موجة صغيرة، مويْجة، وسط البحر الديني ذي الامواج العاتية المتلاطمة: انها مويْجة العودة الى الماركسية، والى اللينينية. وبصيد ثمين هو الازمة الاقتصادية العالمية لرأس االمال المعولم: مداخلات ومقالات ومحاضرات إشتراكية تعيدك الى الاشتراكية او الماركسية او حتى اللينينية.
مؤخراً أصدرت الزميلة اللبنانية “الأخبار” ملفاً، خلفيته صورة لكارل ماركس، وعنوانه “الرجل الذي رأى”. وفيه مجموعة من المقالات العربية والاجنبية.
يمكن اعتبار هذا الملف رافدا من روافد المويْجة.
من قراءة الملف، يصعب ان تفهم شيئا اضافيا عن الازمة غير الذي تعرفه مسبقاً؛ من ان النظام الاقتصادي الرأسمالي له آثار مأسوية على حياة ملايين من البشر، وعلى رفاههم واستقرارهم وبيئتهم. ومع ذلك، قراءته تستحق العناء؛ ليس بسبب عباراته الاقتصادية التي تضيّع اكثر مما تنير. بل ذاك المناخ المحلق بالملف؛ تلك الرائحة القديمة من الايمانات والحلول والشعارات، والأشبه بالرزمة الواحدة الجاهزة.
في مقال عنوانه “الانهيار المالي، ازمة نظام”، يقدّر سمير امين ان عمر الرأسمالية ما زال طويلا، وانها سوف تجد الترتيبات اللازمة بغية استمرارها. وبانتظار ساعة الانهيار هذه، يطرح المهمات التالية: “إعادة اختراع تنظيمات متناسبة وكافية من العمال، تسمح ببناء وحدتهم (…) والتحرر من الفيروس الليبرالي القائم على اسطورة تمجيد الفرد (…) والتحرر من حلف شمال الاطلسي الخ”. خاتما “برنامجه” بما يشبه الشعار: “اكثر من اي وقت مضى، النضال من اجل اشتراكية القرن الحادي والعشرين، هو اليوم، على جدول الاعمال”. شعار يأتي على نفس وزن شعارات البحر الهائج… “الاسلام هو الحل”، أو”الديموقراطية هي الحل”، او “العلمانية هي الحل”. والآن “الاشتراكية هي الحل”.
ايضاً. تكرار لينين؟ نعم. بحسب مشارك آخر في الملف، سلافوي جيجاك. اذ يكتب: “ان نكرر لينين. ليس تكرار ما فعله لينين، لكن ما فشل في فعله، في الفرصة الضائعة”. هل تستشف شيئا من هذا الكلام؟ لكن لا يهم… فمن نفي التكرار يخلص الكاتب الى: “تكمن عظمة لينين في انه لم يكن يخاف من النجاح (…). عوض انتظار الوقت المناسب للنضوج، نظم لينين اضرابا استباقيا (…) وعندما وجد نفسه في موقع رئاسة حزب الطبقة العاملة دون وجود فعلي لهذه الطبقة (معظمها قتل في الحرب الاهلية)، ذهب الى تنظيم دولة”. عظمة الوعي بان السلطة حان موعد “إغتنامها”. اما اسئلة من نوع: الحرب الاهلية؟ الديكتاتورية؟ الغولاغ؟ ثم الفشل الذريع في النهاية؟ والعودة الى اكثر الرأسماليات توحشا؟ الرأسمالية المافوية… فلا مجال لها في “شجاعة النجاح”.
هل الفرصة فعلا اليوم مماثلة لكي يجوز التكرار؟ ام ان الامر هنا ايضا مجرد مويْجة، تسير في نفس اتجاه الموجة العاتية، الدينية؟
مقال عنوانه “لماذا الآن؟”؛ جوابه في نفس العنوان “نكاية باليساري التائب”. دعْ عنك الفئوية الضيقة التي تحول فعل التفكير الى فعل نكاية. فعلٌ ينمّ عن صغر العقل والولْدنة، لا عن فعل تفكير. اترك هذا الوجه جانبا والتفت الى “التائب” هذا. اليساري الذي لم يعد يساريا هو كالملحد الذي عاد الى ايمانه التقليدي. اليسارية والقومية مثل الليبرالية، عدوتهما، مسألة إيمان بإيمان. نموذج سلفي جاهز، في وجه نموذج آخر، سلفي وجاهز ايضاً. لا تنقصه غير قوة التاريخ، المنظَّمة منها والعمياء، اي “الفرصة” التي عرف لينين كيف “يقتنصها”… لا عجب من لغة زمنية معطوفة على روح زمنها. من يتذكر الآن الكتاب الاحمر لماو تسي تونغ، ترفعه الجماهير الصينية المؤمنة، لا يعجب من وصف كتب حول الحركة البديلة للعولمة بانه “إنجيلها”.
واما الباب المرجعي الداعم للملف، ففلاسفة ومفكرون غربيون مرموقون، بقوا على دينهم. “أسماء لم تستسلم”: جاك دريدا، روسانا روساندا، جورج لابيكا… وغيرهم. ثم تخصيص مقال عن مجلة “النوفيل اوبسفاتور” الفرنسية، صدر عام 2003. وعلى غلافه صورة لكارل ماركس وتساؤل: “مفكر الالفية الثالثة؟”. وما لا يُقال ولا يُصاغ، ولكنه قريب من روح مبدأ الولي الفقيه: اذا كان مفكرون من الغرب، وبهذا الحجم، ما زالوا مؤيدين لماركس… فما لنا، نحن بؤساء الفكر والفلسفة، نرفضه؟ او ننساه؟ او نتوب عنه؟ من نحن لكي نخالف آراء مفكرين غربيين؟ انها وسيلة من وسائل الحشد والتعبئة والاقناع… والمعمّمة الآن بحماس.
وبطبيعة الحال، امام وهج ازمة الرأسمالية المعاصرة، والاغراء الشديد الذي ينبثق منها عبر الاحتذاء بالنموذج النقيض… لا بد ان لا تُطرح الاسئلة الاقل جاذبية والاقل توظيفا للنكايات. اسئلة من نوع: الفائض الذي خلقته الثورات الاشتراكيتان الاعظم، الروسية والصينية، وباشراف الدولة ومؤسساتها. ودوره في حلقة الرأسمالية الجهنّمية، دوره في سحق اضعف ابناء البشر، الى أية جنسية انتموا…
يفهم المرء ان يكون اخوه مصاباً بالحنين. ان تكون له ذاكرة. ان تكون هذه الذاكرة مرتبطة بعمر الشباب، بمرحه وخفته وبراءته ومثاليته. ان يكون زمن الايمان بالاشتراكية زمنا جميلا بالنسبة له، بإيمانه بانه سوف يغيّر العالم، امس قبل الغد. لكن الحنين الى البراءة ليس بالبراءة. والذاكرة، إن استرسلت في شوقها، تصبح ذاكرة باهتة جامدة. متلذذة بتسليم عقلها. ويصعب في هذه الحالة ألاّ تكون هذه الذاكرة مقدسة وسلفية، مثل البحر الذي تهيم وسط امواجه.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحنين الاشتراكي… أو الذاكرة السلفية المقدّسة
أعجبتني تسمية المويجة لأنها عبرت بشكل دقيق صادق عن الحالة اليسارية في الوطن العربي بعد الإنهيار الإقتصادي الذي بدأ من الولايات المتحدة قلة الرأسمالية في العالم… وقد وفقت الكاتبة أيضا في تحليلها وأظنني قرأت مقالا جيدا أستفدت منه بكل ما للكلمة من معنى…