الذين عاشوا مثلي في لبنان في عصره الذهبي الممتد من أوائل سبعينات القرن المنصرم إلى منتصفه، وتحديدا أولئك الذين عاصروا كلا أو جزءا من حربه الأهلية العبثية، لا بد وأنهم حينما يختلون بأنفسهم لاستعادة شريط ذكريات تلك الأيام الغابرة يتذكرون اسم المرحوم “شريف الأخوي” أستاذ الأدب العربي الذي سرقه الإعلام المسموع وحوله إلى نجم، بل الذي استطاع من خلال المذياع أن يؤسس لاحقا لما سمته سناء الجاك في “الحياة” البيروتية باسم الإعلام الأمني. فقد قام هذا الرجل، الذي فارق دنيانا في عام 1986، من دون أن يفوضه أحد ومن دون أي انتماء سياسي أو حزبي، بمبادرة كانت وقتها الأولى من نوعها، ونقصد بذلك تقمصه لدور شرطي أو ضابط المرور من خلال برنامج صباحي كان يطل به على مستمعي الإذاعة الرسمية لإرشادهم قبل خروجهم من منازلهم إلى الطرق الآمنة والسالكة. أي تلك التي من الممكن أن توصلهم إلى وجهاتهم المختلفة دون المرور بالحواجز الميليشاوية التي كان أصحابها لا يترددون في قتل المواطنين على الهوية أو في أحسن الأحوال تأديبهم من خلال الشتائم والرفس أو الضرب بأعقاب رشاشات الكلاشينكوف.
امتزج عمله بجرأة وشجاعة في القول
ومما لا شك فيه أن الدور الذي قام به هذا الرجل انطلاقا من نزعته المتسامحة وحبه لوطنه ونظرته المحايدة لكل مكونات هذا الوطن كان محل تقدير الكثيرين في الداخل وفي الخارج، لا سيما وأن مواقفه امتزجت دوما بجرأة لم يكن الكثيرون يمتلكونها في حينه، بدليل أنه توجه ذات مرة بمخاطبة رئيس البرلمان كامل الأسعد عبر الأثير آخذا عليه الاختباء في قصره بينما الوطن مشتعل ومقسم واللبنانيون يموتون بفعل ظواهر القنص والحواجز الطيارة والخطف على الهوية والمتاريس الفاصلة بين محاور القتال. ويقال أن الأسعد أحرج بكلام الأخوي فسارع إلى محاولة شراء صمت الرجل عن طريق إرسال شيك إليه، فما كان من الأخير إلا أن رده رغم حاجته الماسة إلى المال للإنفاق على أسرته وسط ظروف الحرب الصعبة وتوقف الأنشطة والأعمال.
استرعى اهتمام الداخل والخارج
قلنا أن شريف الأخوي استرعى اهتمام الداخل والخارج بما كان يقدمه. ففي الداخل صار برنامجه الصباحي ونبرة صوته بمثابة الترمومتر الذي يعتمد عليه اللبنانيون في تنقلاتهم وتفاؤلهم أو تشاؤمهم، رغم ما قيل عن عدم دقة بعض مضامينه، وهذا كان متوقعا في بلد خلت منه مؤسسات الدولة و كانت فيه الحواجز الميليشاوية منتشرة بكثافة وتنتقل من مكان إلى آخر بسرعة البرق. ويخبرنا الصديق الأستاذ جاسم السهلي الذي كان وقتها مديرا للخطوط الجوية الكويتية في بيروت وصديقا شخصيا في الوقت نفسه لشريف الأخوي أنه كثيرا ما اعتمد على أخبار الأخير في توجيه سائقه الخاص عند رحلة الذهاب إلى العمل أو العودة منه ليفاجأ في أحايين كثيرة بحواجز ميليشاوية تنتظره وتقطع عليه الطريق إلى مسكنه. أما خارجيا فقد تعدت شهرة الأخوي نطاق الأراضي اللبنانية إلى المهجر، بل احتل الرجل مكانا في الإعلام الغربي الذي اعتمد كثيرا على تقاريره اليومية لوصف الأحوال في لبنان، بدليل ما كتبته مجلة تايم الأمريكية الشهيرة عنه في احد أعدادها.
سيرة ذاتية مختصرة لإعلامي متميز
ولد شريف الأخوي لعائلة شيعية لبنانية وتزوج من السيدة “يمن” التي أنجبت له زينة. والأخيرة أكملت دراستها الجامعية في ايطاليا متخصصة في خطوط الأزياء والموضة، لكنها اقتفت طريق والدها بعد عودتها إلى لبنان فعملت في الإعلام المرئي من خلال قناة “هي” الفضائية وفي الإعلام المكتوب من خلال المساهمة في جريدة “النهار”. كما ورثت عن أبيها شجاعته وجرأته اللتين تجسدتا في انحيازها إلى الوطن ضد الحزب الإلهي المرتبط بالأجندة الإيرانية. حيث لم يحل مذهبها الشيعي دون إمساكها القلم لتكتب في النهار مقالا صريحا في حزيران / يونيو 2007 اتهمت فيه الحزب الإلهي بأنه يمارس سياسات تصعيدية من شأنها تعطيل مستقبل لبنان وتجهيل وإفقار شباب الطائفة الشيعية كي تسهل عليه التحكم فيهم، بعدما خيل للبنانيين أن زمن الحروب والمناكفات العبثية قد ولى إلى الأبد. أما حكاية شريف الأخوي مع الإعلام المسموع فيعود ابتداء إلى الخمسينات يوم أن التحق بإذاعة الشرق الادني، وذلك قبل أن ينتقل منها إلى الإذاعة اللبنانية الرسمية ليقدم مع رفيقة دربه برنامجا بعنوان “نزهة” كانا يتنقلان فيه في ربوع الأراضي اللبنانية لتعريف المستمعين ببلدهم. لكن المنعطف الأهم في حياة الرجل كان في أوائل عام 1973 حينما طرح على المسئولين فكرة إنشاء غرفة اتصالات داخل مديرية قوى الأمن الداخلي لتوجيه الناس وتوعيتهم وخدمتهم في مشاكلهم اليومية مع الأجهزة البيروقراطية المكتظة بالفساد والمحسوبية وسؤ التصرف. وبطبيعة الحال، لم يستحسن البعض وجود مثل هذه البرامج التي سوف تتولى كشف عوراتهم، خاصة مع تعمد مقدمها ذكر أسماء الضالعين في الفساد والإفساد، فجاءت المحاولة الفاشلة لاغتيال الرجل في عام 1976 والتي نجا منها بأعجوبة. ولعل أجمل وابلغ ما كتب عن شريف هو كلمات سناء الجاك: كان يرشد الناس إلى وسائل الحصول على الخبز والماء والوقود خلال الأزمات الحادة بينما كانت عائلته تفتقد الطعام… كان يخاطب الذين يغتالون الوطن بصوت متهدج قائلا “يا معدومي الضمير والقلب والعقل ارحموا الشباب والأطفال والنساء والشيوخ.”
لماذا نتحدث عن شريف الأخوي اليوم؟
وتطرقنا اليوم إلى ذكرى شريف الأخوي العطرة ليس إلا بسبب ظهور “أخوي” ثان مؤخرا، وتحوله إلى مادة إعلامية خصبة، لا سيما بعد اتهامه بالضلوع في عملية مومباي الإرهابية في السادس والعشرين من نوفمبر 2008. والمقصود هنا الباكستاني “زكي عبدالرحمن الأخوي” الذي يكني نفسه أحيانا بعبدالله عزام تيمنا بكبير المقاتلين العرب في أفغانستان. وهذا الرجل يختلف بطبيعة الحال عن الأخوي اللبناني جملة وتفصيلا. فعلى حين نذر الأخوي اللبناني نفسه للسلام والمحبة ومحاربة العنف والفساد باشكالهما المختلفة، نذر الأخوي الباكستاني نفسه لإزهاق الاواح البريئة وسفك الدماء وان ادعى خلاف ذلك، وهو ما اضطر معه المجتمع الدولي ومجلس الأمن والدول الكبرى إلى إدراج اسمه وأسماء ثمانية من رفاقه على لائحة الإرهاب الدولية، وبالتالي اضطرت سلطات بلده، من بعد تردد وتهرب، إلى فرض الإقامة الجبرية عليه وختم مكاتب حركته المتشددة “جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة” بالشمع الأحمر.
جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة
والحركة الأخيرة، شأنها شأن رديفتها المسماة “لاكشار طيبة” من الحركات التي تنتهج النهج السلفي المتشدد، وهي لئن قالت بأن هدفها هو الدعوة إلى صحيح الإسلام وتخليصه مما تعلق به من بدع، فان هدفها الآخر هو سياسي ويتجسد في تحرير كشمير مما تسميه الاحتلال الهندوسي وإقامة الدولة الاسلامية الخالصة علي ترابها. والحركة على عكس ما قد يتخيله البعض ليست مجرد رجال مسلحين ومؤسسات ومكاتب ومعسكرات، وإنما شبه دويلة ضمن الدولة الباكستانية وتعتمد في وجودها على الاكتفاء الذاتي. حيث استغل زكي الأخوي ما يتحلى به مظاهر الورع وما يتقنه من ثقافة سلفية وما يجيده من نفاق وتزلف وتمسكن للتقرب من دول و جماعات وصناديق مالية وخيرية شرق أوسطية بغية كسب عطفهم والحصول منهم على الصدقات والزكوات والتبرعات المجزية التي استخدمت لاحقا في شراء أراض شاسعة في ضاحية مريدكي في مقاطعة البنجاب الباكستانية المتاخمة للأراضي الهندية لإقامة المعاهد والمساكن والمكاتب (2500 وحدة مكتبية وسكنية) والمجمعات التجارية والعيادات الطبية التي قامت بادوار مهمة في أوقات الهزات الأرضية والمزارع المنتجة لمختلف المحاصيل علاوة على الألبان والبيض. ناهيك عن إنشاء معسكرات التدريب التي من اشهرها وأضخمها “معسكر عبدالله بن مسعود” الذي يدرب ويخرج سنويا المئات من الانتحاريين.
نوعان من المعاهد
والذين اتيحت لهم فرصة مشاهدة الأشرطة المصورة عن معاقل هذه الحركة، شاهدوا بجلاء كيف أن معاهدها (11 معهدا ضخما) تنقسم إلى نوعين: نوع قديم تدرس فيه المواد الدينية كي ينمو المتلقي على ثقافة الطاعة والولاء الأعمى والاستشهاد دون نقاش أو جدال، ونوع حديث تدرس فيه المواد العصرية من كيمياء وفيزياء ورياضيات، لكن ليس بهدف تأهيل المتلقي لدخول عالم الأعمال والعمران، وإنما بهدف التعرف على أساليب صنع وزرع المتفجرات، وبالتالي تدمير الكون وقتل اكبر عدد من الأنفس البريئة دون رحمة أو تمييز.
تشاتشو
ولد زكي الأخوي الذي يعرف عند أنصاره الصغار باسم “تشاتشو” أي العم في بلدة “أوكارا” الباكستانية قبل نحو 48 عاما. وترشدنا المعلومات القليلة المتوفرة عنه انه عمل كمرشد ديني و مدرب عسكري في أماكن كثيرة من تلك التي شهدت في السنوات الأخيرة اضطرابات وأعمالا إرهابية مثل الشيشان والبوسنة والعراق واندونيسيا وجنوب الفلبين.
هزيمة كارغيل تغيّر مخططات الحركة
وفي عام 1999، وخلال تجمع ديني سنوي أقيم في مرديكي التي تبعد نحو 30 كيلومترا عن مدينة لاهور، ألقى الرجل خطابا أعلن فيه بصراحة ضرورة مراجعة وتغيير كافة سياسات وخطط حركته إزاء الهند، بعدما “انسحبت باكستان من مرتفعات كارغيل تحت ضغوطات إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على نظام نواز شريف”. وهكذا اعتبر زكي الأخوي أن ما انتهت إليه أزمة كارغيل هزيمة جديدة لبلاده باكستان على أيدي الهنود، وبالتالي ضرورة الانتقام عبر استخدام وسائل جديدة مثل ضرب الأهداف المدنية – مثل شبكات السكك الحديدية والمجمعات التجارية – داخل كبريات المدن الهندية، وهو ما تم بالفعل لاحقا حينما بدأت حركته بالتعاون مع حركات مشابهة أخرى بضرب شبكات سكك الحديد الهندية وبعض المجمعات التجارية والأسواق المزدحمة.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh