ناقد سينمائي مصري ومخضْرم يكتب عموداً شبه يومي في احدى الصحف المستقلة؛ وينتقد إدارة مهرجان القاهرة السينمائي، في دورته الاخيرة، لأنها أشركت فيلما تجاريا في مسابقاتها. مخرج الفيلم، وهو شاب له عمود اسبوعي في نفس الصحيفة ايضاً ردّ على الناقد؛ فكان الردّ تلطيخاً غير مبطّن لشرفه ونزاهته الاخلاقية. كان ذلك بلغة تشنيع وتمثيل، لم تفارقه حتى وهو يقدم «توضيحاً» في مقال ثان ردّا على ردّ الناقد. الخلافات او السجالات بين اطراف متخاصمة، او طرفَين، باتت تفتقد الى الهناء والرحمة المصريّين الغابرين. الوحشية صارت السمة لـ»سجالات» هي اغتيالات لسانية، او حتى اغتيالات جسمانية او محاولات اغتيال معنوية.
في الزمن «الجميل» الذي لا تتوقف الاقلام عن الحزن عليه… كانت الجريمة متحفظة، «معتدلة»، وربما زاهدة بالجريمة نفسها. اليوم في الزمن «البشع»، صارت الجريمة متطرفة. ذبح من الوريد الى الوريد، طعن وتمزيق وسلخ وتقطيع ورسم علامات وتمثيل… جنوح يكاد يكون عاما، نحو نوع من العنف المتفجّر، العشوائي وغير المبرمج. رجفة حرية مطلقة في وقت ضيق او زمن ضيق او مكان ضيق. كأنه ثأر من اللحظات المديدة النقيض؛ لحظات التعايش مع الصمت والمداهنة. اصل هذه الديناميكية، او ربما الديناميكيات، تحتاج الى وقفة او دراسة.
ولكن في هذه الاثناء: الجديد ايضا. الجرائم البشعة التي حصلت مؤخرا، واشهرها مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم، ومقتل ابنة المطربة المغربية ليلى غفران وغيرها من الجرائم القريبة منها «طبقيا» او «اجتماعيا» وإن كانت أقلّ منها شأنا او شهرة. هذه الجرائم تضرب المقولة القديمة السائدة حتى الآن؛ من ان الاجرام آتٍ من عالم الفقر السفلي، من الحرمان والاكتظاظ السكاني. لم يعد الفقر وحده مولّدا للجريمة. هناك الطبقات الأعلى، الأشهر والأيسر حياة من بين «المواطنين البسطاء». في وسطها وبين افرادها يقيم ضحايا ومجرمون.
كأن الجريمة بذلك صعدت. بدأت مع البؤس، ثم تسلّقت حثيثا وببطء نحو الاعلى، نحو العيش الرغيد والشهرة. من ابناء الهامش الى اصحاب الحرف ثم المهن والمهن الحرة وصولا الى نائب في الشورى وملياردير متهم، وابنة نجمة قتلت في فيلا فخمة تملكها صديقتها الطالبة ابنة المهاجر الى الكويت. الجريمة صعدت الى الطبقات الممتازة، كما صعد التديّن الشكلي والسطحي. الجميع من بين شخصيات الجريمة، الضحية كما المجرم، أدّوا العمرة ونشروا خبر الأداء. ومن بين هؤلاء، المتَّهم بالجريمة الاولى، هشام طلعت مصطفى، كان يعلن، بعدما حامتْ الشُبهات حوله، انه بصدد بناء «بيت العفاف»: شقق بأسعار زهيدة لعرسان فقراء يريدون «إكمال دينهم».
التشنيع لا يكتمل بغير التغطية الاعلامية للجرائم. منذ مقتل سوزان تميم والصحافة الخاصة لا يطلع عليها فجرٌ من غير صورة سوزان وخبر تافه او مغلوط عنها او عن اهلها او عن القاتل. خبر متناقض مع الصحيفة الاخرى. كأن التهافت على الخبر يفتح الباب امام المخيلات الخاصة. هذا التعامل مع سوزان تميم ونشر صورتها يوميا، جعلاها مشهورة؛ عكس ما كانت عليه عشية مقتلها. الحالة نفسها تماما تلاقيها المطربة المغربية والدة ضحية الجريمة الثانية. صورتها عُمّمت، وما زالت، بعيد مصرع ابنتها مباشرة.
التلفزيون هو الاقوى في نقل الصورة. وهو لم يقصّر بدوره. «توك شو» مع اهل الضحايا او محامي المتهمين مصحوبين بأهل الضحايا. وثرثرات او «اخبار» يكذبها اليوم التالي. لكن الموضوع يجذب المشاهدين، بعد القراء، الذين يكادون يتحولون شيئا فشيئا الى مشاهدين. والمشاهد مواطن «بسيط» لا يقرأ منذ زمن، ولا يثق بغير معلومة التلفزيون. وهذا الاخير لا يلتفت الى الجرائم او النكبات العادية الواقعة حوله… الا لماماً. كل تركيزه ما بين مباراة لكرة القدم وكلام عن سوزان تميم؛ والآن عن ليلى غفران وابنتها. «المواطن البسيط» يعيش ربما في عالم الهناء طالما الجرائم التي من حوله لا يتكرر تمثيلها يوميا. لا شيء يحسدون عليه هؤلاء المشاهير الاقوياء… «وما أحلى عيشة (حياة) الفلاح!»، او شيئا يشبهها، قد يهمس «المواطن البسيط» لنفسه بحثاً عن شحنة حياة.
وكما كان الاعلام مركزيا، لا يهتم بغير العاصمة ويهمل الريف والصحراء؛ ثنـــائية المركز والاطراف التقلـــيدية… وهكذا يبقى اليوم. العاصمة هي عالم المشـــاهير الاكثر ثراء وسلطة؛ العالم الشاهق بعلوّه. والريف هو عالم من هم اقل درجة او درجات. الطبقات السفلى، او المجتمع السفلي. بشاعة الجريمة منتشرة في هذا الريف، هذه الاطراف. ولكن غالبها كأنه لم يحصل. وقت القبض على هشام طلعت مصطفى، المتهم بقتل سوزان تميم، كانت جريمة الدويقة قد وقعت (سقوط صخرة عملاقة من جبل المقطم على حي بأكلمه بعد التحذير المتكرر). وانتهت بموت مواطنين لم نعرف بالضبط عددهم حتى الآن، ولا وجوههم، ولا عرفنا روايات من نجوا منها ولا مصيرهم. ماتت جريمة الدويقة وحفظ سرّها. اما جريمة الهوانم فمدعاة لتفاصيل مملّة ومغلوطة. تفاصيل الاعتياد على المآسي الباهرة بلَمَعانها… وهذه ربما احدى الديناميكيات التي تحثّ على البشاعة. لذة «البصْبصة» وبشاعة مقتل الضحايا الممتازين على أيد ممتازة.
وبعد ذلك كله… يُمنع النشر في قضية مقتل سوزان تميم، فتُخاض معركة قضائية من اجل الغاء المنع. والغرض واضح: لكن هذه قضية اخرى…
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة