تعتبر الأديان، ومنها الدين الإسلامي، أحد مكونات العالم القديم. فقد كان الإسلام بآياته ونصوصه وبرامجه متوافقا مع الحياة القديمة، حتى اعتبر أحد مؤسسي تلك الحياة بعدما أثّر في مختلف مسائلها وشؤونها ثم ساهم في إنشاء منظومتها السياسية والاجتماعية. فهو لم يسع فحسب ليكون شريكا رئيسيا معها، بل قامت الحياة القديمة بمد يد التعايش إليه حتى أصبح الاثنان شريكين واعتبرا شيئا واحدا. بمعنى أن الحياة في الماضي، في العالم القديم، كانت حياة دينية كاملة، والمسلمون لم يروا أنفسهم غريبين فيها، وعلاقتهم بها كانت علاقة توافقية تقوم على الشراكة والتعاون استنادا إلى الدين، أي كانوا ينشئون حياتهم وينظمونها وفق المقياس الديني. فالدين الإسلامي كان مقياس جميع الأمور في الماضي، لذلك كانت حياة المسلمين تسير بصورة طبيعية لا تعكرها شوائب أساسية، باستثناء المسائل الخلافية الطبيعية.
لكن مع تحوّل الحياة وتغيّرها ودخولنا في العصر الجديد، عصر الحداثة، ظهرت المؤشرات على وجود علاقة غريبة للمسلمين مع الحياة الجديدة في ظل استمرار النمط التاريخي للدين الإسلامي. وكيف لا تكون تلك العلاقة غريبة فيما تتغيّر الحياة وتتطوّر وتصبح حديثة، بعدما تم تحرير العقل من أسر الدين وجرى إطلاق العنان له في الحياة، في حين لايزال الإسلام يعبّر عن شكل الحياة القديمة ويعكس الطبيعة التي يهيمن التفسير القديم للدين على العقل وعلى شئون الحياة.
إن ركب التغيّر في العالم الجديد سار مع تطوّر العقل والعلم من دون أن يستند إلى الدين. بل أزاح هذا الركب من أمام طريقه جميع العراقيل المستندة إلى التاريخ بما فيها الدين التاريخي. ومن نتائج ذلك أن أصبح المسلمون متأخرين عن اللحاق بالتطوّر والتغيّر في الحياة، لاسيما التغير الفلسفي المفاهيمي لا تغيّر المظهر، أي التغيّر المتعلق بطريقة فهم مسائل الحياة وتفسيرها، في حين أن التغيّر المتعلق بالمظهر فيمكن تطبيقه على المجتمعات غير الحديثة. فالحداثة ترتبط بعالم الفكر والذهن والمفاهيم، فإذا لم تظهر رؤى جديدة في تلك العوالم فإننا لا نستطيع أن نزعم بوجود الحداثة. لذلك أصبحت الحياة جديدة بسبب ظهور رؤى جديدة في الأذهان وفي والمفاهيم.
إن الحياة تخطو خطواتها التصاعدية التغييرية من دون الاعتماد على وجهة نظر أصحاب الأديان. في حين نجد أن حياة المسلمين في الماضي كانت تسير وفق وتيرة يحدّدها الدين. لذلك، أصبح المسلمون “تائهين” في الحياة الجديدة، في حين كانوا يعتبرون أنفسهم، بالاستناد إلى الدين الإسلامي، “ركيزة” الحياة في الماضي. فنظرتهم للأمور والمسائل في العالم الجديد، وطريقة عيشهم فيه، أصبحت غريبة لاتمت بصلة طبيعية معها.
لماذا حصل ذلك؟ لأن الحياة تغيّرت ولم يعد الدين يمثل “مركز” العلاقة بينها وبين البشر، في حين لم يتغيّر المسلمون ولا يزالون يعتبرون الدين، بتفسيره التاريخي الذي يعتقد بأنه الأساس لأي علاقة بين الإنسان والحياة، “ركيزة” الحياة في الماضي والحاضر معا. فالسعي لإحداث تغيير في الفهم الديني ليتعايش مع متغيّرات الحداثة لا يزال متواضعا جدا حيث لا نرى تأثيرات ذلك على حياة المسلمين. لذلك، بدلا من إيجاد فهم ديني يمكنه أن يعيش في ظل الحياة الجديدة، نجد بأنهم يعاندون ويصرّون على أن الدين التاريخي الذي توافق مع الحياة القديمة صالح لكل زمان، وهو ما جعلهم يعيشون أزمة مع الحداثة، وجعل الدين غريبا وغير طبيعي في الحياة الجديدة. لذلك لابد من إيجاد السبل التي تساهم في تكوين علاقة جديدة بين الدين الإسلامي والحداثة، لجعل الإسلام يتعايش طبيعيا في العالم الجديد.
ولو أمعنّا في رؤى وفتاوى رجال الدين السنة والشيعة بشأن مختلف مسائل الحياة الراهنة، من سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وحتى ما يسمى منها بـ”العلمية”، سوف نجد بأنها متضاربة حول المسألة الواحدة وتصب في إطار لا ينتمي إلى العصر الجديد ولا إلى أسس الحياة الجديدة. فكيف إذن لايصبح الدين الإسلامي غريبا عن الحياة، وكيف تراهم يريدون من فئة الشباب ألاّ تبتعد عن الدين وتسفهه وتنعت نفسها بأنها لادينية أو لا أدرية أو ملحدة. بل حتى طرق تحقيق الإيمان أصبحت لا تعكس تغيّر الحياة وتطوّرها، لإصرار القائمين على الدين على استخدام وسائل تقليدية تاريخية، استبدادية فردية مطلقة، وهي وسائل لا تنسجم أو تتماشى مع طبيعة الحياة الجديدة القائمة على الحرية والتنوع حتى في مجال الاعتقاد وتحقيق الإيمان.
يجب أن نقرّ بأن التديّن لم يعد هو “كل الحياة” في العصر الجديد، مثلما كان في العصر القديم. فإذا كان الدين الإسلامي في الماضي سبيلا لتحقيق التديّن وأيضا لحل مشاكل الحياة، فإنه لم يعد كذلك الآن. إن طرق تحقيق التديّن، وقبله سبل تحقيق الاعتقاد، ليس واحدا مطلقا مرتبطا بدين واحد فحسب في الوقت الراهن، بل أصبح متعددا، وإن لم نقر بهذا التعدّد فكأننا لا نقر بأسس العيش في العصر الجديد القائمة على التنوع والإختلاف حتى في طرق الوصول إلى الاعتقاد بالله.
إن من يمعن النظر في طبيعة حياة المجتمعات العربية والمسلمة الراهنة سوف يجد تداخلا واضحا – أذكته الصورة النمطية التاريخية حول الدين – بين الديني وغير الديني. فالمواطن العربي والمسلم لا يزال لا يعرف من له الأولوية في تحديد المفاهيم الخاصة التي من شأنها أن تدبّر وتدير شئون حياته، هل هي المفاهيم المرتبطة بالعلم أم تلك التي ينتجها الخطاب الديني أم غيره؟ هل الدين يسبق المواطنة في تعريف هويته؟ هل الانتماءات الدينية الطائفية تحقق له مصالحه في الحياة؟ هل القتل على أساس الهوية الدينية والذي راح ضحيته الآلاف في العراق كان مشروعا؟ إن كل ذلك يحدث للمرء تشويشا فكريا، وذلك هو نتاجا لهيمنة الفكر الديني التاريخي على مجريات حياته، مما يجعله عاجزا عن التمييز أيهما يختار فيما بين الدين وغير الدين لإدارة شؤون حياته. فإذا اختار الدين يجد نفسه لايزال يسبح في بحر الحياة التاريخية القديمة التي تعجز عن أن تتوافق مع تغيّرات الحياة أو عن طرح حلول لمسائل الحياة الراهنة. أما إذا اختار غيره فسوف يرمى بمختلف النعوت التي تجعل حياته مهددة ومعذبة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com