لم يكن مفاجئاً الفرار الجماعي للمسيحيين من الموصل الشهر الفائت بعد عمليات قتل وتهديدات لمسلحين جابوا الأحياء المسيحية بمكبرات الصوت مطالبين السكان بالتحول للإسلام أو مغادرة المدينة أو التعرض للقتل، حتى وصل عدد العائلات المهجرة إلى 2200 عائلة. المفاجئ هو تمكن الإرهابيين من اجتياز حواجز القوات الحكومية ومتعددة الجنسيات والبشمركة المنتشرة في أحياء المدينة دون أن يوقفهم أحد.
الحكومة كان ردها إعلامياً: التشكيك بالأعداد المهجرة! وتشكيل لجنة تحقيق لكشف الجناة ولجان لتقدير الأضرار ودفع تعويضات ونصب خيم وإرسال مساعدات! وتبادل الاتهامات، فاتهمت الحكومة المتطرفين وقوى سياسية لم تحددها، واتهم الكرد جماعة القاعدة وبقايا البعث، كما أن وجهاء مسيحيين اتهموا قوى عراقية تريد ترويع المسيحيين لضمان تحالفهم في الانتخابات القادمة، أو انتقاماً من مسيرتهم المحتجة على حرمانهم من مقاعد مخصصة لهم في مجالس المحافظات.
أثار الحدث بعض الاهتمام في الوسائل الإعلامية. في السابق تم تجاهل اضطهاد المسيحيين في العراق منذ اندلاع الأحداث الدامية رغم أنهم ليسوا طرفاً في الصراع الدائر بين الأحزاب المذهبية، لم يعادوا أحداً أو ينحازوا لطرف أو شكلوا ميليشيات، كل ما طلبوه تمثيلهم في المجالس لإسماع صوتهم والدفاع عن حقوقهم. أوضاعهم الراهنة هي الأسوأ. فالبصرة تكاد تخلو من عشرات آلاف سكانها المسيحيين بجهود عصابات “جيش المهدي” الصدرية، وتكفلت “القاعدة” بالعمل لإخلاء بغداد حيث أعملت القتل في مسيحييها وفجرت كنائسها ونهبت المنازل بعد فرار سكانها إلى إقليم كردستان أو إلى خارج العراق. فمن هو المسؤول في الموصل؟
اضطهاد المسيحيين لم يبدأ مع سقوط النظام السابق. فقد دمر النظام الصدامي مئات القرى المسيحية وهجر سكانها في الشمال أثناء حملته ضد الكرد، ومنعهم من تدريس اللغة السريانية وأجبرهم على تسمية أطفالهم بأسماء عربية، وسرحهم من وظائفهم فيما عدا “طارق عزيز” الذي بقي في الصورة “العلمانية” المزعومة للنظام. وفي العهد الملكي، قام الجيش العراقي بمجزرة ضد الآشوريين في العام 1933 بعد أن أعلنت الحكومة “الجهاد ضد الكفار”، فأبيد رجال ونساء وأطفال قدر عددهم بثلاثة آلاف واغتصبت فتيات وأسرت أخريات، وأحرقت قرى وهجرت أعداد كبيرة إلى سوريا. وبعد عودة الجيش “مظفراً” أقيمت له أقواس النصر ومنح قائد الحملة بكر صدقي ترفيعاً ونفي البطريرك الآشوري مار شمعون، كل ذلك لأن آشوريين طالبوا بالحكم الذاتي.
ويحتار البعض في أسباب التمييز والاضطهاد في العراق: هل لنشر الدين باستخدام العنف، أم لعدم تمييز الأصوليين بين المواطنين المسيحيين والغرب، أم للسيطرة على ممتلكات وأراضي المهجرين، أم صراع على أصوات المسيحيين في الموصل بين الأطراف السياسية الشيعية والكردية والسنية التي تقتسم السلطة، أم ميول كردية للتوسع في محافظة نينوى؟
عومل مسيحيو الإقليم منذ تشكيله كمواطنين متساوين، فأعيد بناء قرى مسيحية مدمرة عاد إليها سكانها، ورممت ووسعت كنائس، وأقيمت مراكز ثقافية آشورية وعشرات المدارس التي تدرس جميع موادها باللغة السريانية، وبث تلفزيوني وإذاعي ومجلات وصحف وكتب بالسريانية. ويتمثل المسيحيون (السريان- الآشوريين – الكلدان) في الإقليم بثلاث وزراء وخمسة نواب من أصل 105. لا تمييز ضد المسيحيين في الإقليم، ولكننا لا يمكن أن نتجاهل ما يقوم به وجيه مسيحي، الوزير “سركيس آغا جان”، المقرب من القيادات الكردية بالعمل لحكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى وضمهم للإقليم، وقد نصت فقرة في مشروع دستور الإقليم على منح الحكم الذاتي للمسيحيين من شرق إربيل إلى شمال الموصل حيث تتركز كثافتهم السكانية داخل وخارج حدود الإقليم. لكن المشروع لقي معارضة قيادات دينية وأحزاب مسيحية. ولا يمكن حل هذا التعارض بالتهجير أو التجميع، وإنما بإجراء استفتاء في السهل حول الحكم الذاتي أولاً ثم حول الانضمام للإقليم أو البقاء ضمن محافظة نينوى ثانياً. فالقبول بالتعدد في الإقليم لا يعني وضع خطط قسرية للمكونات غير الكردية في الإقليم وخارجه تتعارض مع رغبة غالبيتها، المعلنة بطريقة ديمقراطية.
