، أو بكراهيته لشعبه من دون أي إحساس بالمغالاة، بل ويسيئون سمعته من دون أي إحساس بالذنب، وكأن العراق قد خلق على مقاساتهم فقط! إنهم ينكرون حتى على أصدقائهم وقفاتهم إن شعروا أن الأمر يعنيهم. وهم بذلك كأنما يقولون للتاريخ: نعم، نحن أصحاب الحبال الذين سحلوا البشر في شوارع العراق.. بل ويبررون السحل كون كل المسحولين عملاء للامبريالية العالمية والرجعية، وهم يدرون دراية تامة أن العراق قد شهد سحلا لأناس أبرياء، نسوة ورجال، ونهبا وتدميرا وتهجيرا في مدن عراقية معروفة، هذا إذا كانوا لا يتنازلون عن سحل خصومهم السياسيين من مسؤولي العهد القديم..
8/ أتمنى على الأخوة العراقيين إعادة قراءة تاريخهم على مهل، وبدل أن يضيّعوا وقتهم سياسيا بالقيل والقال، أو مع وضد.. أن يعلموا أولادهم كيف يفكرون، وكيف ينشطون، وكيف ينتجون، وكيف يدينون أمامهم السحل، والقتل، وقطع الرؤوس، ورشق الاهانات، وإطلاق الشتائم المقذعة.. وليس من الصواب أن يصفّق البعض لأوضاع مأساوية صنعها الآخرون لهم، وهم يبررون رشق الآخرين بالأحذية! إن ما يهمنّا أساسا أن نكون حياديين في معالجاتنا، وان بناء العراق الحضاري بحاجة إلى تجاوز الماضي ومشكلاته مع معالجة كل رواسبه وبقاياه.. وتربية أجيالنا الجديدة على مفاهيم حضارية جديدة أساسها المعلومات لا الشعارات!
9/ إنني أعالج ظواهر موجودة وحقائق معروفة ومعلنة في تكويننا الاجتماعي والتاريخي، فليس من الصواب أن تدمج المواقف السياسية بما يمكن أن يقال من معالجات لظواهر معينة.. وسواء كانت سلبية أم ايجابية، فسيقول التاريخ كلمته فيها. إن الأستاذ الراحل علي الوردي لم يمّجد السيئات ولم يتستر عليها، ولكنه سجل ما رآه صوابا من وجهة نظر علمية، ومضى إلى سبيله.. فخالفه قسم كبير من السياسيين العراقيين.. إن أهواء السياسيين لا تعيش إلا معهم أثناء حياتهم، ولكن أفكار المختصين تبقى حية لا تموت! وكل من الطرفين ينتمي إلى وطن اسمه العراق لا يمكن أبدا تجريد أي عراقي من انتمائه الوطني، كما لا يمكن إلقاء التهم جزافا، بلا أي وعي، ولا أي إدراك! إنني اعتز بكل العراقيين مهما كانت انتماءاتهم ومهما كانت اتجاهاتهم، إلا إن كانوا يبررون القتل بأصنافه، أو يعيشون في لجة من التناقضات المرعبة.
10/ إنني احترم من يخالفني إن اوجد لي البديل العلمي، لا أن يعيد إنتاج شعارات كان قد تربى عليها! وليس عيبا أبدا أن يعلن المرء عن خطأ، وليس عيبا أبدا أن أقدم اعتذاري لمن أخطأت في حقه.. أن العراقيين جميعا مطالبون أن يقدم احدهم اعتذاره للآخر. وأريد القول، بأن ليس هناك أي مجتمع في الدنيا، نقيا في ثقافته، مثاليا في تجاربه، ولكن المجتمعات تنقد نفسها، وتتعلم من أخطائها، وتعالج تجارب فشلها، وتعتذر عن أخطائها، ولا تعيش على الأوهام المزيفة والشعارات الجوفاء مدى التاريخ.
وأخيرا، دعوني اعتز بكم جميعا، وأنا لست ضد أي حركة سياسية عراقية لها الحق في أن تتقدم بالعراق نحو الأمام.. كما لست ضد أي حزب تقدمي، أو أي حركة إنسانية وعلى بعض الأصدقاء اليساريين أن يدركوا أنني لست ضدهم، ولست خصما لهم ولكنني ضد الفاشية والشوفينية، وضد الاستبداد، وضد الدكتاتورية، وضد الإرهاب، وضد القوى المتخلفة الطائفية والانقسامية..وأخيرا، أتمنى أن أكون متفائلا كما اكتب إلى أصدقائي دوما، فانا من الناس الذين يحلمون بالعراق وقد غدا بلدا متمدنا وحضاريا.. ولكن لا يمكننا بلوغ أهدافنا إلا بمعرفة العراق وقراءته الاجتماعية سياسيا وثقافيا.. متمنيا ترسيخ لغة مهذبة جديدة في الحوار السياسي عند العراقيين.. مع أسمى الأمنيات للعمل معا وتربية الأجيال من اجل العراق الحضاري الموّحد.
* كاتب عراقي
• تجد مقالتي “سحل بالحبال أم رشق بالأحذية” على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20090105-1553
رسالة إلى الأصدقاء اليساريين العراقيين
ممكن نكون اصدقاء
يا ريت ان تضيفني
والسلام مسك الختام