المحرومون من الحرية كالمحرومين من الجنس والطعام. متلهّفون إليها، بشغف فوضوي وتهويمات مسبقة. شدة الحرمان تسْكرهم؛ وعندما يقتربون من الحرية، يرفسون ما حولهم من غير نظر. وبعواطف عمياء. عواطف ثرثارة عمياء. لا تؤججها غير القيود «الواقعية». المحرومون من الحرية، اذا نالوا قدراً منها، او اعتقدوا بأنهم نالوا… يتصرفون مثل الذين اهتدوا الى ديــن جديد. يطمعون بالمزيد. نوع من الحمّى تنتابهم. ووسط حماستهم المتدفّقة، لا ينتبهون الى مستقبل حريتهم. فيقعون في التبعية، من غير ان يعلموا.
تنطبق هذه الفكرة الى حدّ بعيد على الجماعات (امم او شعوب الخ) كما على الأفراد. حلقة مكررة: توق الى الحــرية و «تضحيـــات» من اجلها… تتفاوت بين العقوبات على أنواعها والاستشهاد. ثم من غير موعد، تتعطّل هذه الحرية وتفشل. والنتيجة: تبعية وانعدام استقلال.
والفرق بين الحرية والاستقلال لدى المحرومين من الاثنتَين؛ ان الحرية تبدأ بخرق القانون او النظام، بالتـمرّد عليهما. نظام دولة ومؤسسة او عائلة او مدرسة. تبدأ الحرية بالخرق ولا تنتهي بالضرورة في الاستقلال. الاستقلال أعلى رتبة من الحرية. انه بناء القواعــــد الجديدة لحماية هذه الحرية. مناخه مختلف عن مناخها. اكثر رشداً ومسؤولية. ها انت قضمت شيئاً مـــن القانون القائم، فنلتَ نصيباً من الحرية. كيف تستمر حراً؟ هل تستمر حراً من غير استقلال؟ الحرية مهــــددة غالباً بالوقائع التي تمرّدت عليها. وعندما تختلط وقائـــع الحرية بتلك التي خرقتها، تسود الفوضى ولا يُبنى أي استقلال. يمكن القول بأن الاستقلال هو مستقبل الحرية؛ هو مستقبل الحرية المستدامة.
القراصنة الصوماليون «أحرار» جداً بالسطو على السفن الدولية واحتجاز الرهائن والمطالبة بفديات مالية. حريتهم تتجسد في خرقهم لقوانين الملاحة الدولية. عطشهم وحماستهم لحريتهم وفي تدبر شؤون ضحاياهم يعميهم عن رؤية مستقبل حريتهم هذه. تورّطوا ورهنوا استقلالهم بحريتهم. إن عاشوا، تواروا… مختبئين في الكهوف او بثياب نساء. المثل نفسه ينطبق، مع فارق النوعية، على الزهو بحريتنا في زمن الاستقلالات الوطنية. ماذا فعلنا بهذه الحرية؟ احكمنا أعداءنا بالمزيد من القبض على مستقبلنا. قارن هذه النتائج بقصة حرية فردية انتهت الى تكبيل المستقبل.
نقطة أخرى: تكلفة الحرية. او ما هيمنَ على تعبيرنا التلقائي: «التضحيات» التي تستلزمها الحرية. تضحيات تحتمل التهجير والدمار وخراب البيوت، وحتى الاستشهاد. الحرية التي تنالها بعد الخراب، كتلك التي تنالها بعد «كفاح مسلح»، بعد عنف مسلح. عنف منقطع النظير وخراب معمّم تصعب معه حتى الحاجة الى الحرية. فالحرية التي تلي انتصارات كهذه تلغي الحرية ، ومعها، بطبيعة الحال، الاستقلال. الحرية المتحقّقة بسرعة الرصاص، هي حرية مهددة بالمزيد من الرصاص. برصاص آخر. اما ان تنال وتحمي الحرية الجديدة برصاص غيرك فهذا عين الخلط بين الأشياء. فالحرية ليست بونات غذائية او مستوصفات مجانية أو موازنات أسلحة وصواريخ، لها وقْع الحاجة الماسة. انها شغف يؤججه حرمان روحي، داخلي وأصيل. وهي تحتاج الى عقول معنية بها مباشرة، لا بالنيابة ولا بالتمثيل.
اما شعـــار «الحريـــة أو الموت»، فلا وضوح في مآله. ان تختار بين الحرية والموت يعني انك الآن كفرد تعيش او جماعـــة، لست حراً، بما انك لست ميتاً. ربط طلب الحرية بالموت يعزّ على الحياة. ويعبث مع الموت. ماذا يعني ان تكون ميتاً حراً؟ ان تبقى ذكراك ندية ومشرّفة؟ ولكن كيف تتمتع بهذه الحرية وأنت ميت؟ طالما مصير غيابك يقع بين الجنة والمطهر والنار، حيث لا حرية ولا استقلال؟ وبالمقلوب: هل انت الآن تعيش من غير حرية؟ طالما انت لست بميّت؟ ما هي اللذة الوجودية التي تنطوي عليها هكذا مطالبة بهكذا حرية؟ مجرد شعار نكرره أحياناً من دون تصوّر ترجمته على الأرض وعلى النفوس… ولكنه يمتلك صدى غريباً في العديد من الحالات. فنموت من اجل الحرية، هكذا.. من غير تدبّر ولا تصور ولا اشتغال.
اذا كانت الحرية مهددة بتوليد نقيضها، العنف والفوضى والتبعية؛ فهل هذا يُغني عن التوق الى الحرية؟ كيف ننال حريتنا من دون فقدان استقلالنا واستقرارنا وتوازننا؟ كيف ننال المزيد من الحرية من دون ان نضيع الحرية السابقة التي لم تكن تكفينا؟ او من دون ان نفقد حياتنا «شهداء» في سبيلها… وشهود وقبور مزيَّنة وعامرة؟
ليس بالمقدور الإجابة على هذه التساؤلات. والمستطاع فقط هو سعي لصياغة تصورات أخرى للحرية تستعين بمفاهيم الحرية النسبية والحرية الممكنة والحرية المفسحة للحياة تعبيراً والحرية الآتية من أعماق طبائعنا وتجاربنا.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة – 30/11/08//