التمييز منذ زمن طويل وحتى الاضطهاد أحياناً، ليس استثناءاً عراقياً، بل صفة ملازمة لدول المنطقة العربية والدول المجاورة ذات الغالبية الإسلامية، ففي مصر حيث أكبر تجمع للمسيحيين في المنطقة، يحتاج بناء كنائس جديدة أو ترميم القديمة إلى تراخيص لا يتم الحصول عليها عادة. ويجري التمييز في مجال التوظيف والإعلام وتكاد الكتب المدرسية تتجاهل 600 عاماً من التاريخ القبطي. ويمكن أخذ فكرة عن التمثيل في المجالس المنتخبة من ترشيح الحزب الوطني الحاكم لقبطيين فقط في قائمته (من 450 مرشحاً) فيما نسبتهم في المجتمع لا تقل عن 6%. وقد جرى منذ سنوات مهاجمة كنائس ومحلات للمسيحيين من قبل جماعات إسلامية مسلحة دون أن تهتم الدولة فعلياً بحمايتهم، وفي قرى نائية أجبروا على دفع “الجزية” للمتطرفين الإسلاميين!
في ليبيا، بعد الانقلاب العسكري، صودرت جميع الكنائس وسمح بواحدة في طرابلس وأخرى في بنغازي وحولت أكبر كاتدرائية إلى جامع. أما في السعودية فلا يوجد أية كنيسة على الإطلاق رغم أن عدد المسيحيين فيها تجاوز المليون، يقيمون صلاتهم سراً في بيوتهم وإذا عثر على نسخة من الإنجيل مع أحدهم حُوِّل للمحاكمة بتهمة “التبشير”. ويحتج فقهاؤها بحديث: “لا يجتمع في أرض الجزيرة دينان”! وحتى وقت قريب كان النصارى واليهود يُلعنون في خطب الجمعة ويوصفون بأحفاد القردة والخنازير.
أما مسيحيي جنوب السودان (غير العرب) فحملوا السلاح عشرات السنين ضد الحكومة رفضاً لتطبيق الشريعة الإسلامية في مناطقهم ومحاولات تعريبهم وأسلمتهم، وكلفت الحروب مئات آلاف القتلى. وأعلنت حماس أن فلسطين وقف إسلامي، أي أنها أسلمتها من البحر إلى النهر، ويفهم من ذلك أن المسيحيين فيها مثل اليهود طارئون وليسوا سكانها الأصليين. وفي ظل التشدد الديني ألقيت قنابل حارقة على كنائس في الضفة وغزة كردّ على تصريحات البابا عن ارتباط الإسلام بالعنف. وفيما عدا لبنان، فإن جميع دول المنطقة تحدد أن دين رئيسها الإسلام، أي أن المسيحي من الدرجة الثانية فلا يمكنه التقدم لهذا المنصب. ولا يعني عدم التعرض للمسيحيين في دول أخرى أن الغالبية المتشددة تقبل بهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، فالأمن الذي ينعمون به لن يصمد فيما لو ضعفت قبضة الأنظمة المستبدة القائمة.
ويقول البعض أن المسلمين والمسيحيين سواء في حرمانهم من حقوقهم، وهذا صحيح. إلا أن المسيحيين، وجميع المذاهب والأديان والإثنيات المغايرة للدين والانتماء القومي السائدين، تتعرض لتمييز ليس سياسياً فقط بل ديني و مذهبي وإثني. ويفضل البعض الهروب من الإقرار بحقيقة أن جذر المسألة: عدم الاعتراف بالآخر المختلف وحقوقه. ويفضلون الهروب إلى نتائج المسألة: الهجرة المسيحية المشرقية المتصاعدة منذ أوائل القرن الماضي، ليدعوا بأن الهجرة شملت الجميع دون تمييز في سعيهم لحياة أفضل في بلدان أخرى. من المؤكد أن الظروف المعيشية أحد الأسباب الرئيسية بعد أن أوصلت الأنظمة الاستبدادية مجتمعاتها إلى أدنى المستويات في العالم بحيث أصبح الفرار أمنية أعداد كبيرة لمن استطاع إليها سبيلاً، لكنها ليست السبب الوحيد. فلا يمكن تجاهل الأصولية الإسلامية الصاعدة، حيث غدت قطاعات واسعة مأخوذة بالجهاد الإسلامي المسمى “مقاومة”، المعتمد على القتل العشوائي لإحداث أكبر ضجة إعلامية محلية وعالمية.
ومن أعجب الأمور أن باحثاً معروفاً، كالدكتور رضوان السيد، ادعى في مقال أن ما حدث للمسيحيين في العراق لا علاقة له بالانتشار الأصولي ويصر على أنه: “لا أثر للأصولية في تهجير المسيحيين”! ربما لم يسمع عن إلقاء الأسيد على مسيحيات غير محجبات ونهب وحرق محلات للمسيحيين بدعوى بيعها الخمور وذبح رجال دين بعد خطفهم وتعذيبهم ليقبلوا التحول للإسلام، وعن الخيارات الثلاث: دفع الجزية أو اعتناق الإسلام أو القتل. لا نفهم لماذا يبرأ “السيد” الاصوليين ويرمي المسؤولية على الاحتلال!!
المزاج العام السائد المتحول للتطرف الديني أدى لانهيار علاقات التعايش الضعيفة أصلاً بين المختلفين من أديان ومذهب وأحزاب وإثنيات مختلفة لصالح “الواحدية”، منهج الأنظمة المستبدة شبه العلمانية، ومذهب الإسلام السياسي الذي يعتبر أن الله الحاكم الوحيد وأن تطبيق شريعته لا تقبل الجدل. ولا يسعنا سوى أن نسأل: كيف يمكن للإسلام السياسي تطبيق الشريعة مع تجاهل النص الصريح: “قاتلواالذين…لا يدينون بدين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”؟ وكيف يمكن لمجتمع يتجه للتعصب الديني أن يقبل بالآخر المختلف كمساوٍ له طالما أن “فقهاءه” يرددون أن الشرع يحرم مشاركة المسيحيين أعيادهم وطعامهم أو رد سلامهم..؟ كما يحرم زواج المسلمة من المسيحي، ويأمر بقتل المسلم المتحول لدين آخر..
تشير الهجرة إلى رفض الآخر المختلف والعمل لإخضاعه أو التخلص منه. وهذا يعني أن التمييز والفرز لن يتوقف عند المسيحي حالياً كما لم يتوقف عند اليهودي سابقاً، بل سيتدهور أكثر نحو مجتمعات نقية من مذهب واحد، أي نحو الخروج من الحضارة الإنسانية إذ أن المجتمعات الأكثر تقدماً وحداثة هي الأكثر تعدداً وقبولاً بالتعدد.
المواطنة المتساوية لا يحددها أي انتماء ديني، مذهبي، إثني أو ثقافي، أما التسامح الذي يذكر في هذه المناسبة فما يعنيه أن الأكثرية السائدة في المجتمع تتسامح مع أقلية فتضمن حياتها، التسامح يعني “الذمية” التي إن كانت صالحة للعصور القديمة فهي غير صالحة في عهد المواطنة. كما لا يفيد الهروب لتفسير شائع حول أن المسيحيين المشرقيين ذوو ثقافة إسلامية، لتدوير زوايا التعدد الثقافي أو تجاهله، بدل الاعتراف به كظاهرة إيجابية مناسبة للتطور والتنافس والاقتباس المتبادل.
إذا استبعدنا المفاهيم المشوهة عن أزمة المسيحية المشرقية وأسبابها يصبح من السهل تحديد التوجهات المؤدية لقطع الطريق على الظاهرة الكارثية لهجرة المسيحيين، وهي عملية طويلة وشاقة تقع على عاتقنا إذ لا يمكننا استيرادها، وهي جزء أساسي من بناء دول حديثة ديمقراطية وعلمانية ذات مواطنين متساوين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم القومية والثقافية، المعترف بها وبحق ممارسة الاختلاف فيها، فالتعددية هي الحياة والواحدية هي السكون والموت.
ahmarw6@gmail.com
• كاتب فلسطيني من سوريا