تملك الفلبين الطبيعة الساحرة، والبحر والشمس، ومساحة تتجاوز 300 ألف كلم مربع، والثروات الزراعية والمعدنية، والشعب الخلوق متعدد الثقافات، والكوادر العلمية والحرفية المؤهلة في مختلف المجالات، وبالتالي لا ينقصها شيئا، لتكون في مصاف جاراتها الناهضات في جنوب شرق آسيا، سوى الأمن والإستقرارالداخلي المحفز على قدوم الإستثمارات الأجنبية. ولأنها افتقدت هذا العامل، فإن أحوالها الإقتصادية تراجعت إلى الحضيض (خصوصا مع النمو المستمر لعدد السكان، واستشراء الفساد في مفاصل الدولة، وتراجع سعر صرف العملة المحلية (البيزو)، واستمرار الحرب الأهلية في جنوب البلاد) إلى حد إطلاق إسم “رجل آسيا المريض” عليها، وإنْ كانت قد حققت بعض النمو الاقتصادي غير المسبوق في عهد رئيسها المنتهية ولايته بنينو أكينو
ويمكن القول أن أوضاع الفلبين إزدادت سوءا بعد ثورة “قوة الشعب” في عام 1986 التي أطاحت بالديكتاتور فردينداند ماركوس وبطانته الفاسدة. فخلال السنوات التي حكم فيها الأخير، عانت البلاد من الفساد والمحسوبية والإحتكار والنهب المنظم لثروات البلاد، ، لكنها في المقابل تمتعت بفترة طويلة من الإستقرار والأمن بسبب إستخدام ماركوس للقبضة الحديدية ضد مثيري الشغب إلى جانب منتهكي الأمن واللصوص والمجرمين والعصابات المحلية.
اليوم يأتي إلى سدة الرئاسة شخصية من خارج الطبقة السياسية التقليدية المنتمية في الغالب إلى مجتمع مانيلا المخملي، والتي خذلت الشعب الفلبيني طويلا ولم تقدم له سوى الوعود الفارغة. هذه الشخصية هي “ريدريغو دوترتي” (71 عاما) الذي فاز مؤخرا في الانتخابات الرئاسية، بحصده نحو 40 بالمائة من أصوات الناخبين البالغ عددهم خمسون مليون نسمة تقريبا (نصف إجمالي عدد السكان).
والرئيس الجديد، الذي ينتظر تنصيبه رسميا في 30 يونيو المقبل، محام وسياسي شغل منذ عام 1988 منصب عمدة مدينة دافاو، ثالث أكبر مدن الفلبين وأكبر مدن إقليمها الجنوبي (مندناو)، حيث قام هناك بجهود جبارة للتصدي للخارجين على القانون وضرب أوكارهم، بل قيل أنه شكل فيها كتائب للموت فقتلت أكثر من ألف قاطع طريق ومجرم خارج إطار القانون. وقد استخدم انجازاته البلدية تلك في حملته للتقرب إلى الناخبين من أجل الفوز بالرئاسة، بدليل أن شعاره الإنتخابي كان عبارة عن قبضة يد، في إشارة بالغة الدلالة على سعيه ــ إذا ما انتخب ــ للضرب بقبضة حديدية ضد الخارجين على القانون والفاسدين والمجرمين، وربما ضد نفوذ الساسة التقليديين، وذلك من أجل إحداث التغيير الذي طال إنتظاره لجهة محاربة الفقر وتحقيق العدالة والمساواة وتعزيز الأمن.
وإذا كان البعض قد نظر إلى هذا الأمر من زاوية الخوف من عودة الديكتاتورية إلى الفلبين في ظل دوترتي، خصوصا بعدما أدلى الأخير بتصريحات مثيرة للجدل مثل أنه سيقوم باستئصال الجريمة من البلاد خلال ستة أشهر فقط، ومخاطبته لزعماء عصابات الإجرام بقوله “أنتم أيها المجرمون، من الأفضل لكم أن ترحلوا .. لأني سأقتلكم”، ثم مخاطبته لهم مرة أخرى بقوله “أيها المتورطون في تهريب المخدرات .. يا أبناء الكلاب، سوف أقتلكم جميعا وأرمي بجثثكم في خليج مانيلا .. إنني متعطش لتنفيذ ذلك”، ناهيك عن قوله “المسؤولون الفاسدون يجب أن يتقاعدوا أو يموتوا”، فإن البعض الآخر كان له رأي مختلف مفاده أن البلاد في حاجة إلى رئيس قوي يجيد الضبط والربط ويحسم الأمور دون إبطاء، كي يعود للنظام والأمن هيبتهما المفقودة منذ ثلاثة عقود، بل أن هذا البعض عبر صراحة عن أن دوترتي ما كان ليهزم منافسيه الأربع في السباق الرئاسي ــ وجلهم من الشخصيات المعروفة وكبار رجال الأعمال ــ لولا تصريحاته ووعوده بالقضاء سريعا على الجريمة ومعها البطالة والفقر والفساد، أي تناغم خطابه مع تطلعات الجماهير التي كانت قد خرجت في تظاهرة ضخمة في اكتوبر 2013 بحي المال والأعمال في ماكاتي للتنديد بالفساد المحيط بالصناديق المالية للدولة.
إلى ما سبق، نقل عن الرئيس المنتخب تصريحات أخرى مثيرة للجدل، جعلت بعض وسائل الإعلام تشبهه بالمرشح الأمريكي للرئاسة “دونالد ترامب” لجهة المواقف الإنفعالية المتطرفة، وتصفه بـ”ترامب الشرق”. من هذه التصريحات شتم بابا الفاتيكان لأن زيارته إلى الفلبين في العام الماضي تسببت في إزدحام مروري منعه من الوصول إلى المطار، والتهديد بقطع العلاقات مع استراليا والولايات المتحدة بسبب تدخلهما في الشئون الداخلية لبلاده، ودعوته إلى تغيير دستور البلاد من اجل تحويل نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني، وإشارته إلى عدم إكتراثه بحقوق الإنسان حينما يتعلق الأمر بمعاقبة المجرمين والفاسدين وزعماء العصابات.
لعله من المبكر الحديث عما إذا كان دوترتي سيحقق في الفلبين ما حققه في دافاو حينما حولها من مرتع للجريمة إلى واحة للأمان. وبالمثل من الصعب التكهن عما إذا كان الرجل سيكمل مدة ولايته دون مفاجآت أو أحداث عاصفة. ذلك أن تاريخ الرئاسة في الفلبين في حقبة ما بعد ماركوس حافل بالمفاجآت التي تراوحت ما بين الانقلابات العسكرية الفاشلة المتكررة (كما حدث في عهد كورازون أكينو)، ومحاولات التمديد خلافا للدستور(كما حدث في عهد فيدل راموس)، وإعتقال الرئيس وإخراجه من السلطة بحجة عدم الأهلية (كما حدث للرئيس جوزيف ايسترادا)، ومحاكمة الرئيس بالفساد بعد انتهاء ولايته (كما حدث للرئيسة غلوريا ما كا باغال أرويو).
* أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh